تقرير المخابرات الأميركية: كورونا ومستقبل العالم القاتم لعشرين سنة

المزيج السام من قومية اللقاح ودبلوماسية اللقاح ستؤدي إلى تآكل الثقة بين الدول (Getty)
المزيج السام من قومية اللقاح ودبلوماسية اللقاح ستؤدي إلى تآكل الثقة بين الدول (Getty)


يتوق الناس بشدة إلى اليوم الذي تعود فيه الحياة إلى ما كانت عليه قبل جائحة كوفيد-19. ورغم أن مظاهر الحياة الطبيعية بدأت تلوح في بعض أجزاء العالم بفضل نجاح جهود التطعيم، قدّم تقريرٌ جديد للمخابرات الأميركية، مشهداً سوداوياً عن تأثير كورونا الشديد على البشرية، متحدثاً عن سنواتٍ عجاف ستعيشها المعمورة.


أزمات طويلة ومعقدة

"نتوقع أن تتسبب جائحة كورونا في أزمات إنسانية واقتصادية واضطرابات سياسية ومنافسة جيوسياسية على مدار العشرين عاماً المقبلة". هذا ما جاء حرفياً في التقييم السنوي للحكومة الأميركية للتهديدات العالمية، الذي صدر يوم الثلاثاء 6 نيسان، قبل جلسات الاستماع في الكونغرس، والذي يرسم مجموعة واسعة من المخاطر المحتملة التي يتوقعها مجتمع الاستخبارات الأميركي، بما في ذلك ما يتعلق بالجائحة.

وتضّمن تقرير الاستخبارات الأميركية السنوي، المعروف باسم "تقييم التهديد السنوي Annual Threat Assessment"، التحديات العالمية التي تتراوح من التوترات مع الصين إلى الدبلوماسية النووية مع إيران وصولاً إلى مخاطر التطرف العنيف المحلي. لكن الشّق الأكثر إثارة للقلق في التقرير المكوّن من 27 صفحة، والذي أعده كبار مسؤولي المخابرات الأميركية لمناقشته في جلسات الكونغرس المفتوحة والمغلقة، هو الجزء المتعلق بكيفية تشكيل جائحة الفيروس التاجي لعالمنا في السنوات المقبلة.


تداعيات خطيرة

إلى ذلك، يثير التقرير القلق بشأن التأثير المستمر للجائحة التي أودت بحياة ما يقرب من 3 ملايين شخص في جميع أنحاء العالم، محذراً من الطرق التي سيؤدي بها التعافي إلى "إرهاق الحكومات والمجتمعات".

ووفقاً للتقرير، فقد تسببت الجائحة بالفعل في تعطيل الخدمات الصحية الحيوية في مناطق معينة من العالم، كما سيؤدي استمرار حالة الطوارئ الصحية عالمياً، إلى زيادة التوترات مع تنافس البلدان على المستلزمات الطبية.

ويقول مسؤولو المخابرات أن التداعيات الاقتصادية في البلدان النامية كانت شديدة بشكل خاص، إذ بلغ انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم أعلى مستوياته منذ أكثر من عقد. وحتى عندما نصل إلى مرحلة توزيع اللقاحات على نطاق واسع عالمياً، فإن التداعيات الاقتصادية والسياسية ستظل محسوسة لسنواتٍ طوال.

وقد علّقت أفريل هاينز، مديرة المخابرات الوطنية الأميركية، في بيان ترافق مع صدور التقرير بالقول: "يجب أن يعرف الشعب الأميركي قدر المستطاع عن التهديدات التي تواجه أمتنا وما تفعله وكالات استخباراته لحمايته".


صعوبات اقتصادية وسياسية

على المدى القريب، ترى المخابرات الأميركية، أن اقتصادات البلدان المتضررة بشدة، والبلدان ذات الدخل المنخفض، ستعاني الأمريّن. أما على المدى الطويل، فسوف تتنافس القوى العظمى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة على النفوذ العالمي، ما قد يفرق بينها في وقت يحتاج فيه العالم بشدة إلى التعاون.

ويوضح التقرير هذه النقطة الخطيرة كما يأتي: "من المرجح أن تؤدي التداعيات الاقتصادية للجائحة إلى عدم الاستقرار في عددٍ من البلدان، حين سيزداد يأس الناس في مواجهة الضغوط المتشابكة التي تشمل الانكماش الاقتصادي المستمر، وفقدان الوظائف. أضف إلى ذلك، معاناة بعض البلدان النامية المتضررة بشدة من أزمات مالية وإنسانية، ما يزيد من مخاطر حدوث موجات مفاجئة من الهجرة، أو انهيار الحكومات، أو الصراعات الداخلية".

التحذيرات الصادرة عن مجتمع الاستخبارات الأميركية، الذي يضم كبار الجواسيس والمحللين في العالم، تشمل أيضاً صعوباتٍ مالية وآثار اقتصادية وسياسية للجائحة ستبقى معنا لفترةٍ طويلة من الزمن. ويتفق كبار مسؤولي المخابرات الأميركيين السابقين مع ما ورد في هذا التقرير. إذ يقول جيمس كلابر، الذي شغل منصب مدير المخابرات الوطنية الأميركية بين عاميّ 2010 إلى 2017 "إن ما يتضمنه التقرير هو الحقيقة الصعبة التي لا بد لنا أن نعترف بها. يؤسفني القول أن تداعيات كورونا إضافةً إلى آثار تغير المناخ، تجعل المستقبل غير وردي للغاية، ما لم تعمل البشرية معاً، وفي القريب العاجل".

ويمكننا القول أن ما تقدم يعكس الحقيقة المرّة، إذ تقلص الاقتصاد العالمي بين 3 و4 في المئة العام الماضي، وفقد حوالى 114 مليون شخص في العالم وظائفهم، وفق الأرقام الصادرة عن منظمة العمل الدولية لعام 2020. كما أن الأضرار التي لحقت بالولايات المتحدة كانت كبيرة جداً لدرجة أنها دفعت الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن إلى اقتراح تريليونات الدولارات من الإعانات الاقتصادية، وموافقة الكونغرس عليها، لمجرد الحفاظ على الاقتصاد الأميركي قائماً.


الأمن الغذائي والرعاية الطبية

وفوق هذا وذاك، يرى التقرير أن الملايين حول العالم لن يحصلوا على إمدادات الحياة المطلوبة على شكل إعاناتٍ من حكوماتهم، وقد تطلب الشعوب في النهاية من مسؤوليها أكثر مما تستطيع الحكومات توفيره. وهذا ما يعني بالضرورة اندلاع أزماتٍ خطيرة بدأنا بالفعل نعيش تفاصيلها، مع تدهور الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم وتضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، لا سيما أن العدد ارتفع من 135 مليوناً في عام 2019 إلى حوالى 270 مليوناً العام الماضي، كما من المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 330 مليوناً بحلول نهاية العام الحالي.

وحسب تقييم مجتمع الاستخبارات، يتمحور مصدر القلق الآخر حول أولئك الذين يحتاجون إلى رعاية طبية قد لا يحصلون عليها، بسبب تخصيص معظم الموارد لمكافحة الجائحة. وبرأيهم، ستؤدي الاضطرابات المرتبطة بكورونا والتي تشمل الخدمات الصحية الأساسية كحملات التطعيم وإيصال المساعدات والبرامج الصحية المختلفة، إلى زيادة احتمال حدوث حالات طوارئ صحية إضافية، لا سيما بين الفئات الضعيفة من السكان في البلدان منخفضة الدخل.

وأحد أبرز الأمثلة المحددة في التقرير، هي معاناة الملايين حالياً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من اضطرابات في علاجات فيروس نقص المناعة البشرية، إلى جانب تراجع حملات التطعيم ضد شلل الأطفال والحصبة في عشرات البلدان في المنطقة المذكورة آنفاً. وبذلك يجزم كاتبو التقرير أن هذا الوضع المأساوي سيستمر في المستقبل، إذ لا يتعين على فيروس كورونا أن يصيب الجميع ليهدد صحتهم.


تآكل الثقة

وعن علاقة الثقة المتآكلة بين الدول التي خلفتها الجائحة في خضم الحرب الكونية على اللقاحات، كتب مجتمع الاستخبارات الأميركية: "تكافح الدول من أجل التعاون، وفي بعض الحالات يتقوض التعاون للاستجابة للجائحة وتداعياتها الاقتصادية، خصوصاً وأن بعض الحكومات تتجه نحو الداخل وتشكك في مزايا العولمة والاعتماد المتبادل. وهكذا، نجد بعض الحكومات، مثل الصين وروسيا، تستخدم عروض الإمدادات الطبية واللقاحات لمحاولة تعزيز مكانتها الجيوسياسية".

وما ذُكر آنفاً يُعد نقطة جوهرية، فبدلاً من أن تعمل الدول سويةً لحل مشكلة عالمية خطيرة، فضّلت التنافس على النفوذ بطرقها الخاصة. لقد انخرطت الدول في ظاهرتين: "قومية اللقاح" و "دبلوماسية اللقاح". ودعونا نشرح أن الجزء المتعلق بالقومية هو عندما يعطي قادة الأمة الأولوية لشعوبهم للتطعيم، لدرجة تخزين اللقاحات، ولو على حساب بقية العالم. فيما يتمثل الجزء الدبلوماسي في مشاركة البلدان إمدادات اللقاح الخاصة بها مع الدول الأخرى بشكل أقل، بدافع النوايا الحسنة الصافية وكسب المزيد من الدعم السياسي والدبلوماسي مع الدولة المتلقية.

تستخدم العديد من الدول دبلوماسية وقومية اللقاح لتحقيق مصالحها الخاصة. ونشير في السياق، أن الصين وروسيا طورتا لقاحات خاصة يستخدمانها لتعزيز التحالفات في العالم. ومع الارتفاع السريع في عدد الإصابات بالفيروس في الهند، قررت نيودلهي تقليص صادراتها من اللقاحات للتأكد من أن لديها ما يكفي لحملة التطعيم المحلية. وبالمثل، كانت الولايات المتحدة، منخرطةً بقومية اللقاح في ظل إدارة دونالد ترامب، ورفضت المساهمة في جهود التطعيم العالمية من خلال الاحتفاظ بالجرعات للاستخدام الحصري من قبل الأميركيين. إلّا أن ذلك تغير إلى حد ما في عهد الرئيس جو بايدن، حين خصصت إدارته مليارات الدولارات لدعم حملة تطعيم تعاونية في جميع أنحاء العالم، وتعهدت بتقديم 4 ملايين جرعة إلى كندا والمكسيك.

من هنا، يقول مجتمع الاستخبارات الأميركية إن المزيج السام من "قومية اللقاح" و"دبلوماسية اللقاح"، لن يؤديا إلّا إلى مزيد من تآكل الثقة بين الدول، وسيزيد من التوترات. وهذا ما يلخصه توماس بوليكي، مدير إدارة الصحة العالمية بمجلس العلاقات الخارجية، بالقول معقباً على التقرير "هذا التقييم الرهيب بشأن جائحة كوفيد -19 يجب أن يكون إشارة أخرى للقادة السياسيين تُفيد بأن سلوك طريق عدم التعاون في مقارعة الفيروس سيأتي بالخطر على دولهم لا محالة".


توقعات تحققت

يُذكر أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية أعدّت عام 2008، دراسة نشرتها "المدن" تحمل عنوان "الاتجاهات العالمية 2025: عالم متحول"، توقعت ظهور مرض تنفسي بشري جديد شديد العدوى، من دون وجود إجراءات مضادة تكبح تحوله إلى جائحة عالمية.

وأشارت الدراسة حينذاك، إلى توترات وصراعات داخلية على الموارد وعبر الحدود، بحال ظهور مرض وبائي، متوقعةً إصابة عشرات إلى مئات الملايين من الأميركيين داخل الولايات المتحدة بالفيروس، وحدوث موجات إصابات جديدة على مستوى العالم كل بضعة أشهر.

تعليقات: