الجمهورية المنهارة: أرقام مفزعة لأخطر أزمة أمن غذائي

أرقام كارثية لا تُقارن إلا بالدول التي شهدت أزمات اجتماعيّة تاريخيّة (الصورة: توزيع طعام في بيروت، Getty)
أرقام كارثية لا تُقارن إلا بالدول التي شهدت أزمات اجتماعيّة تاريخيّة (الصورة: توزيع طعام في بيروت، Getty)


أزمة كورونا وضعت الفئات الأكثر هشاشة في جميع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت وطأة ارتفاع أسعار الغذاء، نتيجة الضغط على الموارد الغذائيّة وسلاسل الإنتاج وشحّها. وهو ما ظهر بوضوح في تقرير البنك الدولي الأخير بعنوان "مرصد أزمة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". لكنّ في الحالة اللبنانيّة، تزامنت هذه الأزمة العابرة للدول مع أزمة شح الدولار وارتفاع سعر الصرف. وهو ما بات يضع البلاد أمام أخطر أزمة أمن غذائي يمكن أن نشهدها، وفقاً لما تعكسه أرقام التقرير نفسه بالنسبة إلى لبنان. وفي الخلاصة، يتبيّن أن لبنان حل في طليعة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من ناحية ارتفاع أسعار السلع الغذائيّة، بكافّة أصنافها وأنواعها. ما يعكس فشلاً ذريعاً لجميع سياسات الدعم الحكومي التي يتم الحديث عنها. كما تشير الأرقام إلى أن جزءاً أساسياً من المشكلة لم يعد يتعلّق بسعر الصرف فقط، بل بات يرتبط أيضاً بأعمال احتكاريّة، ترفع أسعار المواد الغذائيّة في ظل شحّها في الأسواق.


هكذا ارتفعت أسعار السلع

سعر الأرز، الذي انخفض بنسب كبيرة في كل من مصر والعراق وليبيا وعمان، نتيجة الفائض المعروض منه في الأسواق، ارتفع في الحالة اللبنانيّة بنسبة 99.4% بين منتصف شباط 2020 والأسبوع الأول من شهر آذار 2021. مع العلم أن الأرز يُعد حاليّاً من السلع المدعومة، التي يُفترض أن تخضع منذ السنة الماضية للتسعير وفقاً لسعر صرف المنصّة، فيما تدل إحصاءات البنك الدولي إلى أن سعر هذه المادّة تضاعف بين الفترتين. أما السلع التي شهدت أقصى ارتفاع في الأسعار خلال هذه الفترة، فكانت اللحوم التي ارتفعت أسعارها بنسبة 109.9%، والبيض بنسبة 102.1%، والموز بنسبة 93.9%، فيما ارتفعت أسعار البندورة بنسبة 88.8% والبصل بنسبة 76% البطاطا بنسبة 71.4%. ومن بين جميع السلع التي رصد التقرير ارتفاع أسعارها، لم يشهد سوى الخبز ارتفاعاً محدوداً بين السلع، إذ بلغت نسبة الارتفاع نحو 11.3% فقط.

عمليّاً، تدل كل هذه الأرقام إلى مشكلة كبيرة في ما يخص سياسات الدعم التي تم اعتمادها طوال الفترة الماضيّة، باستثناء حالة دعم إنتاج الخبز، الذي لم يتأثّر سعره كثيراً لغاية صدور التقرير (مع العلم أن زيادات لاحقة طرأت على سعره بعد تاريخ صدور التقرير). فمعظم السلع التي شهدت ارتفاعات كبيرة في سعرها وفقاً للمسح، هي عمليّاً سلع يخضع استيرادها لدعم المصرف المركزي، أو تخضع زراعتها محلياً للدعم، من ناحية أسعار المحروقات والمواد الأوليّة. فمن جهة، تشير هذه الأرقام أيضاً إلى صحّة كل ما يقال حالياً عن خضوع عمليّة تخزين وبيع المواد المدعومة لممارسات احتكاريّة، تقوم على حجب هذه المواد عن الأسواق، في مقابل بيعها لاحقاً للمحال من خلال السوق السوداء. ومن جهة أخرى، الأرقام تعكس كذلك التقنين الذي يمارسه المصرف المركزي، من ناحية تقديم الدعم اللازم لاستيراد السلع المدعومة، أو استيراد المواد الأوليّة اللازمة لزراعتها أو انتاجها.


نسب الفقر إلى ازدياد كارثي

لم يقتصر المسح الذي قدمه التقرير على قياس نسبة ارتفاع الأسعار، بل شمل كذلك الارتفاع الناتج عن الأزمة في معدلات الفقر في الدول المشمولة في الدراسة. ومرة جديدة، حلّ لبنان في طليعة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من ناحية الارتفاع المتوقع في نسب الفقر. إذ قدّر التقرير هذه الزيادة بالنسبة للبنان بنحو 205%، ما يعني تضاعف عدد القابعين تحت خط الفقر بحدود الثلاث مرّات. علماً أن الجزائر وتونس حلّتا بعد لبنان مباشرةً على القائمة نفسها، بنسب زيادة قدّرها المسح بنحو 25.54% و25.36% على التوالي.

وحسب التقرير، من المتوقّع أن تصيب لعنة الانحدار إلى ما دون خط الفقر بالدرجة الأولى العمالة السريحة وغير المنظمة، أي الفئات التي تعتمد على الدخل اليومي للعيش من دون أجر ثابت أو شبكات حماية اجتماعيّة. كما من المتوقّع أن تصيب هذه اللعنة الفئات الأكثر هشاشة في جميع الدول المشمولة بالمسح، وتحديداً اللاجئين والعمال الأجانب، الذين يتمتعون تقليدياً بضمانات اجتماعيّة أقل من المتوسّط. أما العامل الثالث الذي سيحدد طبيعة الفئات التي سيصيبها الانهيار، فهو طبيعة القطاعات التي يعمل فيها الأفراد. إذ من المتوقع أن تصيب البطالة والانخفاض في الدخل العاملين في قطاعات السياحة وتجارة التجزئة بالدرجة الأولى، وتحديداً في الدول التي تضررت فيها هذه القطاعات بشكل كبير كلبنان ومصر وتونس والمغرب.


الأمن الغذائي في خطر

كل هذه المؤشرات التي عرضها التقرير تقود نحو استنتاج كبير: الأمن الغذائي في لبنان في خطر، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار ما سيقبل على البلاد من تطورات على مستوى أسعار السوق، بعد رفع الدعم تدريجيّاً عن السلع الغذائيّة والمحروقات. مع العلم أن رفع الدعم عن المحروقات لن يؤدّي إلى رفع أسعار مشتقاتها وحسب، بل سيرفع كذلك من أسعار المواد الغذائيّة التي تدخل كلفة المحروقات في عمليّة زراعتها أو انتاجها وشحنها. ومع تهديد الأمن الغذائي، أي قدرة المقيمين على تأمين أبسط مقومات العيش من ناحية المواد الغذائيّة، تصبح البلاد على أعتاب انفجار اجتماعي شامل غير قابل للاستيعاب.

الإسكوا تقدّر أن الأسر اللبنانيّة الأكثر عرضة لمخاطر الفقر باتت تنفق أكثر من 85% من إجمالي مداخيلها على تأمين المواد الغذائيّة، ما يترك أقل من 15% من الدخل للنقل والطبابة والتعليم وسائر متطلبات العيش. ومع الارتفاع الجنوني المستمر في السلع، فمن المتوقّع أن تصل هذه الأسر قريباً إلى مرحلة العجز عن تأمين المواد الغذائيّة نفسها، خصوصاً إذا لم يتم ضبط وتيرة الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار في الأسواق. ولهذا السبب، تقدّر الأسكوا نسبة المعرضين إلى فقدان القدرة على الوصول إلى الاحتياجات الغذائيّة الأساسيّة في نهاية العام الماضي بنحو 50% من اللبنانيين، وهي نسبة كارثيّة لا تُقارن إلا بالدول التي شهدت أزمات اجتماعيّة تاريخيّة.


أسباب أخرى لشح الغذاء

المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي لن تقتصر في المرحلة المقبلة على غلاء الأسعار، قياساً بحجم مداخيل المقيمين في لبنان. فشح الدولار وتراجع الطلب، دفع عدداً كبيراً من المستوردين إلى الإحجام عن استيراد أصناف عديدة من المنتجات الغذائيّة، فيما أدّى تهريب السلع المدعومة إلى الخارج إلى فقدان أصناف أخرى منها. ولعلّ أزمات الحليب وبعض أنواع الزيت مجرّد نماذج عن هذا النوع من الأزمات، التي يمكن أن تؤدي أن غياب أصناف كاملة من المواد الغذائيّة عن رفوف المحال التجاريّة. مع العلم أن الإفلاسات التي بدأت تصيب تدريجيّاً عدداً كبيراً من تجار الجملة والمزارعين، بدأت تؤثّر أيضاً على سلاسل الإنتاج، وقدرة الأسواق على تأمين بعض أصناف الغذاء.

في الخلاصة، أمام البلاد فترة محدودة جدّاً لتدارك الأزمة النقديّة، التي بدأت تلقي بظلالها على الأمن الاجتماعي لجميع المقيمين في لبنان، مع تحوّل أزمة سعر الصرف إلى أزمة تضخّم مفرط يهدد جميع أوجه الحياة في لبنان. وبما أن معالجة الأزمة النقديّة مستحيلة من دون معالجة الجوانب المتعلّقة بأزمة القطاع المالي والدين العام وميزانيّة الدولة، فأي حل مستحيل في المدى المنظور، قبل وجود سلطة تنفيذيّة مكتملة الصلاحيّات، وقادرة على صياغة خطة إنقاذ شاملة. كل ذلك ينتظر اليوم انتهاء التجاذب العبثي على الحصص في الجمهوريّة المنهارة.

تعليقات: