إلى الهاوية: رواتب موظفي القطاع العام لامست الصفر


صحيح أن الحديث عن انهيار سعر صرف العملة اللبنانية أمام الدولار الاميركي، كان أشد وطأة على القطاعات الاقتصادية لاسيما قطاعي الصناعة والتجارة، إلا أن هذا الانهيار يبدو أنه أشد وطأة على موازين التركيبة الاجتماعية، بعدما باتت القدرة الشرائية للبنانيين هشة إلى درجة أن موظفي القطاع العام لاسيما الفئات الأولى والثانية والثالثة، وهي الفئات التي كانت تعتبر الأغلى أجراً في لبنان، هوت قيمة رواتبها إلى أكثر من 80 بالمائة على أساس احتساب سعر الدولار في السوق السوداء عند معدل 9500 ليرة.

حسب القانون رقم 46 الصادر في العام 2017، الخاص بالحد الأدنى للأجور ورواتب الموظفين المنظمة وفق سعر صرف الدولار 1500 ليرة، كان موظفو الفئات الأولى في القطاع العام، يتقاضون ما بين 9 ملايين ليرة ومليوني و200 ألف ليرة حسب كل درجة. فالفئة الأولى (مدراء عامين) تبدأ روابتهم من 4 ملايين و500 ألف وتصل إلى 9 ملايين، ما يعادل (3000 دولار و6000 دولار فيما أصبحت بين 966 و478 دولاراً، ثم أصبحت اليوم 686 دولاراً و319 دولاراً). والفئة الثانية تتقاضى ما بين 3 ملايين و6 ملايين (1500 دولار و4000 دولار) والفئة الثالثة بين مليوني و200 ألف و4 ملايين و365 ألفاً (1500 دولار و2950 دولار، لتصير ما بين 464 و234 دولاراً).

المصير المجهول

يعلق الخبير الاقتصادي كمال حمدان على هذه الأرقام بالقول "إنه انتهاء عصر البحبوحة المالية والاقتصادية لموظفي القطاع العام، الذين تمكنوا من بناء إمبراطوريات مالية بسبب غياب السياسة المالية الصحيحة. ففي الوقت الذي كان الحد الأدنى للأجور يصل إلى 675 ألفاً، كان موظفو القطاع العام يحصلون على 10 أضعاف الحد الأدنى. وهنا أصل المشكلة المالية في لبنان". لا يخفي حمدان في حديثة لـ"المدن" من انعكاس قيمة تدني الأجور على مستوى معيشة هذه الفئة من جهة، وعلى الحركة الاقتصادية في لبنان -والتي باتت شبه منهارة- إذ كانت هذه الطبقة محركاً رئيسياً لها، إضافة إلى فئة المغتربين.

ويرى أن الانهيار الذي أصاب قيمة رواتب موظفي الدولة، سيجعلهم أمام مصير مجهول. ويقول: "تخيل أن راتبهم اليوم، لم يعد يكفي لإرسال قسط شهري لتعليم أولادهم في الخارج، فكيف سيستطيعون تدبير أمورهم اليومية". وحسب حمدان، فإن الأجر في لبنان لم يعد له علاقة بكلفة المعيشة. فتكاليف المعيشة تشهد ارتفاعاً شبه يومي، وبمعدلات خطيرة جداً. فالحديث هنا، لا يتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة بمعدل 1 أو 2 بالمائة شهرياً، بل تغيير على أساس يومي وبمعدلات كبيرة.

سيناريو فنزويلا؟

إن أردنا احتساب معيشة موظف في الفئة الأولى، والذي بات راتبه يساوي نحو 966 دولاراً بحده الأعلى، فهو يكاد لا يكفيه لتأمين مستلزمات المأكل والمشرب، والتي ارتفعت بنحو 402.3 بالمائة بين شهري كانون الأول 2019 وكانون الأول 2020. وحسب معلومات سابقة نشرتها وكالة بلومبرغ، ارتفع مؤشر أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بنسبة 402.3 بالمائة، وأسعار التبغ والمشروبات الكحولية 392.5 بالمائة، والملابس والأحذية بنسبة 559.5 بالمئة.

وحسب هذه الأرقام، فإن معدل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية السنوي الذي بلغ 402.4 بالمائة، يشير إلى أن الارتفاع الشهري كان بمعدل 33 بالمائة، أي واحد بالمائة تقريباً بشكل يومي، وهو الأعلى عالمياً، وينذر بكارثة حقيقية.

يرى مصدر خاص على صلة بمعدلات الأجور والرواتب في لبنان، أن تدني قيمة الأجور مقارنة مع تكاليف المعيشة، تنذر بكارثة اجتماعية خصوصاً مع الاتجاه إلى رفع الدعم. إذ من المتوقع أن يشهد لبنان تكرار سيناريو فنزويلا. ووفق المصدر، من المرجح أن يتجه المصرف المركزي إلى رفع الدعم ما بين شهري آذار ونيسان. وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع جنوني في مستويات التضخم. كما يلفت المصدر إلى أن إحدى تداعيات ذلك، هجرة موظفي الدولة وظائفهم، على غرار ما يحصل في الجيش اللبناني، وبالتالي توقف سير عمل مؤسسات الدولة، وتوقف مصالح المواطنين.

المقايضة وسيلة؟

هل يمكن أن نعود إلى عصر المقايضة؟ لا يستبعد البروفيسور جاسم عجاقة في حديثه لـ"المدن" أياً من سيناريوهات سلبية قد يشهدها لبنان في الفترة المقبلة. ويقول "المشكلة اليوم لا تتعلق بقيمة الرواتب المتدنية، بل بانعكاسها على الطبقات الاجتماعية. فمن المرجح أن ترتفع نسبة الفقراء في لبنان إلى أكثر من 85 بالمئة من مجمل تعداد السكان". يعني ذلك، حسب عجاقة، "أن رواتب الموظفين ستشهد مزيداً من الانخفاض في مقابل ارتفاع كبير في الأسعار، ولن يتمكن الموظف من تأمين المستلزمات الرئيسية التي تنص عليها شرعة حقوق الإنسان".

أما بخصوص واقع موظفي القطاع العام، فيستبعد عجاقة أن يؤدي تدهور العملة وقيمة الراتب خروج الموظفين من وظائفهم، بل يرجح أن يسعى هؤلاء إلى البحث عن مصادر أخرى للرزق بحانب عملهم. لكن نجاح ذلك، أمر غير مؤكد. وبالتالي، فإن أزمة موظفي القطاع العام ستكون الأزمة الأكبر في الفترة المقبلة.

ويتوقع أن يكون المشهد الاقتصادي على الشكل التالي: خروج الطبقة المتوسطة من المعادلة الاقتصادية، بحيث تنزلق إلى الطبقات الفقيرة والتي يقدرها البنك الدولي بنحو 60 بالمئة، فيما من المرجح أن الطبقة الفقيرة تنزلق إلى فئة الفقر المدقع، وتصبح هذه الفئة تشغل أكثر من 30 بالمئة من السكان، وهي معادلة صعبة جداً.

تعليقات: