حين يصيب الفساد رأس الهرم

ليست الصدفة وحدها هي التي تقف وراء الفضيحة التي أدت الى استقالة بول ولفوفيتز من وظيفته على رأس البنك الدولي، والذي كان يعتبر رأس المؤسسات الاقتصادية المعنية بمكافحة الفساد كشرط رئيسي من شروط النهوض الاقتصادي والاجتماعي في العديد من دول العالم.

فولفوفيتز الذي نجا من قذائف المقاومة العراقية في فندق الرشيد في بغداد قبل ثلاثة أعوام تقريبا، لم ينج، وزملاءه من المحافظين الجدد، من سهام الفشل الذريع الذي أصاب مغامرتهم الدموية الرهيبة في العراق، فاضطر الى مغادرة موقعه على رأس آلة الحرب الاميركية في العالم ليصبح رئيسا لاحدى ابرز ادوات الهيمنة الاميركية على العالم بواسطة الاقتصاد، في محاكاة غير موفقة لمسيرة سلفه في رئاسة البنك وزير الدفاع الاميركي الاسبق روبرت مكانمارا الذي جاء به الرئيس كنيدي في اوائل الستينات ولم يتحمله الرئيس جونسون الذي بات رئيسا اثر اغتيال كنيدي وغرق في حرب فيتنام.

ان هذا الانتقال المتكرر يشير بوضوح الى تداخل الاميركي بالدولي، الاقتصادي بالعسكري، والاجتماعي بالعقائدي، حتى بتنا في زمن اصبح فيه المجتمع الدولي ومؤسساته مجرد واجهة لتنفيذ قرارات البيت الابيض السياسية والعسكرية، الامنية والقضائية، الاقتصادية والمالية بدلا من ان يشكل هذا المجتمع ومؤسساته عنصر توازن وترشيد في العلاقات الدولية وأداة لجم للعدوانية الاميركية التي ازدادت شراهة وشراسة مع مطلع القرن الحادي والعشرين الذي اراده «المحافظون الجدد» وحلفاؤهم قرنا اميركيا بامتياز.

ان انتقال رجل «فاسد ومفسد» كولفوفيتز من قيادة العمليات الحربية الاميركية الى قيادة العمليات الاقتصادية الدولية يسمح لنا ان نتساءل بمرارة: هل الفساد اليوم هو ظاهرة فردية، ام انه ظاهرة عالمية؟ هل هو انحراف اخلاقي يصيب بعض الاشخاص أم منظومة دولية تشكل احد ركائز النظام الامبراطوري الاحتكاري الاميركي الذي تحاول ادارة بوش فرضه على العالم برمته.

لو كان ولفوفيتز وحده هو «الفاسد» في الادارة الاميركية لجاز القول ان سنونو واحدا لا تصنع ربيعا، ولكن ان تكون «فضيحة» رئيس البنك الدولي تتويجا لسلسلة فضائح تحاصر هذه الادارة وأركانها منذ سنوات فإن الامر يكشف عن خلل بنيوي في ادارة تطمح لأن تحكم العالم فيما سيرتها مليئة بكل انواع التجاوز على القانون الاميركي والدولي في آن معا.

فمن فضيحة هاليبرتون الشهيرة في صفقات متصلة بالحرب على العراق، وهي الشركة التي كان يرأس ادارتها نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني، الى فضيحة المستشفى العسكري الاشهر في الولايات المتحدة واستقالة وزير الصحة، الى فضيحة شركة شيفرون لتدقيق الحسابات الى فضيحة تسرب اسم عميلة المخابرات المركزية الاميركية فاليري بالم على خلفية الانتقام من زوجها السفير جوزف نيلسون الذي لم يتعاون في «توضيب» اكاذيب اسلحة الدمار الشامل في العراق (وهي ام الفضائح في ادارة بوش والتي تقطر اليوم دما في العراق) الى فضيحة الشذوذ الجنسي التي أدت الى استقالة نائب فلوريدا مارك فولي القريب من بوش و«الواعظ» الدائم بالعفة والقيم الخلقية، الى العديد من الفضائح بما فيها فضائح المليارات العشرة التي اختفت مع بريمر في العراق، وفضائح اختفاء المليارات الاخرى التي اختفت ايضا من صندوق النفط مقابل الغذاء الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، والتي يتضمنها ملف كبير تعده الاغلبية الديموقراطية لمحاسبة الرئيس الاميركي في الوقت المناسب، نستطيع ان نرى حجم تورط القيادة المثقلة بحمل رسائل «الهية» الى العالم والتي بات الفساد في الادارة، والفشل في السياسة أبرز عناوينها.

وفي تل ابيب، الامتداد الاستراتيجي والاخلاقي لادارة واشنطن، نرى ايضا سيل الفضائح المتصلة بالفساد والتحرش الجنسي يحرق كبار المسؤولين من رئيس الدولة كاتساف الى وزير العدل الى رئيس الاركان الى قائد الشرطة وأركان قيادته الى رئيس الحكومة الحالي أولمرت، والسابق شارون، نستطيع ان نرى ان الفساد هو اكثر من ظواهر فردية بل هو منظومة متكاملة تشمل الادارة والجيش والقضاء والامن على حد سواء بل تتصل بقيم صهيونية رافقت تأسيس الكيان ذاته وانزلق فيها آباء مؤسسون كإسحاق رابين وسارق الآثار موشيه دايان.

وتتعاظم خطورة منظومة الفساد هذه إذا جال نظرنا في العديد من عواصم المنطقة والعالم حيث الفساد موزع على مختلف المراتب، بل حيث الفساد موضع تشجيع من أعلى المراتب لان اغراق الاعوان في الفساد، وإغراق البلاد في الهدر، هو أقصر الطرق لحكم العباد، وأضمن السبل لاستمرار الانظمة، وأقصر الطرق لقيام المعادلة الحاكمة في العديد من بلدان المنطقة: مزيدا من الافقار للناس ومزيدا من الغنى للمتربعين في أقصى الهرم. لن نسترسل مع ما يروجه اصحاب نظرية المؤامرة، وقراء بروتوكولات صهيون، ولكن لا بد من التوقف امام ظاهرة استشراء الفساد في عواصم العالم، لنتساءل هل هي مجرد تعبير عن انفلات في الشهوات والنزوات ام هي آلية من آليات نظام عالمي يقوم على الاحتكار في الاقتصاد، والهيمنة في السياسة، والاستبداد في الحكم، والوحشية في الحروب.

هل هذه الظاهرة هي جزء من شيوع مدروس لمرض فقدان المناعة الوطنية والأخلاقية والذي يراد نشره لاستباحة كل سيادة، ولتجويف كل استقلال، ولمصادرة كل حرية...

في جميع الاحوال، انها ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل لكشف اصولها والجذور ولمواجهتها بكل السبل والوسائل.

تعليقات: