«الوطن» يحلم بالفرار من الخدمة

(هيثم الموسوي)
(هيثم الموسوي)


ساوى انخفاض سعر الليرة بين غالبية اللبنانيين، الذين فقدوا مدخراتهم ورواتبهم. لكن ثمة خطورة في ما يصيب المؤسسات الأمنية من انعكاسات على حياة العسكريين ويومياتهم وهربهم من الخدمة


العسكريون في زمن الفقر والجوع

هيام القصيفي

ساوى انخفاض سعر الليرة بين غالبية اللبنانيين، الذين فقدوا مدخراتهم ورواتبهم. لكن ثمة خطورة في ما يصيب المؤسسات الأمنية من انعكاسات على حياة العسكريين ويومياتهم وهربهم من الخدمة

في اليومين الماضيين، كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يتمتع بحملة إعلامية وسياسية للدفاع عنه بلا حياء، فيما كانت الليرة تتهاوى مجدداً، من دون سقف. في هذا الوقت، كان راتب العسكري في المؤسسات الأمنية التي تؤمن الحماية لسلامة والمصارف وللسياسيين، يتهاوى من ألف دولار الى مئة دولار. هل يكفي الزجل والأغاني والأشعار التي تتغنى بالعسكر، لتأمين طعامهم وعائلاتهم، وهل تكفي الورود التي تقدم اليهم في أي تظاهرة تشهد عسكرياً يبكي، كي يؤمن هذا العسكري أطعام عائلته؟ وهل المساعدات الاميركية والبريطانية والفرنسية، المخصصة لمؤسسات أمنية، تعرف أن جنوداً يهربون من أجهزتهم بعدما انهار سعر الليرة، رغم كل محاولات النفي من الجيش وقوى الأمن، في بلد يعيش الخضات الأمنية الواحدة تلو الأخرى، ويحتاج الى إعادة تنظيم عديده الحالي؟ هل يخرج مسؤول ليتحدث بصراحة وشفافية عن معاناة العسكر، بعيداً عن تأليه المؤسسات الأمنية كلها، من الجيش وقوى الامن الداخلي والامن العام وأمن دولة؟

يقول أحد العسكريين: «بات الضباط يخافون منا كما يخاف بعضهم علينا». صحيح أن انخفاض سعر الليرة طاول الضباط في رواتبهم أيضاً، لكن المخصصات، خارج جدول الرواتب، لا تزال تصل إلى جزء منهم، في مواعيدها، ولا سيما مراكز القيادة والمحيطين بقادة الأجهزة الأمنية، وفي الفروع الاستخبارية. ورغم أن ضباطاً لا يزالون يؤمنون لعسكريهم جزءاً من هذه المخصصات، لكن بسبب انهيار الليرة، لم تعد هذه المنح الصغيرة، سواء كانت نقدية أم محروقات أم غيرهما، كافية لتعويض الخسارة. يوصي الضباط من ذوي الرتب العالية الضباط الأقل رتبة بـ«أن لا تتواجهوا مع العسكر أياً كانت الظروف، لأن الوضع لم يعد يحتمل، وإلا فسنكون أمام حالة جديدة من ردود الفعل». في بعض الأجهزة محاولات من ضباط للوقوف على مشكلات الأفراد، ومحاولة احتوائها بالتي هي أحسن، وتخفيف الضغط عنهم، مادياً ومعنوياً، حتى من خلال وقف بعض التدابير العملانية. لكن هذا كله ينعكس في نهاية الأمر على أداء المؤسسة الأمنية. كما تجري محاولات من ضباط لحث أقرانهم على وقف البذخ في مرحلة التقشف الحالي لعسكرييهم. لكن بماذا يمكن لقادة الأجهزة التحدث مع عسكري ينتظر ربطة الخبز التي توزع يومياً قبل أن يغادر مقر عمله، أو الإعانات التي تصل الى مؤسسته من الخارج ليعتاش منها، ولم يعد قادراً على شراء سندويش أو علبة دخان أو لوح شوكولا من الدكان المخصص للعسكريين؟ وكيف يمكن التعامل مع جنود باتوا يتوجهون الى المؤسسات الاجتماعية للحصول على المساعدات الغذائية، كَهَمٍّ أول وأخير، قبل الكلام عن تأمين قروض للسكن والمنزل والزواج وإنجاب الأولاد. حتى رواتب التقاعد التي كانوا يبقون في المؤسسة من أجلها، أصبحت من دون قيمة. وحدها الطبابة تبقي لهم فسحة من الأمل. ما عدا ذلك، لولا جوازات سفرهم المحجوزة في مؤسساتهم ووقف أذونات السفر، لما كان مشهد القوى الأمنية ليبقى على ما هو عليه، بعدما خرج من لبنان عسكريون الى أفريقيا وكندا وألمانيا ولم يعودوا، في وقت يسعى فيه عسكريون الى تقديم طلبات متكررة للسفر من دون جدوى.


رواتب التقاعد التي كانوا يبقون في المؤسسات من أجلها، أصبحت من دون قيمة

كان الدخول الى الجيش وقوى الأمن والأمن العام بمثابة الفرصة الأخيرة للكثير من اللبنانيين، سواء رغبةً منهم في الخدمة العسكرية، أم كفرصة أساسية لراتب متوسط، وللتقديمات الاجتماعية والطبابة. ولبعض العائلات، كانت «العسكرية» فرصة للتقدم الاجتماعي. والكلام هنا تحديداً عن الضباط، الذين كانت رواتبهم العالية وتعويضاتهم، تؤمن لهم حياة رغيدة. لكن بقي القاسم المشترك أن أكثرية العديد كانت من المجتمعات الريفية ومن الأطراف. حتى إن حملات سياسية ركزت في فترات سياسية، ولا سيما بعد عام 2005، على تشجيع التحاق المسيحيين بهذه القوى وتعزيز حضورهم فيها، ولا سيما في المناطق الحدودية، في وقت كانت فيه عائلات في الوسط وجبل لبنان تأبى انضمام ابنها الى أي مؤسسة أمنية، كنوع من «البريستيج» الاجتماعي.

بعد سقوط شهداء في انفجار المرفأ، كما في معارك عرسال والجرود، وقبلها في نهر البارد، شهدت البلاد حملات تضامن مع العسكريين الأفراد. لكن الواقع اليوم أن أحوال العسكريين لم تعد مجرد عنوان للتباكي. كل الاجتماعات التي عقدت حتى الآن، بغية تحسين ظروفهم وإدخال زيادة على رواتبهم، ولو بالحد الأدنى، لم تسفر عن أي نتائج إيجابية. كل ما تمّ الحصول عليه، بضعة تقديمات من نوع زيادة باصات النقل، وبعض خدمات الرعاية الصحية. لا أكثر ولا أقل.

لم يعد أحد العسكريين القاطنين في عكار، مستعداً لمغادرة بيته بسيارته لتأمين دوام عمل إضافي. فإما التنقل بالباص التابع للمؤسسة الأمنية، وإما البقاء في منزله. أن يدفع للفانات الصغيرة، أو أن يستخدم سيارته مع استهلاكها ومصروف المحروقات، فهذا أمر بات من رابع المستحيلات. مثله مثل عسكريي البقاع والجنوب، وهذا أمر مرشح لأن تتصاعد حدته مع اشتداد الأزمة المتوقعة أكثر، حين يصبح تنقل عسكريين من المحافظات الى مقر عملهم في بيروت وجبل لبنان أمراً يحسب له ألف حساب. فحتى الآن، لا يزال جزء كبير من المشكلة الاجتماعية مغطى بقشرة رقيقة من التضامن الاجتماعي العائلي، من لبنان أو الخارج، أو حتى انتماء غالبية العسكريين الى مجتمعات ريفية زراعية من عكار الى الجنوب والبقاع، تؤمّن جزءاً من اليوميات. لكن هل يمكن لعسكري أن ينتظر «زوادة» من أهله كل يوم؟ علماً بأن بعض الأجهزة أيضاً لا يؤمن الملابس العسكرية لأفراده، بل يضطرون إلى تأمينها من رواتبهم الخاصة.

في القانون ممنوع على العسكري أن يعمل خارج خدمته العسكرية. لكن الكثير من الجنود اليوم، يحاولون العمل: حلاقون، فاليه باركينغ، أعمال سنكرية، تصليح سيارات، كهرباء في المنازل... كان أحدهم يستخدم اسماً مستعاراً خشية أن يتعرف عليه أحد. اليوم لم يعد ذلك يشغل باله. الجميع يعرف أن العسكر يسعى للعمل خارج خدمته، بعد الدوام: بيع في محال التجزئة وعبر الهاتف، تأمين خدمات وديليفيري، وأي عمل متاح لتعويض بعضٍ ممّا خسره من جرّاء تدهور العملة.

ماذا يعني هذا التدهور في أحوال العسكر؟ في الأمن والمعلومات الاستخبارية، يعني أن هؤلاء أمام أمرين: إما انخفاض وتيرة عملهم تلقائياً، وإما أنهم لن يبقوا محصنين تجاه أي إغراءات مالية، حتى لو عادلت رواتبهم. وهم معرّضون يومياً لمن يستخدمهم سياسياً وأمنياً، سواء لتفعيل انتمائهم السياسي، أم ربما جنوح البعض منهم إلى الاشتراك في عصابات التهريب والسرقات، وصولاً الى احتمال تجنيد البعض للقيام بأعمال أمنية.

حين كان حاكم مصرف لبنان يتحدث عن الخيانة الوطنية، والمس بالأمن المالي، قبل أيام، كان عسكري يقف عند آلة سحب النقد أمام المصرف، ليقبض راتبه. لكن الآلة فارغة. يعلو صوته غاضباً يكاد يبكي، لأنه دفع للفان أكثر كي يجول معه في أكثر من فرع، والنتيجة أن الآلات كلها فارغة، والسائق لا يستطيع الانتظار أكثر للوصول باكراً الى البقاع، والعسكري لم يقبض بعد ليرة واحدة من راتبه البالغ مليوناً ونصف مليون ليرة، أي أقل من 150 دولاراً أميركياً. قبل عام من اليوم، كان راتبه يساوي ألف دولار أميركي، وكان بالكاد يكفيه للعيش بالحدود الدنيا. اليوم، يُراد له أن يستمر في عمله، كالمعتاد، بعدما تراجعت قيمة دخله بنسبة 85 في المئة.



«الوطن» يحلم بالفرار من الخدمة

رضوان مرتضى

لا يخفى على أحد أنّ العسكريين في الأسلاك الأمنية والعسكرية يعيشون حالاً من الرعب من جرّاء فقدان رواتبهم الشهرية قدرتها الشرائية. بين شهر وآخر، لم يعد لرواتبهم أي قيمة. لا يكفي راتب العسكري لشراء إطار سيارة اليوم. وفي ظل غياب أي خطط لمواجهة الواقع المستجد، يتخبط ذوو البزات المرقطة حيال مصير أسود ينتظرهم

طلب ضابط برتبة نقيب في قوى الأمن الداخلي مأذونية للسفر لرؤية زوجته الأميركية التي مرّ عام من دون اجتماعه بها. نال الضابط المذكور الموافقة على المأذونية ليُسافر، لكنه لم يعد مجدّداً. يقوم اليوم بإجراءات التقدم للحصول على إقامة وجنسية كي لا يعود أبداً. يعلم أنّه يرتكب جُرماً، لكن التضحية التي يقوم بها تضمن له مستقبلاً أفضل. ضابطٌ آخر سافر إلى بلجيكا ولم يعد أيضاً. رتيب في جهاز آخر حصل على مأذونية ليُسافر إلى تركيا من دون رجعة. زملاء له يتحدثون عن نيّته الاستقرار نهائياً هناك. فرّ عدد من الضباط والعناصر من صفوف قوى الأمن الداخلي للأسباب الاقتصادية نفسها. سُرِّبَ أنَّ عدد الضباط الفارين بلغ خمسة، يُضاف إليهم عشرات العناصر الذين طلبوا مأذونيات، لكنّهم لم يلتحقوا بالسلك مجدداً. ضباط برتبة نقيب وملازم أول وملازم لم يلتحقوا مجدداً بالسلك. كذلك سُجّل فرار عدد من العناصر والضباط من عدد من المفارز، قبل أن تلجأ قيادة المديرية إلى منع سفر العناصر أيضاً، يُضاف إليهم أولئك الذين تقدموا بطلبات استقالاتهم، علماً بأنّ طلبات الاستقالة المقدمة من ضباط برتبة مقدم وما دون تُرفض، إلا إذا استغنى عن راتبه التقاعدي.

المشهد نفسه تكرر في الجيش. ورغم نفي المؤسسة العسكرية لأخبار فرار عسكريين من الخدمة من جرّاء تردّي الأوضاع الاقتصادية، إلا أنّ المعلومات الأمنية تؤكد تسجيل فرار عشرات العناصر من دون معاودة التحاقهم بمراكز خدمتهم. بدأت المسألة بحصول عناصر وضباط على مأذونيات للسفر من دون عودة قبل أن تُلغى المأذونيات. تزامن ذلك مع فقدان رواتب العسكريين لقدرتها الشرائية، ما وضع العناصر أمام خيارات صعبة، حيث لم يعد يكفي الراتب لشراء الحاجات الأساسية للعيش. عندها، عمد بعض العناصر إلى الفرار من دون الالتحاق بمراكزهم العسكرية. وعلمت «الأخبار» أنّ حالات الفرار هذه تُسجّل بموجب برقيات تُرفع من المراكز التي تشهد فرار العسكريين. ونقلت مصادر أمنية أنّه سُجِّل في الآونة الأخيرة فرار عدد من العسكريين من مراكز خدمتهم في بيروت وقاعدة رياق الجوية على سبيل المثال لا الحصر.

لما سُدّت السُبل في وجه الضباط والعناصر الباحثين عن طريقة للنجاة في خضم الأزمة الاقتصادية الحادة، عمد عدد منهم إلى تقديم استقالاتهم من السلك، مع أنه لا يحق لهم الاستقالة بسبب قانون الموازنة الذي منع تقديم الاستقالات لمدة ثلاث سنوات، حيث يُلزم المتقدم بالاستقالة بالاستغناء عن حقه في الحصول على راتب تقاعدي مدى الحياة. وقد استُثني من القانون الضباط ممن هُم برتبة عقيد وعميد، لكونهم يحق لهم التقدم بالاستقالة بعد إتمامهم عشرين عاماً في الخدمة.

وعلمت «الأخبار» أنّ نحو ١٥ ضابطاً من رتبتي عقيد وعميد تقدموا باستقالاتهم التي وقّعها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، إلا أنّ رئاسة الحكومة ردّتها. وذكرت المصادر أن عدداًَ من الضباط يستعدّون للتقدم بشكوى أمام مجلس شورى الدولة، لإجبار الدولة على قبول استقالاتهم.


عدد من الضباط يستعدّون للتقدم بشكوى أمام مجلس شورى الدولة ضد مؤسّساتهم

الوضع في الأمن العام ليس أفضل بكثير. فقد وضع المدير العام اللواء عباس إبراهيم معنويات العسكر تحت المجهر؛ إذ طلب من رؤساء المكاتب والدوائر والمراكز كافة عقد اجتماع دوري للوقوف على الحالة المعنوية للعسكريين، إثر تسجيل عدد من عمليات الفرار لضباط وعناصر من الخدمة بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي. وجاء في برقية صادرة عن المديرية «يُطلب إلى كافة رؤساء المكاتب والدوائر والمراكز عقد اجتماع دوري كل 15 يوماً مع العسكريين التابعين لهم مع مراعاة كافة التدابير الوقائية ( التباعد ، الكمامة... ). تهدف هذه الاجتماعات إلى الوقوف على أوضاع العسكريين المادية والمعنوية، والاستماع إلى مشاكلهم وهواجسهم، والعمل على استيعابهم، على أن يُرفع تقرير مفصل إجمالي على مستوى المكاتب والدوائر الإقليمية والحدودية نتيجة الاجتماع إلى مكتب شؤون العديد». كما طلبت من مكتب شؤون العديد «رفع تقرير إجمالي دوري بمضمون التقارير الواردة من القطعات أعلاه إلى المدير العام، وذلك على صعيد الإدارة المركزية، وتقرير على صعيد الدوائر والمراكز الحدودية والإقليمية».

وتتحدث مصادر أمنية عن توجه لدى قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي لفتح باب التبرعات لمساعدة العسكريين لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تهدّد الأمن الاجتماعي للعسكريين. وذكرت المعلومات أنّ هذا الباب يسمح بالتبرع بمساعدات عينية (مازوت، ملابس، غذاء) أو مساعدات مالية من قبل أفراد وجمعيات لصالح المؤسّستين.

عام 2009، وبعد توقيف عدد من العملاء الذين يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية في صفوف الجيش، راجت «نكتة» في المؤسسات الأمنية والعسكرية مفادها أن «عدم توقيف أيّ ضابط من قوى الأمن الداخلي بتهمة التعامل مع العدو، سببه أن ضبّاط الأمن الداخلي محصّنون ضد الخيانة... بسبب المال الوفير الذي يؤمّنه الفساد لهم». هي طرفة فيها الكثير من التعميم، والإجحاف أيضاً، لأن الفساد لم ينل من جميع الضبّاط بطبيعة الحال، لكنها انتشرت حينذاك. حتى إن بعض الضبّاط العاملين في مجال مكافحة التجسّس تبنّوا نظرية أن «أموال الفساد تحول دون الخيانة». «النكتة» باتت معكوسة اليوم. فحتى الفساد، في غالبيّته يُنتج مدخولاً بالليرة اللبنانية. وبتراجُع الأعمال في كل القطاعات، يتراجع «المال الحرام» أيضاً، فضلاً عن تراجع قيمته بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية.


تعليقات: