من حسين عبدالله إلى محمد مازح: ذلٌ بلا قاع


ليس للذل من حدود في هذه الجمهورية البائسة. مجدداً، القضية أكثر خطورة من أن تطلب وزيرة العدل، ماري كلود نجم، إحالة القاضي محمد مازح على التفتيش، لأنه تجرأ على أن يقول لسفيرة الامبراطورية إن بلادنا ذات سيادة. ترغب نجم في وضع عربتها على سكة التنافس على رئاسة الجمهورية، من بوابة عوكر. أن تقول للسفيرة الأميركية إنها شخص يمكن الاعتماد عليه لمواجهة من يجرؤون على رفض الرضوخ لمشيئة واشنطن. ستخرج الوزيرة لتزعم انها طلبت إحالة الملف، لا القاضي، على التفتيش. حيلة تعلّمتها من سلف سلفها سليم جريصاتي، الذي بادر، بإسم رئاسة الجمهورية، إلى الاتصال بالسفيرة الأميركية دوروثي شيا، ليعتذر منها، على «تبعات قرار القاضي»!

الأزمة ليست عند جريصاتي ونجم وحدهما. ناصيف حتي، وزير الخارجية، لم يجرؤ على استدعاء السفيرة الأميركية استدعاءً رسمياً. دعاها إلى لقاء. قال لها ما يشبه الاعتذار. ليس للذل قاع. سفيرة تهين الكتلة الشعبية الأكبر في البلاد (كل الذين صوتوا لخيار المقاومة في الانتخابات النيابية الأخيرة)، وتصف قوتنا الدفاعية الوحيدة بالإرهاب، وتحمّلها مسؤولية الأزمة الاقتصادية، فلا يقول لها وزير خارجيتنا سوى أن «صفحة القرار القضائي قد طويت». هذا الوزير الذي لم يفعل شيئاً منذ تعيينه سوى إصدار بيانات الاستنكار لأي عملية دفاعية يقوم بها اليمنيون المحاصرون منذ نصف عقد من الزمن، كان عليه أن يساوي مقاومتنا وشعبها بالسعودية، لا أكثر، وأن يقول للسفيرة أنه يرفض تدخلها في شؤوننا. لم يطالبه أحد بالبطولة. السفيرة تطالب يوم الجمعة بطرد حتّي وزملائه من الحكومة ليحل «اختصاصيون» محلّهم. حتى هذا الامر «الشخصي» لم يهزّه.

نجم تطلب معاقبة القاضي الذي وقف في وجه السفيرة الأميركية، فيما قائد الجيش يطلب مكافأة الضابط الذي أطلق الفاخوري

ألم يجد رئيس الحكومة، والناطق باسمها، حسان دياب، نفسه معنياً بتصريحات السفيرة؟ هذه التصريحات ليست حبراً على ورق، بل تعبير عن برنامج عمل يهدف إلى الإطاحة بالحكومة الحالية، بقوة دفع الأزمة الاقتصادية. لكن رئيس الحكومة منشغل بدعوة الناس إلى التبرع بما بقي من دولاراتهم التي سرقتها المصارف وعصباتها.

المشكلة ليست في نجم وجريصاتي وحتّي ودياب وحدهم. هم مسؤولون طبعاً. لكن ثمة منظومة في جسم الدولة، بسلطاتها كافة، ومجتمعها المدني والاهلي، وقطاعها الخاص وجامعاتها ومدارسها وبلدياتها وثقافتها وإعلامها... توالي عوكر. إما ساجدون لها، وإما خائفون من غضبها، أو راغبون بالتزلف لها.

ليس المطلوب ممن تقدّم ذكرهم أن يكونوا أبطالاً. أقصى ما تقتضيه الحدود الدنيا من الكرامة الوطنية أن يتصرفوا كما لو أننا لسنا في مستعمرة. لا نزعم استقلالاً، ولا سيادة. انحدرت طموحاتنا إلى كلمة لا أكثر. موقف وحسب. موقف لا يشبه ما ارتكبوه، ولا ما قاله وزير الطاقة ريمون غجر عندما سئل عن رأيه بإمكان الاستعانة بعروض صينية لإقامة معامل لإنتاج الطاقة الكهربائية، فردّ بأن البعض يريد أن يحارب الغرب بنا. لا نطلب منكم قتالاً، ولا مواجهة، ولا بطولة. كل ما نريده هو ان تقوا أنفسهم، وان تقونا الذل. أذقتمونا منه الكثير. يكفي أن وزيرة العدل تطلب إحالة قاضٍ على التفتيش، لأنه قال للسفيرة الأميركية إن ما تقوم به يتجاوز حدودها، فيما قائد الجيش، العماد جوزف عون، يطلب مكافأة الرئيس السابق للمحكمة العسكرية، العميد حسين عبدالله، بإرساله لدورة تدريبية في الخارج، لأشهر. دورة لا تهدف إلى تحسين قدرات الضابط الذي شارف على التقاعد، بل إلى منح عبدالله مكافأة مالية على حُسن تنفيذه قرار إطلاق العميل عامر الفاخوري. لم نعد نسأل معاقبة مَن يذلّنا. لا نريد سوى ألا يُكافأ، وألا يُعاقَب رافض الهوان.

...... ......


القاضي الذي وقف وحيداً في وجه الإمبراطوريّة

رضوان مرتضى

وقف القاضي محمد مازح وحيداً. لا أثر لأحدٍ من الثوّار الجدد على بوابة قصر العدل. بضعة أشخاص حضروا للتضامن مع القاضي الذي وقف في وجه أميركا، لكن ذلك لم يكن كافياً. لم يتفجّر نبض الثورة أمام قصر العدل حيث تُسوّى ملفات الفاسدين. كان الأجدر أن يُقفل هذا القصر ليُمنع أي كان من الاقتصاص من مازح. هنا يدخل كل من حاكم مصرف لبنان وفؤاد السنيورة ومتعهّدو الدولة معززين مكرّمين ثم يخرجون بصكّ براءة يمهره قاضٍ عيّنته السياسة. ينتظرهم السائقون لديهم في مرأب السيارات ليعودوا بهم من حيث أتوا. لكن مازح حضر وحيداً. كتب استقالته ثم غادر وحيداً. قاد سيارته لساعة ونصف ساعة حتى وصل إلى بيته في الجنوب. ولم يتمكن حتى من غسل عبء هذا اليوم لأن المياه كانت مقطوعة في منزله.

لم يحظَ مازح بالاحتضان الذي حازه مفوض الحكومة بيتر جرمانوس. هذا القاضي الذي اشتُبه في تورّطه في ملفات الفساد حمته السياسة ومنعت عنه المحاكمة لأشهر طويلة. حتى إنّه تمرّد على السلطة القضائية، رافضاً المثول أمام هيئة التفتيش، لكن أحداً لم يجرؤ على المس به. بقي في مركزه حتى استقال بملء إرادته. أما قصة مازح، فذلك أمرٌ آخر.

عند الساعة الثانية من بعد ظهر أمس، وفي ديوان مجلس القضاء الأعلى في قصر العدل في بيروت، جلس مازح منتظراً للدخول لحضور الاجتماع الدوري للمجلس. خرج أحد القضاة لاستقبال القاضي مازح الذي طُلِب منه الحضور لمخالفته موجب التحفّظ في تصريحاته لوسائل الإعلام. وبعد السلام، سأله عن إجراء الوزيرة ماري كلود نجم بحقّه. فوجئ مازح سائلاً: «حوّلتني على التفتيش؟ مش محمد مازح اللي بروح على التفتيش. لا أقبل أن أحال على التفتيش. أعوذ بالله أن أحال على التفتيش». ثمّ طلب ورقة بيضاء ليكتب استقالته. حاول القاضي ثنيه، لكن من دون جدوى. طلب منه الدخول لمناقشة ما حصل أمام مجلس القضاء الأعلى، لكنه رفض. أخذ ورقة وكتب عليها: «حضرات السادة رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، أتقدّم لحضرتكم بإنهاء خدماتي من القضاء». قدّم كتاب استقالته ثم انصرف. اعتبر مازح أنّ قراره القضائي الذي منع بموجبه وسائل الاعلام من استصراح السفيرة الأميركية دوروثي شيا واعتبار تصريحاتها تهديداً للسلم الأهلي، كان قانونياً وجرى تسييسه، «وهذا ما لا أرضاه حفاظاً على كرامة القضاء». وفي أول تعليق له بعد استقالته، كتب على صفحته على فايسبوك: «ألستُ على حق؟ بلى بإذن الله. إذاً لا أُبالي إذا ما وقعت على العقوبة أم وقعت العقوبة عليّ. الحمد لله رب العالمين وبالإذن من سيدي الإمام الحسين وسيدي علي الأكبر».

ختم مسيرته القضائيّة بشرفٍ عظيم، إذ قال «لا» للدولة الأعظم في العالم

أحيل القاضي على التفتيش، رغم أن مجلس القضاء سبق أن طمأنه إلى أنّه لن يُساءل عن قراره المتعلق بالسفيرة الأميركية. وبعدما كان قد اتّخذ قراره بالاستقالة، تراجع على اعتبار أن استدعاءه مرتبط بالتصريح لوسائل الإعلام. ولكن، بعدما أحيل على التفتيش بقرار من وزيرة العدل، استشعر بأنّ هناك مكيدة تُدبّر له، وقرر الاستقالة. يقول مازح لـ«الأخبار»: «استقالتي نهائية ولن أتراجع عنها». أراد هذا القاضي أن يُسجّل موقفاً للتاريخ. رفض الذُّل، وواجه وحيداً.

اليوم، يُنتظر أن يُبدي مجلس القضاء الأعلى رأيه في الاستقالة، على أن تبتّها وزيرة العدل. الأخيرة، في اتصال مع «الأخبار»، قالت: كل قاضٍ حُرٌّ بقراره. بسبب هذا القرار، أُثيرت بلبلة كبيرة. وانقسم الرأي العام بين مؤيد للقاضي ومندد بقراره. لذلك، وحرصاً على القاضي نفسه، طلبت من التفتيش القضائي، وهو هيئة إشراف على القضاء وليس كإجراء عقابي، أن يُتابع هذه القضية. وبالتأكيد أنا أحترم القاضي وأحترم قراره».

لا تُشبه أيام القاضي محمد مازح سابقاتها. يعيش الرجل أياماً استثنائية. في الليلة الماضية، ناجى «أبو رضوان» ربّه وبكى. يقول إنه ذرف الدموع «لأنّ الله عوّضني عن كل الغُبن الذي عشته في السنين الماضية. ختم مسيرته القضائية بشرفٍ عظيم، إذ قال «لا» للدولة الأعظم في العالم.

تعليقات: