تعديل قانون «السرية المصرفية»: «إصلاحٌ» يُعزّز مصالح الفاسدين!


السرية المصرفية ورقة توت يتمسّك بها السياسيون وشركاؤهم من أصحاب الثروات. يحاربون من أجل بقائها بحجج واهية، تؤدي جميعها إلى طريق واحد: ممنوع كشف حسابات الموظفين والعاملين في الشأن العام كي لا يُفتضح أمر فسادهم. حتى لو كان المطروح هو وضع بعض الاستثناءات على السرّية المصرفية لا إلغاءها برمّتها، فإن الشعارات الفارغة تتدافع لإظهار عظمة هذه السرّية المرادفة لوجود لبنان! يتناسى هؤلاء أن تلك السرّية سقطت عملياً بالنسبة إلى كل الدول المتعاملة مع لبنان، لكنهم يصارعون لسحب حق القضاء في رفع السرّية المصرفية عن الموظفين المشكوك بهم! سنة مرّت على القانون المسخ الذي أقرّه مجلس النواب. وسنة مرّت على ردّه من قِبل رئيس الجمهورية. لكن بين القانون الذي أسقط حق القضاء بطلب رفع السرّية وبين ملاحظات الرئاسة التي تطلب إعادة هذا الحق، تضيع حقيقة أن السرّية المصرفية باقية. وهذا كفيل بحماية الفاسدين

لا يفيد الصراع بشأن حق القضاء طلب رفع السرية المصرفية بشيء، سوى في إبعاد كأس إلغاء السرية المصرفية من أساسها. المدافعون عن هذه السرية، يستعملون مصطلحات كان يمكن أن تسعفهم في القرن الماضي. لكن طرحها في هذه الأيام لا يوحي سوى أن لدى هؤلاء ما يخفونه. النقاش نفسه يتكرر كل فترة. بعد كل ما حصل ويحصل من انهيارات مالية، يغرق النواب في الصراع على هوية الجهات التي يحقّ لها طلب رفع السرية المصرفية. يتجنّب هؤلاء النقاش الفعلي، أي النقاش في مبرّر وجود السرية المصرفية التي لم يبقَ لها من وظيفة سوى حماية المتهربين من الضريبة ومنع كشف الفاسدين الذين يودعون أموالهم في المصارف. أيّ جدوى إصلاحية من التعديل المقترح لقانون السرية المصرفية أُسقط عملياً منذ نحو عام. تحديداً منذ عبثت اللجان النيابية المشتركة بالنص الذي كانت اللجنة الفرعية برئاسة إبراهيم كنعان قد أقرّته. في ذلك الحين، وافقت اللجنة على النص الذي أعدّته لجنة تقنية تضم ممثلين عن وزارة العدل ونقابة المحامين وبرنامج الأمم المتحدة الإقليمي لمكافحة الفساد والنائب السابق غسان مخيبر. ودمجت ثلاثة اقتراحات قوانين مقدمة من التيار الوطني الحر والنائبين بولا يعقوبيان وسامي الجميل والنائب ميشال ضاهر (أضيف إليها لاحقاً اقتراح مقدّم من النائب جميل السيد، ثم مشروع قانون من الحكومة). الاقتراح الأبعد مدى كان إلغاء السرية بالمطلق، لكنه لم يصمد في وجه حزب المصرف الذي لا يزال يكرر خرافة أن «السرية المصرفية هي لبنان».

بعد سقوط اقتراح إلغاء السرية المصرفية بشكل كامل المقدم من ضاهر، انتقلت اللجنة إلى البحث عن صيغة دامجة للاقتراحات المقدمة. وبالفعل، توصلت إلى صيغة مجتزأة، لكنها وصفت بالخطوة المتقدمة، تنص على إلغاء السرية المصرفية عن أي شخص يؤدي وظيفة عامة أو خدمة عامة، سواء كان منتخباً أم معيناً، بما في ذلك أي منصب من مناصب السلطات الدستورية أو أي منصب تشريعي أو قضائي أو تنفيذي أو إداري أو عسكري أو مالي أو أمني أو استشاري، إضافة إلى رؤساء الأحزاب وأصحاب وسائل الإعلام.

وبخلاف ما تم تسويقه عن أن رفع السرية المصرفية يؤدي إلى استغلال البعض لهذه السرية في سياق أعمال غير مشروعة مثل الابتزاز والانتقام... فقد كان الاقتراح واضحاً في المحافظة على السرية المهنية، من خلال فرض عقوبات قاسية على المصارف أو المؤسسات المالية ومديريها وكل من له صفة تقريرية فيها في حال أعطوا أي معلومات مالية تتعلق بالأشخاص المرفوعة عنهم السرية، إلا بناء لطلب الجهات المخوّلة، أي: القضاء في إطار استقصاء أو ملاحقة أو تحقيق أو محاكمة، هيئة التحقيق الخاصة في إطار مكافحة عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في إطار الصلاحيات المحددة في قانون إنشائها، وزارة المالية في إطار إجراءات التدقيق والتحقق الضريبية، هيئة الإشراف على الانتخابات في إطار مراقبتها الإنفاق الانتخابي، المجلس الأعلى للجمارك ومدير الجمارك في إطار إجراءات مكافحة التهرب الجمركي.

هذا النص عندما وصل إلى اللجان المشتركة، سريعاً أُفرغ من مضمونه. أولاً تم إلغاء عبارة «تلغى أحكام السرية المصرفية» لأي شخص يؤدي خدمة عامة مهما كانت صفته، واستُعيض عنها بنصّ يكرس مبدأ السرية المصرفية ويضع الاستثناء عليها: يجوز للجهات المحددة في الفقرة الثالثة من هذا القانون الاستحصال على المعلومات المصرفية المشمولة بالسرية المصرفية عن الموظفين العموميين ورؤساء الأحزاب التي تتعاطى نشاطاً سياسياً. لكن الأهم أنه بدلاً من ٦ جهات كان يحق لها طلب رفع السرية بحسب الصيغة الدامجة، وصل الاقتراح النهائي إلى الهيئة العامة، مقتصراً على ثلاث جهات: هيئة التحقيق الخاصة (يحق لها حالياً رفع السرية) وهيئة مكافحة الفساد (لم تشكّل بعد، لكن ينص قانونها على حقها في طلب رفع السرية المصرفية)، والقضاء الذي يمكنه حالياً، لكن بشكل محدود، طلب رفع السرية المصرفية على حسابات معينة، على أن تبتّ هيئة التحقيق الخاصة بالطلب. للتذكير، كان المدعي العام التمييزي غسان عويدات قد طلب من هيئة التحقيق الخاصة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان، لائحة بأسماء الذين حوّلوا أموالهم بعد ١٧ تشرين ٢٠١٩، لكن طلبه رُفض.

تُظهر هذه الصيغة المجتزأة أن اللجان المشتركة «قامت بالواجب»، لناحية إفراغ الاقتراح من مضمونه. لكن مع ذلك لم تكتفِ الهيئة العامة بذلك، فعمدت إلى القضاء عليه نهائياً من خلال التصويت على إلغاء حق القضاء بطلب رفع السرية، ما يُبقي عملياً هذا الحق محصوراً بيد هيئة التحقيق الخاصة (في ظل عدم تشكيل هيئة مكافحة الفساد). «المستقبل» و«الاشتراكي» و«أمل» تولّوا حينها المعركة لإبعاد القضاء، تحت ذريعة الخوف من الكيدية وضرورة إقرار قانون استقلالية القضاء قبل هذا القانون. وكان أبرز المدافعين عن هذا التوجّه النواب وائل أبو فاعور وهادي حبيش وأنور الخليل.

رفض رئيس الجمهورية هذا التعديل. وفي ١٩ حزيران ٢٠٢٠، ردّ القانون الذي أُقرّ في ٢٨ أيار ٢٠٢٠ إلى المجلس، معتبراً أنه لا يجوز استبعاد القضاء عن حق طلب المعلومات المصرفية، انطلاقاً من أنه السلطة الضامنة للمتقاضين وحقوقهم وحرياتهم، كما حقوق المجتمع عليهم. ولذلك، رأى في كتاب الرد أنه لا بد من إعطاء النيابات العامة صلاحية طلب المعلومات المالية المتعلقة بمختلف أنواع الجرائم، لا سيما أن ثمة جرائم لا تدخل في اختصاص هيئتي مكافحة الفساد والتحقيق الخاصة، خاصة أن القانون نفسه ألزم المصارف تقديم المعلومات المالية المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية للهيئتين المذكورتين من دون أن يكون لهما صلاحية في ذلك.

نام الطلب في أدراج المجلس ما يقارب السنة، لأسباب عديدة منها المماطلة وانفجار المرفأ والإغلاق العام... والأسبوع الماضي طُرح القانون على لجنة المال. نقاش طويل شهدته الجلسة. حزب المصارف أعاد التصويب على القضاء من بوابة فساده وتبعيته. الجوقة نفسها كررت موقفها. حبيش يتحسّس من نموذج القاضية غادة عون، التي رفعت عليه دعوى لاعتدائه عليها في مكتبها، لكنه يرحّب بنموذج المحكمة العسكرية التي أصدرت حكماًَ مخزياً بحق زوجة أخيه التي لفّقت تهمة التعامل للفنان زياد عيتاني.

المسألة لم تُحسم في الجلسة تلك. لجنة فرعية جديدة شُكّلت من النواب جورج عقيص وهادي حبيش وسليم عون، مهمتها إعادة صياغة النص. رئيس اللجنة ابراهيم كنعان طمأن إلى أن تشكيل اللجنة سبقه تأكيد من النواب على عدم إلغاء دور القضاء، مشيراً، في هذا السياق، إلى «نقاش جدي وعلمي وغير مسيّس». أضاف: اللجنة ستعود إلينا خلال أسبوع لبتّه نهائياً، بما يؤكّد رفع السرية المصرفية ودور القضاء من دون أي تشابك بالآراء أو أي تسييس، بشفافية مطلقة في ضوء سعي العالم إلى أكبر قدر من الشفافية».

بعد عام من الانتظار، أقسى ما يمكن تحقيقه هو إعطاء الحق للقضاء لطلب رفع السرية المصرفية عن العاملين في الشأن العام. هذا «إنجاز» لن يغيّر في المشهد الذي لا يزال يعتبر أن «إلغاء السرية المصرفية هو إساءة لمصلحة البلد العليا الاقتصادية والمالية والنقدية». الأكيد أن من ينادي بذلك ليس ساذجاً ولا يعيش على أمجاد إنجازات السرية المصرفية، بل هو يتمسك بها لأنها لا تزال تحمي طبقة السارقين.


استمرار السريّة المصرفيّة… استمرارٌ للتهرّب الضريبي!

عندما أقر قانون السرية المصرفية في 3 أيلول 1956، فُتحت خزائن المصارف أمام الأموال والرساميل الهاربة من بلدانها، فكان أن تكوّنت سيولة ضخمة، أُضيفت إليها تحويلات اللبنانيين وغيرهم مدفوعين بالفوائد العالية التي تقدمها المصارف.

اليوم، تغيرت الأمور تماماً. عنصر الجذب تعطّل. النظام الضريبي العالمي الذي انضم لبنان إليه أفرغ هذه الميزة من مضمونها. الثروات الأجنبية المخبأة في المصارف، صارت مكشوفة بحكم دخول لبنان في مجموعة من المعاهدات التي فرضت عليه إقرار قانون تبادل المعلومات الضريبية. هذا أدى إلى الواقع التالي: لا يمانع لبنان الرسمي إلغاء السرية المصرفية أمام الإدارات الضريبية الأجنبية، وعلى رأسها الأميركية، لكنه يقاتل لحمايتها عندما يتصل الأمر بالإدارة الضريبية اللبنانية أو حتى بالقضاء! لماذا؟ ألا يعني ذلك أن ثمة ما تريد السلطة إخفاءه؟

للتذكير، فإن القانون، إن كان في نسخته الأولى أو الأخيرة لا يطال كل الناس ولا يؤثّر على المودعين الخارجيين، كما يحاول البعض الإشارة في معرض اعتباره أن القانون سيجعل هؤلاء يحجمون عن إيداع أموالهم في لبنان. القانون يطال بأحكامه الموظفين العموميين أو المتعاملين مع الدولة، إضافة إلى الشخصيات المعرضة سياسياً، أي المستفيدون من المال العام.

حائط الصدّ الذي وُضع في وجه القانون هو نفسه الذي وُضع أمام التدقيق الجنائي. اللاعبون هم أنفسهم. يخافون من التدقيق الجنائي ويتمسّكون بالسرية المصرفية، ثم يوحون بأنهم يحاربون الفساد وينكبّون على إقرار القوانين الإصلاحية!

تعليقات: