القضاء يعفو عن القضاة الفاسدين.. ويمنحهم تعويضات ورواتب

يكون لقاضٍ يتبوّأ أعلى المناصب القضائية ابن أو شقيق يعمل محامياً وتُغدق الوكالات عليه من كل حدبٍ وصوب (مروان طحطح)
يكون لقاضٍ يتبوّأ أعلى المناصب القضائية ابن أو شقيق يعمل محامياً وتُغدق الوكالات عليه من كل حدبٍ وصوب (مروان طحطح)


أدخل ملف الفساد في قوى الأمن الداخلي ضبّاطاً إلى السجن وصودرت ممتلكاتهم، لكنّ ملف الفساد القضائي كأنه لم يكن. لم يُسجَن أحدٌ من القضاة الذين أُدينوا بقبض رشى. دُفِعت لمعظمهم تعويضات نهاية الخدمة مع راتبٍ لا يزال يُصرَف لهم شهرياً. لماذا يحمي القضاة بعضهم بعضاً؟ أوليس الأجدر بأن تُشدّد العقوبة على المؤتمن على العدالة والقانون عندما يصبح لصّاً أو مرتشياً ليُدكّ في السجن؟


أيُّهما أخطر على المجتمع، تاجر المخدرات أم القاضي الذي تركه يخرج من السجن؟ تاجر المخدرات أم القاضي الذي يُجنّب المجرمين العقاب؟ كيف يُترك قاضي مرتشٍ قبض مالاً ليهضم الحقّ لمصلحة من يدفع له؟ ومن أخطر من القاضي المرتشي سوى القاضي المسؤول عن محاسبته، لكنّه لم يفعل، إنما وفّر له الحماية في بعض الحالات؟ هزّ ملف الفساد القضائي أروقة قصور العدل. سُجِنَ «سماسرة» بجرم التدخّل بجرائم القضاة، لكنّ «حُماة العدالة» المشتبه فيهم لم يُمسّوا. عوقبوا مسلكياً، من دون أن تقترب منهم النيابة العامة التمييزية لتُحاسبهم عدلياً على جرائمهم. اعترف «السماسرة» أنّ القضاة ومساعديهم والمحامين المشتبه فيهم قبضوا رشاوى من مطلوبين للقضاء بجرائم مختلفة. دخل هؤلاء السجن ليُحاكَموا، لكن لم يُفتَح تحقيق عدليّ في الجرائم التي ارتكبها القضاة. اكتُفي بالإجراءات التأديبية المتّخذة من قِبل التفتيش القضائي ثم قرارات هيئة تأديب القضاة. وهنا الطامة الكبرى. قرارات هيئة التأديب ثبّتت تورّط بعض هؤلاء القضاة في جرائم شائنة. أثبتت أنهم ارتكبوا جرائم فأدانتهم وأصدرت أحكاماً بحقّهم قضت بعزل قضاة وطرد آخرين وكسر درجات البعض منهم. غير أنّ القيّيمن على القضاء سمحوا لعدد من هؤلاء القضاة المتّهمين الذي أُدينوا قبل الاستئناف، سمحوا لهم فيما هم لا يزالون قيد المحاكمة، بالتقدم بطلبات الاستقالة من السلك القضائي وقبض تعويضات. لا يزالون يستفيدون مثل أيّ قاضٍ آخر من صندوق تعاضد القضاة والمال العام. مقارنة بسيطة مع سلك قوى الأمن، رغم كل الشوائب التي تشوب هذا السلك، تُبيّن أنّ القيّمين على العدالة لا يطمحون لبناء قضاء نزيه. على سبيل المثال، فقد أحالت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي القائد السابق لوحدة الإدارة المركزية في قوى الأمن العميد محمد قاسم إلى المحكمة العسكرية، بالإضافة إلى العقوبة المسلكية التي نالها، ليُحاكم ويُدان بالسجن لمدة خمس سنوات وتغريمه ٢٥٠ مليون ليرة ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة. لكن ما يحصل في القضاء يُشجّع على الفساد. يمكن لأي قاضٍ أن يرتكب ما يشاء من موبقات، يجمع الملايين من الدولارات ويقف في صفّ الظالم وعندما يُضبط متلبّساً، يُقدّم استقالته ببساطة وكأنّ شيئاً لم يكن. تُحلّ مسألة فساده بـ«تبويس اللحى» إذ يُطلب منه الاستقالة بصمت بدلاً من محاكمته. وهنا لا يزال الحديث عن الرشوة بإطارها الضيق، أي أن يقبض القاضي مالاً لقاء خدمة يُقدّمها للراشي، لا عن الرشى بمفهومها الأوسع، كأن يكون لقاضٍ يتبوّأ أعلى المناصب القضائية ابن أو شقيق يعمل محامياً وتُغدق الوكالات عليه من كل حدبٍ وصوب كرمى للقاضي. هذه رشوة أيضاً، لكن مسكوت عنها.

في ملف الفساد القضائي الذي فُتِح قبل أشهر، أُدين بالفساد رئيس الهيئة الاتهامية في جبل لبنان القاضي منذر ذبيان، فصدر القرار بصرفه من الخدمة، لكنه استقال لتُقبل استقالته قبل صدور القرار النهائي. قبض تعويض نهاية الخدمة ولا يزال يتقاضى راتبه الشهري فيما يعمل اليوم خارج البلاد. كذلك فعل قاضي التحقيق الأول في البقاع عماد الزين الذي صدر القرار بصرفه من القضاء، لكنّه استقال وقُبلت استقالته أيضاً. وكما ذبيان والزين، فعل مفوَّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس، فاستقال قبل صدور أيّ قرار بحقه. قبض تعويضه والتحق بنقابة المحامين ليُمارس المهنة، علماً أنّ النقابة نفسها لم تقبل انضمام القاضي جعفر قبيسي الذي خرج من القضاء لخطأ / فعلة لا ترقى للأفعال التي نسبها التحقيق لجرمانوس. وفيما يحظى الأخير بحماية سياسية لا شكّ أقوى بكثير من غيره، صدر ضد قبيسي «حكم مضاعف»، إذ مُنِع من مزاولة مهنة المحاماة. كذلك قُبلت استقالت قاضي التحقيق في بعلبك داني شرابية قبل صدور القرار النهائي ليغادر للعمل في إحدى الدول الخليجية. ومنذ أيام، تقدمّ القاضي محمد عبده بطلب إنهاء خدماته إلى مجلس القضاء الأعلى إثر استئناف هيئة التفتيش القرار الصادر بحقه والقاضي بـ«كسره» ثلاث درجات.

وحده المحامي العام الاستئنافي في البقاع حسام النجار لم يستبِق القرار الصادر بحقه، بل انتظر انتهاء المحاكمة ليأتي القرار بعزله من القضاء. أُنزلت بحقه العقوبة القصوى. والعزل يعني خروجه من القضاء من دون أيّ تعويض بينما الصرف يعني قبض التعويض مع راتبٍ تقاعدي.

الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى، القاضي غالب غانم يتحدّث لـ«الأخبار» عن مسلكَين واجبَين عندما يرتكب القاضي جرماً يسيء إلى الآداب القضائية. الأول الملاحقة المسلكية والثاني الملاحقة المدنية والجزائية. ويتحدث غانم عن «آلية خاصة لملاحقة القضاة حيث لا حصانة على القاضي وكل شخصٍ يرتكب جرماً يجب أن يخضع للعقوبات الجزائية»، معتبراً أنّ «كل خرق لهذه المبادئ هو في غير محله». وتعليقاً على قبول استقالات قضاة قيد المحاكمة يُعلّق الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى بالسؤال: «إذا كانت استقالة بعض القضاة للهروب من الملاحقة المسلكية، فكيف تُقبل الاستقالة؟ يجب أن لا تُقبل قبل انتهاء المحاكمة». يُضيف غانم: «إذا حُكِم القاضي تأديبياً بعمل يتنافى مع المناقبية القضائية، يجب أن تسير المحاكمة الجزائية. وإن لم تسِر، فهذا خطأ. حفظ السلطة القضائية وهيبتها يكون بالشفافية وليس بتغطية مخالفات القضاة». علماً أن القاضي لا يتمتّع بأيّ حصانة، إنما بامتياز أن لا يتم توقيفه في السجن أثناء محاكمته، إنما في مكان خاص، مع آلية ملاحقة خاصة، على أن يُسجن مثل أي سجين بعد صدور الحكم بحقه.


غانم: إذا حُكِم القاضي تأديبياً بعمل يتنافى مع المناقبية القضائية، يجب أن تسير المحاكمة الجزائية

لم يسلك هذا الملف المسار العدلي المفترض أن ينتهي بلصوص وفاسدين، ينتحلون صفة قضاة، خلف القضبان. لقد أثبتت التحقيقات الأولية وتحقيقات هيئة التفتيش القضائي جرم الرشوة على عدد من هؤلاء القضاة في سياق المساءلة التأديبية. وهذا يفرض فرضاً واجباً على النيابة العامة التمييزية تحريك الملاحقة الجزائية بحقهم، علماً أن المادة ٣٤٤ من أصول المحاكمات الجزائية تنصّ على أنّه «تختص محكمة التمييز بالنظر في الجرائم التي يرتكبها القضاة سواء أكانت خارجة عن وظائفهم أم ناشئة عنها أو بمناسبتها».

وفي هذا السياق، يقول الوزير السابق ونقيب المحامين رشيد درباس لـ«الأخبار»: «لا يوجد مواطن بمنأى عن الملاحقة الجزائية، لكن القضاة يحاكمون أمام محكمة خاصة تُطبق قانون العقوبات بحذافيره. وهذا ثابت في قانون أصول المحاكمات الجزائية». ويلفت درباس إلى أنّ «الاستقالة توقف المحاكمة المسلكية، لكنها لا توقف الملاحقة الجزائية إذا كانت ثابتة»، مشيراً إلى أنّ لجوء قضاة لاستئناف قرار هيئة التأديب بحقهم يجعل القرار كأنه لم يكن، لكنه يبقي قرينة لدى الجهة الإدارية لقبول الاستقالة أو رفضها. ورداً على سؤال عمّن يتحمّل هذه المسؤولية، يقول درباس: «من حيث القانون، القرار الإداري يشترك فيه كل من وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى. يليهم ثلاثة أشخاص هم الذين وقّعوا على مرسوم الاستقالة: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المال»، خاتماً بالقول: «ليس كل ملاحقة تأديبية تنطوي على جرم جزائي».

في سالف الزمان، كانت «مصلحة الدولة العليا» تقتضي عدم هزّ صورة القضاء باعتبارها رمزاً لهيبة الدولة. لذلك، كان يُطلب من القاضي الفاسد الخروج من القضاء بصمت. غير أنّ الواقع اليوم مختلف. فصورة الدولة والقضاء في الحضيض. وعدم سجن القضاة لا يخدم مصلحة الدولة العليا، إنما يخدم مصلحة القاضي المرتشي. مصلحة الدولة العليا اليوم توجب إرسال القضاة الفاسدين إلى السجن.


وزيرة العدل: هذه صلاحيّة النيابة العامة

لا توافق وزيرة العدل ماري كلود نجم على مسألة الحرص على صورة القضاء بالتستّر على قاضٍ مرتكب بذريعة مصلحة الدولة العليا. وتقول لـ«الأخبار»: «أنا أرفض هذا الرأي الذي يربط بين صورة القضاء ومصلحة الدولة العليا على هذا النحو، فالقاضي الفاسد وحده المسؤول ويُدان وحده من دون أن يُدين بأفعاله كل القضاة». وترى وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال أنّ «عدم المحاسبة يرتدّ سلباً على القضاء، بينما المحاسبة حتى لو كشفت وجود قاضٍ فاسد فإنها تساهم في تنقية القضاء وإعادة بناء صورته». أما في ما يتعلق بملف الفساد القضائي الذي لم ينتج منه ملاحقة جزائية لقضاة، فتُجيب الوزيرة نجم بأنّ «التحقيقات مع السماسرة كانت تتمّ بإشراف النيابة العامة»، مشيرة إلى أنّه في ما يختص بالقضاة «صلاحية تحريك الدعوى العامة محصورة بالنائب العام التمييزي الذي يلاحق القضاة جزائياً وفق إجراءات خاصة تنُصَّ عليها المواد ٣٤٤ وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائية».

وزيرة العدل: هذه صلاحيّة النيابة العامة
وزيرة العدل: هذه صلاحيّة النيابة العامة


تعليقات: