البارد في ذكرى انطلاقة النكبة الثانية: احتضن مآسي كثيرة... وأسقط أقنعة

عودة المدنيين لم تكتمل بعد
عودة المدنيين لم تكتمل بعد


تحوّل يوم 20 أيّار في مخيمي البارد والبداوي إلى ذكرى نكبتين فلسطينيتين، في ظل جرح البارد المستمر في النزف مآسي إنسانيّة. جرح لم تعد تسعفه الوعود الكاذبة التي يطلقها المسؤولون اللبنانيّون والفلسطينيّون عن «حتميّة» إعادة إعمار المخيم

خلّفت معركة الجيش وتنظيم «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد عناوين شغلت الرأي العام طوال عام. فحصد قائد «انتصار» البارد العماد ميشال سليمان شبه توافق على ترشّحه لرئاسة الجمهوريّة، وعاد شعار التوطين ليفرض نفسه مادّة أساسيّة في استقطاب الجماهير، في ظل الجنوح الأكثري لاستخدام المعركة «دليلاً إضافياً على المس السوري بأمن لبنان».

أما الناس الذين خسروا في هذه المعركة «جنى عمرهم» فكانوا أبرز المنسيين، إذ صودف أن هؤلاء فلسطينيون، «خلقوا ليذلّوا». عبارة يسمعها الداخل إلى أنقاض مخيم البارد عبر «معبر» المحمّرة بعد انتظار أكثر من ساعة تحت أشعة الشمس الحادّة بسبب التفتيش الدقيق الذي يقوم به الجيش. وسرعان ما يتبيّن أن هذه العبارة ليست إلا أوّل الغيث من كلام كثير عن نقمة تراكم الأحقاد. هنا حقد على الجيش الذي لم يأخذ أثناء دكّه لمخابئ فتح الإسلام أرزاق الناس الأبرياء في الاعتبار. وهنا حقد على القوى الفلسطينيّة، ولا سيما منظمة التحرير التي لم تحم حقوق من تدّعي تمثيلهم، وحقد إضافي على «اليوم الذي ولدنا فيه فلسطينيين».

والداخل إلى هذا المخيم، حتى لو بعد تدميره عشرات المرّات، لا بدَّ أن يشعر بهول الجريمة المستمرة، وببشاعة الاعتقاد، عند المرور على الطريق الدولية على بعد أمتار قليلة من المخيم، أن الأمور فيه على أحسن ما يرام، وبذنب عدم تحمّل اللبنانيين، شعباً ورسميين، لمسؤولياتهم تجاه هذه الجريمة المتمادية وانتشائهم بـ«الانتصار».

ويحافظ أهل المخيم، رغم مأساتهم، على سمة التفاؤل الفلسطينيّة، ويتوزعون أطفالاً يلهون بالأنقاض، يصنعون منها منازل وسيارات. تنتشر الروايات عن حوادث يدّعون أنهم شهدوها. فيكيل أحدهم الاتهامات لعناصر الجيش، متوعّداً بقتالهم حين يكبر. ويقول صديقه إنه يكره شباب الجمعيات «الذين يتفلسفون كثيراً ويعدون كل مرة بإعطائنا هدايا لكنهم يأتون دائماً فارغي الأيدي».

وكباراً يبدون أكثر واقعيّة في التعامل مع مأساتهم. ويوضح بعض هؤلاء أن المسؤولين لم يباشروا خطوة تطمئنهم إلى إمكان تأمين عودة كل أهل مخيم البارد إليه، أو إلى جدّية الكلام عن إعادة الإعمار.

ويشير بعض الشبان إلى بقائهم منذ سنة دون عمل بعدما دمرت كل مصادر الرزق داخل المخيم، وحال حصار الفلسطينيين دون تمكّنهم من إيجاد فرص عمل خارجه.

مع العلم أن بعض صغار التجار بدأوا بالعودة إلى المخيم الجديد وافتتحوا حوانيت، واستفاد البعض من القروض والهبات التي تقدمها مؤسسات فلسطينيّة وفرنسيّة لإنشاء مشاريع صناعيّة وتجاريّة تنعش العائدين. وتراوح قيمة الهبات بين 800$ و1200 $.

يتحدث كثيرون عن الظروف المأسوية التي تركهم ممثّلوهم فيها، إذ إن الانقطاع عن العمل، وعدم وجود مساكن، دفع بمعظم عائلات نهر البارد، الذين كانوا يتمتعون بمستوى اقتصادي مميز مقارنة بأهالي المخيمات الأخرى، صوب فقر مدقع يجعلهم في انتظار دائم لإعاشات الطعام التي تقدمها الأونروا من جهة، وتيار المستقبل عبر منظمة التحرير من جهة أخرى. مع العلم أن فلسطينيي البارد يمرّون بأزمة صحية نتيجة التزام الأونروا بمتابعة أوضاع المصابين بالأمراض الصغيرة، أما المحتاجون للأدوية الباهظة السعر، ولعمليّات جراحيّة مكلفة، فلا يجدون من الأونروا أيّة مساعدة. وهكذا يتابع الناس كلامهم: دفعنا ممثّلونا في لبنان إلى ترك منازلنا، ثم تغاضوا عن تدميرها وسرقة ممتلكاتنا، وها هم الآن يتلكأون في تأمين عودتنا إلى المخيم، دون مبالاة بأوضاعنا المعيشية. وسط كلام عن هبوط ثروات على بعض المسؤولين الفلسطينيين تزامناً مع تهجير الأهالي من مخيميهما القديم والجديد.

وفي البارد أيضاً، يصر أهل الدار على اصطحاب زوارهم إلى المنازل الجاهزة التي «يربّحهم العالم جميلها»، وعددها في المخيم الجديد وجواره تجاوز خمسمئة وخمسين. ويشرح أهل هذه المنازل أنّها لا تتسع للعائلات التي يتخطى عدد أفراد معظمها الثمانية، ويريدونها أن تعيش في غرفتين، علماً بأن هذه البيوت لم تجهز بالإمكانات الكهربائيّة، كالبراد والغسّالة وغيرهما، وهي مصنوعة من حديد يحرق في الصيف ويثلّج في الشتاء. وتقول المصادر الفلسطينيّة المعنيّة إن عودة العائلات إلى المخيم القديم لا تزال ممنوعة، ويسمح فقط لعدد محدود من الأفراد بالدخول والخروج وفق تصاريح خاصّة. وهو أمر يزيد شكوك المعنيين. وخصوصاً أن معظم المخططات التي سربت أشارت إلى اقتطاع مساحات واسعة من هذا المخيم. إضافة إلى أن جرف المنازل، قبل شراء الدولة اللبنانيّة للأرض وتأجيرها للأنروا، سيسمح للمالكين الأصليين بأن يطالبوا باسترجاع أرضهم، وهو أمر يجوز قانوناً. وفي المقابل، لم يعد إلى المخيم الجديد أكثر من ألفي عائلة، مما يعني أن أكثر من 3 آلاف عائلة، بعد عام على المأساة، ما زالت مشردة بين مخيم البداوي وطرابلس ومناطق أخرى.

على صعيد آخر، يشيد أهل البارد بتخفيف الجيش قبضته، وتساهله أكثر في موضوع التفتيش، وخصوصاً مع الداخلين والخارجين. ويزايد الناس بعضهم على بعض في تقدير جهد الجمعيات الأهليّة للتخفيف عنهم.

هكذا، يحاول فلسطينيو البارد التأقلم مع مأساتهم، وهم شبه مقتنعين بأن تحسين ظروف حياتهم رهن بهم. من هنا، يكشف أحدهم أنهم شرعوا يعدون العدّة لتكون ذكرى انتهاء المعارك في نهر البارد غير ذكرى انطلاقتها، فيكونون أكثر جدّية في فرض واقع جديد يجبر المسؤولين، المتذرعين دوماً بالأزمات اللبنانيّة، على إيجاد حلول لمأساتهم.

التزامات مؤجلة

في 10 أيلول 2007، عقد في السرايا مؤتمر ممثّلي الدول والمؤسسات العربيّة والدوليّة المانحة لإطلاق حملة الاكتتاب، في سبيل إعمار مخيم نهر البارد ومحيطه. وقدّر الرئيس السنيورة حجم الأضرار بـ 382,5 مليون دولار، جمع منها خلال المؤتمر قرابة 23 مليون دولار فقط. وفي 14/11/2007 أكدت الأونروا أن إعادة إعمار المخيم ستكون من أكبر المشاريع الإنسانية التي تقوم بها الوكالة، مطالبة بتأمين 55 مليون دولار. لاحقاً، أنشأ أهل البارد «لجنة إعادة إعمار المخيم» التي زارت معظم المسؤولين اللبنانيين. وقد أجمعت الدراسات الفلسطينيّة على وجود 5500 وحدة سكنية في المخيم القديم بحاجة إلى إعادة إعمار، و1100 وحدة سكنية في المخيم الجديد دمّرت أو بحاجة إلى إعادة بناء. أما الخطوة العمليّة الوحيدة خلال العام الماضي فكانت إطلاق السنيورة في 11/02/2008 المخطط التصميمي لإعادة إعمار المخيم.

تعليقات: