الكاهن المشرقي الذي دافع عن مارونيّة حضاريّة متنوّرة

الأب يواكيم مبارك المتخصّص في العلوم الإسلاميّة والعربيّة والنهضوية والمدافع عن فلسطين - في باريس أواسط الثمانيات
الأب يواكيم مبارك المتخصّص في العلوم الإسلاميّة والعربيّة والنهضوية والمدافع عن فلسطين - في باريس أواسط الثمانيات


في 24 أيار (مايو) 1995، توفي في باريس العلّامة الأب يواكيم مبارك المتخصّص في العلوم الإسلاميّة والعربيّة والنهضوية والمدافع عن فلسطين والمحرّك للحوار الإسلامي المسيحي. بعد ربع قرن على غيابه، ماذا فعلنا من أجل تكريمه ونشر نتاجه وتعريف الجيل الجديد بفكره وريادته؟ ماذا فعلت الكنيسة المارونية من أجل أحد أبنائها الرواد في العلم والتقوى؟ لماذا هو مغيّب عن الحضور الفكري والإنساني؟

ولد في 20 تموز (يوليو) 1924 في بلدة كفرصغاب قضاء زغرتا الزاوية. تلقى علومه في «إكليريكيّة غزير»، و«جامعة القديس يوسف – بيروت»، و«إكليريكيّة سان سولبيس» في باريس. سمي كاهناً سنة 1947، ودرس في جامعات فرنسا وبلجيكا، وشارك في أعمال المجمّع المسكوني الثاني (1965).

بعد غياب أربعين سنة قضاها في فرنسا، يتعلم ويبحث ويؤلف، عاد الخوري يواكيم مبارك في عام 1984 إلى لبنان حاملاً حلمه بإصلاح كنيسته ووطنه، صارخاً: «افتح يا لبنان أبوابك، تلك الأبواب الموصدة بوجهي».

خلاصة تجربته ومسيرته، جسّدها في مشروع حياته وهو الدعوة إلى «المجمع اللبناني الثاني» (المجمع اللبناني الأول عُقد عام 1736)، على أمل أن يكون المجمع الطريق إلى الإصلاح والتجديد من أجل إحداث نهضة في الكنيسة تعيدها إلى دور الريادة، بعدما رأى المارونية تتراجع وتتقهقر وتتدهور. وكان قد عضّ على الجرح والتزم الصمت طوال أربعين سنة وأكثر، مع زملاء له عملوا من أجل كنيسة البشر لا الحجر، لأن الغاية هي في الإنسان لا في السبت، وإصلاح السبت لإطلاق حرية الإنسان.

عاد إلى لبنان، ليطرح مشروعه الإصلاحي ردّاً على ما حلّ بالمارونية جرّاء الحرب. فالتهجير الذي تسببت به هذه الحرب، يمثل أوّل تراجع للمارونية في امتدادها المتواصل من شمال سوريا إلى لبنان إلى الأراضي المقدسة والشرق فالغرب، بخاصة أنّ هذا التراجع الجغرافي يخبئ وراءه تراجعاً أكثر خطورة على صعيد الإيمان والأخلاق الخاصة والعامة، ويهدّد بفقدان المارونية قاعدتها اللبنانية. كما أنّ الوضع الكنسي أصبح مهدّداً بالفوضى على مثال الوضع السياسي والاجتماعي في حال عدلت السلطة الكنسية عن تبنّي المشاريع الإصلاحية المنطلقة من القاعدة.

انكبّ في صومعته في قنوين على كتابة تطلعات الكنيسة وصياغة العمل المجمعي الإصلاحي، فوضع خمسة خطوط عريضة للعمل الإصلاحي وقد حددها كما يلي:

الخطّ الأول: «إحياء التراث السرياني الأنطاكي، لأن هذا العمق الروحاني يجمع كل العائلات الأنطاكية على تنوّعها بالرغم من اختلافاتها». وكان هدفه توحيد الكنائس الشرقية، خاصة الكاثوليكية والأورثوذكسية، في مجمّع واحد.

الخطّ الثاني: إطلاق الرسالة الإنجيلية في التعليم والنشر والإبداع الثقافي، وتغيير صورة الكنسية التي تشوّهت في الحرب.

الخطّ الثالث: الالتزام الوطني «الذي يحمينا من التقوقع في الطائفة المغلقة والخلط الأصولي المرفوض، وهو الذي يقتضي منا الانفتاح والمشاركة والارتباط مع الغير لنكون مثالاً عالمياً للعيش الواحد الكريم والحر».

الخطّ الرابع: «أن تسخّر كنيستنا كل طاقاتها في سبيل الترقي الاجتماعي والاقتصادي وفي سبيل الإنماء، أي أن تحقق كنيستنا تضامنها الفعلي مع عامة الناس... مع أصالتها الشعبيّة».

الخطّ الخامس: تنظيم البيت الماروني، أي إعادة «تنظيم المارونية، انطاكياً واغترابياً».

موارنة النهضة العربية

لم تتجاوب السلطات الكنسية مع تطلعاته الإصلاحية، فتم تطويق مبادراته. وهذا الموقف السلبي من الأب يواكيم ليس مستجداً، بل هو نوع من العقاب ضد مسيرته ومواقفه. لقد سبق واستبعد من السلطة الكنسية لأنه تميز بالتجدد والإصلاح والانفتاح، فهو دعا إلى مشروع للآتي، وكان لبنانياً ومشرقياً بمارونية حضارية لا تختصر بطقس ولا تتحجر في تقليد ولا تجمّد في مؤسسة.

أضاء على مشاركة الموارنة الفعالة في مجالات النهضة العربية. وهو القائل «كان المطران جرمانوس فرحات بين حلب وروما ولبنان، أول واضع للقواعد العربية في الحداثة، أي سابقاً بأكثر من قرن، عمل أهل الشام ولبنان عندما أطلقوا الحداثة العربية في وادي النيل. وهذا هو بالفعل الحدث الأكبر الذي يجعلنا نتعرف إلى أئمة النهضة في أعمال بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وخليل سركيس وأمين الريحاني وجبران خليل جبران ومي زيادة».

ويستخلص: «خصّصتُ الموارنة بهذا العرض لأشير بوضوح إلى أن جميع الذين ذكرتهم وغيرهم، هم من الأقحاح الموارنة لأنّهم من الموارنة الرافضين الاستبلشمنت الماروني... هذا إذاً هو البعد الثقافي الماروني الأصيل في النهضة، وهذا هو البعد الرافض في حقيقته المثالية وفي صحته الإبداعية، أي في النقد الذاتي الذي هو في أساس كل ثقافة وتلاقٍ ونهضة».

مؤلفاته

أصدر كتباً في موضوعات مختلفة منها «أسماء الله وصفاته في القرآن»، «ابراهيم في القرآن والإسلام»، «الروزنامة اليهودية والمسيحية والإسلامية»، «المسلمون»، «الخماسية الإسلامية المسيحية»، «قضية القدس»، «الخماسية الأنطاكية المارونية»، وترك أيضاً مؤلفات راعوية وترجمات ومؤلفات باللغة الفرنسية.

الخوري يواكيم مبارك هو استمرار لبعد ماروني أساسي تجسد في التاريخ والتراث «هو بعد العصيان والتمرد والرفض... فالموارنة هم أولاً وأخيراً من العصاة والرافضين والمتمردين» حسب قوله.

ويتابع الأب يواكيم استعراض مسيرة الرفض الماروني التي تعاكس المفاهيم السائدة فيقول: «وليس صحيحاً أن الموارنة والوا الفرنجة بالطريقة المبسطة التي تتناقلها كتابات قديمة وحديثة هي أقرب إلى الدعاية منها إلى التاريخ. أولاً، لأن الموارنة لم يتّفقوا يوماً على شيء، وثانياً لأن حكم الموارنة في مرحلة الصليبيين حكم سائر الفئات المشرقية التي تعاملت معهم وفقاً لمصلحتها، قيادات وجماعات. وحتى في أيام المتصرفية التي يقال إنها صنعت لحماية الأكثرية المارونية في لبنان القديم، فإني فخور بانتماء عائلي يشدني إلى حروب يوسف بك كرم، أي إلى الذي ناهض المتصرفية، لا لأهداف شخصية أو طائفية، كما يزعمون، بل لكونه لم يقبل أن يحكم لبنان في ظلّ الدول الكبرى، إلا لحاكم لبناني. والمتمرد الأهدني هذا هو الذي راسل من منفاه ذاك المنفي الجزائري الكبير في خلوته الدمشقية، وكان موضوع المراسلة بين يوسف بك كرم والأمير عبد القادر قيام مملكة عربية».

بعض غلاة الانعزالية اتهموه بأنه «عاد إلى مارونيته بعد رحلة طويلة في الإسلام والمسكونية والسياسة». وفي الاتّهام إشارة إلى غوصه بعمق وانفتاح على العالم الإسلامي، فكان مؤلفه الشهير «الخماسية الإسلامية المسيحية» (1972)، واهتمامه بالحوار المسيحي الإسلامي، وصداقته بكبار رجال الدين والعلم في الإسلام، منهم الإمام موسى الصدر وكمال جنبلاط، وتبوئه مركز مستشار ومعاون في «معهد دار الإسلام» (جامعة الأزهر) في القاهرة (1954 – 1975). كما كان يدافع عن حق الشعب الفلسطيني والقضايا العربية العادلة. ولم «يتسامح مع من ينادي بلبنان الصغير المنحصر بين نهر الموت وجسر المدفون». ورفض أن تتحول المارونية من كنيسة إلى طائفة لا ينظر إلا في مصالح أعضائها.

نظر إلى الموارنة من ضمن البيئة الواسعة التي يعيشون فيها. في «رسالة إلى أبناء وطني من المسيحيين»، أطلق صرخة وجهها في أيار (مايو) 1969 جاء فيها: «تعاني المنطقة التي ينتمي إليها لبنان من داءَين عظيمين: الاحتلال الصهيوني في فلسطين والتخلف الاقتصادي والاجتماعي. وكلاهما أيضاً مفسدان في الأرض. وهناك اتصال وتجاذب بين الظاهرتين... من هنا ضرورة القيام بواجبَين في وقت واحد: إخلاء فلسطين من الصهيونية وإرساء العدالة الاجتماعية في العالم العربي...».

«إذا شاء المسيحي اللبناني أن يتحرر من الخوف والأنانية على حد سواء، وأن يتجاوز مرحلة التعايش التي كانت ضرورية للوصول إلى مؤالفة متبادلة، عليه الدفاع عن الجماهير العربية المحرومة التي وقعت كفقراء يسوع المسيح تحت سيطرة المحتل الصهيوني والمستبد المحلي المأجور للقوى الأجنبية».

ما هو مفهومه للعروبة التي رفعها إلى قضية؟ يشرح الأب مبارك: «من يقول عروبة arabité يرفض العرباوية arabisme، وهي نقل خاطئ لكلمة أعرابية لها طابع بدوي عنصري. لذلك التزم بالعروبة كقوة لقاء واتحاد تنتشر دون أية تفرقة وتمييز على مجمل العالم العربي وسكانه. فإلى المسلمين، يحتاج المسيحيون لتشكيل أمة المؤمنين التي نادى بها القرآن». ويستخلص: «إن الالتزام الصادق بالعروبة يتطلب في آن واحد تحرير المجتمعات المسيحية والإسلامية من التأثير الطائفي ومن كل آثار الأنظمة الدينية البالية، لتتطور نحو نموذج مجتمعي ديموقراطي متساوٍ، يؤمن للجميع الحقوق والآمال نفسها».

اعتبر أنّ المنطقة تعاني من داءين: الاحتلال الصهيوني في فلسطين والتخلف الاقتصادي والاجتماعي

الراحل الكبير كان يعتبر نفسه من الموارنة الرافضة والعصاة والمتمردين ودعاة الإصلاح والتجديد، وسعى إلى مجمع لبناني ثانٍ، لكنه لم يُفلح بسبب المماطلة والتردد والفوضى في الكنيسة المارونية، فاختار منفاه الطوعي في صومعته الباريسية بعدما أغلقه في وجهه أبواب الكنيسة المارونية، فكانت وصيته أن يدفن في فرنسا طالما أبواب الإصلاح والتجديد مقفلة. عذراً أبونا يواكيم مبارك، رغم مساعيك وبعد ربع قرن على غيابك، ما زالت أبواب الإصلاح والتجديد في الكنيسة المارونية غير مشرعة، وأنت الموجود في الوجدان الأنطاكي والمسكوني مغيّب عن الحضور في الوعي العام لأبناء الرعية والجمهور المشرقي. فأين الكنيسة اليوم من دعوتك إلى الهوية الأنطاكية والتنسك والزهد؟

هل الكنيسة المارونية عصية على التطور؟

أنصفوا الخوري يواكيم: أولاً اعترفوا بدوره الرائد في الإصلاح الديني، وثانياً التزموا نهجه الفكري الأخلاقي التجديدي، وأخيراً كرّموه خلال هذه السنة وهي ذكرى مرور ربع قرن على غيابه. نداء موجه أولاً إلى الكنيسة التي نذر حياته فيها وأعطاها وزنات وازنة من فكره وزهده. كما أدعو محبيه إلى تجسيد نهجه في مبادرات وأعمال تعيد الروح إلى رسالته الأنطاكية وتجدّد دوره في مشروع للآتي يشمل الإصلاح الكنسي والموالفة المسيحية الإسلامية والعلمانية المشرقية والعروبة الحضارية.

* سركيس أبوزيد - كاتب وناشر لبناني

الأب يواكيم مبارك في وادي قاديشا (شمالي لبنان) العام 1987
الأب يواكيم مبارك في وادي قاديشا (شمالي لبنان) العام 1987


صورة للأب يواكيم مبارك تعود إلى 1947،عام ترسيمه كاهناً
صورة للأب يواكيم مبارك تعود إلى 1947،عام ترسيمه كاهناً


تعليقات: