الهروب من قرار خفض الدعم خوفاً من الانفجار

رغم خطورة التعرض للاحتياطات الإلزامية، لا مؤشر إلى بقائها خارج عملية تمويل الدعم والاستيراد
رغم خطورة التعرض للاحتياطات الإلزامية، لا مؤشر إلى بقائها خارج عملية تمويل الدعم والاستيراد


منذ أكثر من عام يردّد المسؤولون الأسطوانة نفسها على مسامع اللبنانيين... أسطوانة شح احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية وضرورة ترشيد الدعم أو حتى وقفه. يتقاذفون بأرقام لا مستندات تؤكدها ولا بيانات تنفيها. أرقام متناقضة في كثير من الأحيان، فيما واقع الحال أن لا مسؤولين حقيقيين تمكنوا من اتخاذ قرار علمي جريء حتى اللحظة... فالدعم لا يزال مستمراً بلا توجيه إلى غير مستحقيه، والتهريب بزخمه المعتاد ودولارات المودعين في مصرف لبنان تحت مسمى الاحتياطات، لا تزال تُستنزف يومياً.


حجم الإحتياطي

وخرج وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني عن صمته حيال استنزاف ما تبقى من دولارات، وأكد أمس في حديث إلى "رويترز" أن احتياطات النقد الأجنبي تبلغ نحو 15.8 مليار دولار. وذلك يعني أن الدعم باقٍ لشهرين على أفضل تقدير قبل بلوغ مستوى الاحتياطي الإلزامي المودع من قبل المصارف في مصرف لبنان، والمقدّر بحسب وزني بنحو 15 مليار دولار. وحذر وزني من أنه في حالة استمرار استنزاف احتياطات المصرف المركزي من العملات الأجنبية في المستقبل، فسيمس في النهاية بما تبقى من أموال المودعين.

ليست المرة الأولى التي يحذر فيها وزير المال من انخفاض الاحتياطات الدولارية ويدعو إلى خفض الدعم. ففي شهر آذار الفائت جزم وزني أنه لم يعد بإمكان لبنان الاستمرار بوتيرة الدعم نفسها. فلبنان يتكبد على الدعم حالياً نحو 500 مليون دولار في الشهر، أي قرابة 6 مليار دولار في السنة، وهذا أمر لم يعد متاحاً. وهو ما شدّد عليه حاكم مصرف لبنان أكثر من مرة، وأيده بذلك سياسيون ومسؤوليون. وإذا كان الجميع ينادي بخفض الدعم وخطورة استمراره، والجميع يدعو إلى توجيه الدعم لمستحقيه، فمن الذي يعرقل اتخاذ القرار؟ وهل فعلاً يشعر المسؤولون بخطورة المس بالاحتياطات الإلزامية أو ما تبقى من أموال المودعين؟


لا رجالات دولة

السبب الوحيد الذي ساهم ويساهم باستمرار عملية الدعم بشكلها الحالي، هو انعدام المسؤولية لدى أصحاب القرار. فحكومة تصريف الأعمال تتهرب من اتخاذ قرار ترشيد الدعم وخفضه أو توجيهه إلى مستحقيه، باعتبار أن هذا القرار سيكون مصيرياً، في حين أن الحكومة المقبلة تتخوف من الأمر نفسه. فالجميع يراهن على الوقت والثابت الوحيد حالياً، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة، هو أنه يُمنع منعاً باتاً المس بالاحتياطي الإلزامي. وهو ما شددت عليه جميعة المصارف مؤخراً. ما يعني أن الأموال المتبقية للتصرف بها للدعم ليست كبيرة، فالوقت ينفذ والجميع يتهرب من اتخاذ القرار لعدم تحمل التكلفة السياسية.

ويقول حبيقة صراحة: "نحن لم يعد لدينا رجالات دولة بالمعنى الحقيقي، ولا أحد لديه القدرة على اتخاذ قرارات علمية مهما كانت قاسية"، فالمطلوب ترشيد الدعم وليس وقفه وما يحصل اليوم هو تلاعب بمصير المواطنين.


لا يمكن الاستمرار

ويلتقي الخبير الاقتصادي نقولا شيخاني مع حبيقة على أنه لا يمكننا الاستمرار بهذا الشكل من الدعم. فالبلد يُستنزف شهرياً بما يتراوح بين 500 و600 مليون دولار نقدي، على دعم غير موجه. والسبب هو أن المسؤولين عن اتخاذ القرارات يهربون إلى الأمام ويماطلون بعملية ترشيد الدعم تجنباً لانفجار الشارع. فهم يقومون بإطعام الشعب منتجات مدعومة من أموال الشعب نفسه. وملف الكهرباء بحسب شيخاني، لا ينفصل عن هذه السياسة. فالتصويت على سلفة الـ200 مليون دولار، رغم مخالفتها للقانون والدستور، تمت لإسكات الناس فقط. ومن المتوقع الاستمرار بسياسة المماطلة والهروب. حتى قرار البطاقة التمويلية لم يتخذ بعد ولم تجرؤ السلطة السياسية على اتخاذه حتى اللحظة، على الرغم من أن إعادة ترشيد الدعم باتت اليوم ضرورة ملحّة لوقف استنزاف الدولارات من البنك المركزي.

ويعلّق شيخاني في حديثه إلى "المدن" على مسألة أرقام الاحتياطات الإلزامية، فيوضح أن الاحتياطي الإلزامي هو 15 في المئة من الودائع الدولارية الإجمالية، والتي بلغت مع بداية العام 114 مليار دولار قبل أن تتراجع مؤخراً لعدة أسباب إلى نحو 112 مليار. أي أن الاحتياطي الإلزامي 16.8 مليار دولار. أما اليوم فالوزير وزني يتحدث عن احتياطات بنحو 15.8 مليار دولار، منها احتياطات إلزامية بقيمة 15 مليار دولار. ما يعني أن الودائع الإجمالية قد تراجعت من جديد. لكن في مطلق الأحوال، سواء تحدثنا عن الاحتياطات أو الاحتياطات الإلزامية، فإننا نتحدث بالحالتين عن أموال المودعين، يوضح شيخاني.

وليس تصريح وزني مؤخراً حول تحدي رفع الدعم واحتمال حدوث "ردة فعل قاسية" سوى تأكيد على تهرّب السلطة السياسية عن اتخاذ القرار الحاسم. من هنا يرى وزني أنه على الرغم من صعوبة القرار اجتماعياً، لكنه يبقى ضرورة ويفترض عدم إضاعة الوقت في اتخاذه.

يُذكر أن خطة الدعم المقترحة تقضي بتقليص قائمة المواد الغذائية المدعومة من 300 سلعة إلى 100، وخفض دعم المحروقات والأدوية، مع استحداث بطاقات تمويلية لنحو 800 ألف أسرة فقيرة، ما يساهم بتخفيض الإنفاق السنوي على الدعم البالغ 6 مليارات دولار إلى حدود النصف.


خفض الاحتياطات!

على الرغم من كل التحذيرات من خطورة التعرض للاحتياطات الإلزامية، لم يصدر أي موقف أو مؤشر تطميني على أن تلك الاحتياطات ما زالت بمنأى عن عملية تمويل الدعم والاستيراد. وثمة من يقترح في كواليس المصرف المركزي ومجلس النواب إقرار خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 15 في المئة إلى 12 أو 10 في المئة، إلى جانب ترشيد الإنفاق على الدعم. وهو ما دفع بجمعية المصارف إلى تحذير حاكم مصرف لبنان من المس بأموال الاحتياطات الإلزامية، باعتبارها إيداعات ذات تخصيص محدّد، لا يمكن استعمالها سوى للغاية المعدة لها حصراً. أي لا يمكن تحويلها لأي سبب من الأسباب إلى دعم منتجات مستوردة من الخارج.

الكاتبة والمحللة الإقتصادية عزة الحاج حسن
الكاتبة والمحللة الإقتصادية عزة الحاج حسن


تعليقات: