رياض سلامة الحاكم الثري لبلد مفلس


حاكم مصرف لبنان منذ أكثر من 25 عاماً، المسؤول الأول عن السياسة النقدية بدءاً من تراكم الدين وصولاً إلى الهندسات المالية والكابيتال كونترول و"الهير كات" ظهرت وثيقة تقول إن ثروته أكثر من ملياري دولار، فيما اللبنانيون مفلسون في دولة مفلسة!

جاءتنا الزميلة ديما صادق ذات صباح من شهر شباط/ فبراير الفائت، تحمل معها وثيقة سرية أخبرتنا أن فيها تفاصيل مذهلة تكشف أن حجم الثروة التي جمعها حاكم مصرف لبنان خلال العشر سنوات الماضية تتجاوز قيمتها مليارَي دولار أميركي مودعة في مصارف في باناما وجزر الفيرجين البريطانية وسويسرا.

عند الوهلة الأولى بدا رقم المليارين غير واقعي بخاصة في ظل عدم توافر أي معلومات عن الجهة التي أعدت الوثيقة، ولكن التفاصيل والمستندات التي تضمنتها فضلاً عن المهنية العالية في صوغها جعلتنا نتريث في تجاهلها.

تحت عنوان “تقرير حول تحقيقات مالية” تكشف الوثيقة تفاصيل بشأن المنظومة المصرفية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي نجح بحسب معدها بالتهرب من الرقابة المفروضة على المعاملات بالدولار الأميركي عبر اعتماد “آليه معقدة من الصعب فهم مختلف نواحيها بشكل كامل”.

تتضمن الوثيقة صوراً وأرقاماً لحسابات يديرها سلامة مودعة باسم شقيقه رجا الذي كان على مدى سنوات، على ما تذكر الوثيقة، واجهة له، مثله مثل ماريان الحويك مديرة مكتب الحاكم التي قامت بحسب المستندات بتحويل أكثر من 400 مليون دولار من حسابات تملكها إلى حسابات كل من الشقيقين سلامة.

من بين تلك الحسابات، حساب في مصرف LGT في زيوريخ فتح في نيسان/ أبريل من عام 2011 يحمل الرقم 0026310، وله أهمية خاصة.

بحسب الوثيقة، الحوالات “الوحيدة والأساسية” لجهة إخراج الأموال من هذا الحساب كان هدفها تغذية الحسابات الشخصية لرياض ورجا سلامة في بلدان عدة، من بينها بنما وجيرسي وجزر فيرجن البريطانية. أما المفاجأة الأكبر والأكثر دراماتيكية هي في التفاصيل المتعلقة بالتحويلات التي غذت الحساب ومن بينها حوالة بقيمة 90 مليون دولار تم إرسالها في تاريخ 16 أيار/ مايو 2012 من شركة شام القابضة، وهي شركة رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام السوري بشار الأسد، الأمر الذي، في حال ثبوته، يفتح ملف علاقة سلامة بالنظام السوري…

توقيت الوثيقة

قبل الغوص في تفاصيل ما يلي، نرى ضرورة للتوقف عند نقطة محددة متعلقة بالتوقيت.

الوثيقة وصلت إلى أيدينا في لحظة استثنائية في أوج الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ السابع عشر من تشرين أول/ أكتوبر 2019. حصل ذلك تحديداً خلال المرحلة الزمنية التي شهدت تراجعاً في حجم التظاهرات الشعبية وتزايداً في أعداد اللبنانيين الواقفين أمام أبواب المصارف يستجدون أموالهم التي قيل لهم إنها لم تعد متوفرة.

بين أيدينا وثيقة تزعم أن ثروة رياض سلامة تتجاوز الملياري دولار على أقل تقدير. الموضوع أكثر من مغرٍ.

حاكم مصرف لبنان منذ أكثر من 25 عاماً، المسؤول الأول عن السياسة النقدية بدءاً من تراكم الدين وصولاً إلى الهندسات المالية والكابيتال كونترول و”الهير كات” والتخلف عن دفع استحقاقات “اليوروبوند”، ظهرت وثيقة تقول إن ثروته أكثر من ملياري دولار، فيما اللبنانيون مفلسون في دولة مفلسة!

هو من دون شك ليس المسؤول الوحيد، ولكنه شريك أساسي. التحدي الأول كان تحديد الجهة التي أعدت الوثيقة وهو ما لم نكن إلى حينه قد نجحنا بالوصول اليه. على مدى أسابيع، عرضنا الوثيقة على مصادر اقتصادية، وحقوقية وسياسية، وديبلوماسية، وأمنية في بيروت وفي باريس، التقت عند أهمية الوثيقة وجديتها من دون أن تستطيع أي منها أن تحدد بشكل قاطع مصدرها على رغم من إجماع حول انها على الأغلب وبسبب اللغة المعتمدة فيها معدة من قبل شركة تحقيق خاصة تم تكليفها من قبل جهة أخرى لأسباب سياسية أو شخصية.

لدى محاولتنا مقاطعة معلوماتنا مع معلومات زملاء في مؤسسات دولية، استطعنا ان نتحقق من بعض التفاصيل الواردة في الوثيقة، إلا أنها بقيت يتيمة المصدر وبالتالي غير قابلة للنشر على رغم التفاصيل المذهلة التي تجمعت لدينا.

تابعنا تحقيقاتنا وإن خفت وتيرتها مع بروز أزمة فايروس “كورونا” الذي بدا وكأنه حليف للسلطة في لبنان، وفي تعميقه للأزمة الاقتصادية.

في ضوء أولوياتنا المستجدة بفعل “كورونا” كان بإمكاننا أن ننسى أمر ألوثيقة يتيمة المصدر التي كشف عنها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والحقيقة هي أننا استمهلنا البحث، لولا الخطوات المتتالية التي قام بها سلامة.

بداية، وفي سياق تفاقم الأزمة الاقتصادية وتداعياتها بما فيها الإعلان عن أن أكثر من 50 في المئة من اللبنانيين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، قرر سلامة أن يصدر بياناً يعلن فيه السيدة ماريان الحويك مستشارة ممتازة لدى مصرف لبنان. ما هي إلا ساعات قليلة حتى بدأ حساب انونيموس عبر “تويتر” ينشر تفاصيل عن حسابات سلامة وشقيقه رجا وماريان حويك في مصارف خارجية.

مرة أخرى كان من الممكن أن تتوقف الأمور عند هذا الحد، فالتسريبات مبنية على الوثيقة نفسها يتيمة المصدر، إلا أن سلامة وعبر مقابلة مع قناة “أم تي في”، وضع حداً للغز، وقال إن الوثيقة أعدتها شركة International Cristal Credit Group المعروفة لدى الجميع بتقاريرها المزورة. سلامة أعلن أيضاً عن اسم مدير الشركة كيفن ريفاتون ومقرها المركزي في مدينة ليون الفرنسية.

للمرة الأولى ومنذ أسابيع، بتنا نملك خيطاً يصلنا بالجهة التي أعدت التحقيق. حتى لحظة كتابة هذه السطور لم نكن قد تمكنا من الوصول الى ريفاتون وسؤاله عن الموضوع، ولكن بحثاً معمقاً أولياً لم يلتق مع المعلومات التي أعطاها سلامة عن الشركة، على العكس فان كل المعلومات المتوفرة عن الشركة توحي بأنها ذات صدقية. تأسست عام 1997 في مدينة ليون الفرنسية، ولكنها من ذلك الحين فتحت فروعاً في أكثر من عشر دول من بينها لندن وهونغ كونغ والولايات المتحدة وكان آخرها في الكوت ديفوار ومكسيكو عام 2016. ثم أن وجودها الرسمي في فرنسا وخضوعها للقوانين الفرنسية وعدم ملاحقة السلطات الفرنسية لها، يجعل من ادعاء الحاكم بأنها معروفة بتزويرها للوثائق والحقائق ادعاءً ضعيفاً.

الأمور قد تحتاج إلى مزيد من التدقيق والتعمق ولكن لائحة شركاء وزبائن الشركة ومن ضمنها غرفة التجارة الأميركية الفرنسية ومنظمات دولية أخرى، لا توحي بأنها شركة ذات سمعة سيئة كما ادعى حاكم مصرفنا المركزي.

لم يكتفِ سلامة بهذا الحد، ففي مقابلة ثانية عبر “أم تي في” مرة أخرى، أخبرنا عن ثروة ورثها من أهله تجاوزت 23 مليون دولار، قبل أن يدخل إلى مركز حاكمية مصرف لبنان. سلامة قال إنه سيتابع الموضوع قضائياً ونحن سنتابع معه.

لن نحاكمه فهذا ليس دورنا. قرارنا بنشر الوثيقة كاملة جاء لوضعها في متناول الرأي العام بعد إعلان سلامة عن وجودها ونحن فعلاً وحتى الساعة لسنا واثقين إن كانت مزورة أو إن كان جزء منها على الأقل مزوراً.

لن نحاكم سلامة ولن نكون جزءاً من حملة تستهدفه دون غيره من شركائه في الفساد، سننتظر مع بقية اللبنانيين الخطوات التي ستؤخذ على الصعيد القانوني، ولكننا أيضاً لن نصفق له كما فعلت وسائل إعلام لبنانية كبرى.

لم تكن ماريان الحويك قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها. تحصيلها العلمي كان عادياً وبالكاد كانت تملك خبرة عملية، وعلى رغم ذلك كله، كلفها سلامة بإعادة هيكلة مصرف لبنان. قد لا تكون هذه هي نقطة البداية لهذه القصة، ولكنها من دون شك نقطة مناسبة لطرح بعض الأسئلة ومن دون أي حاجة إلى وثائق، حقيقية كانت أم مزورة.

برسم القضاء

مع بقية اللبنانيين سننتظر من القضاء أن يقوم بدوره فيما نقوم نحن بدورنا كصحافيين، نطرح الأسئلة الحقيقية ونبحث عن أجوبة تقنع عقولنا وتحترم ذكاء قرائنا. وفي سياق سعينا لكشف الجهة التي أعدت الوثيقة، تجمعت لدينا معلومات تطرح علامات استفهام جدية حول الحاكم الذي كاد يصبح رئيساً في زمن ليس بعيد.

لم يكن الأمر بعيداً من المنال، وفي وثائق ويكيليكس تفاصيل تؤكد ذلك، ولكن هذا موضوع آخر ليوم آخر.

الملايين التي قال سلامة إنها ثروته التي جمعها أو ورثها، ليست كافية لتبرير نمط الحياة الذي يعيشه، فأصحاب المليارات لا الملايين هم الذين يستطيعون أن يقيموا حفل زواج لأبنائهم في قصور مصنفة مثل قصر رامبويي، وهو واحد من أشهر القصور التاريخية في فرنسا وكان من أماكن المتعة المفضلة للويس السادس عشر وماري انطوانيت والذي صار مركز الإقامة الصيفية لرؤساء الجمهورية الفرنسية.

لن تقتصر الأسئلة على نمط حياة سلامة وستكون أكثر إلحاحاً عندما تتناول طريقة إدارته لواحدة من أهم المؤسسات العامة، بخاصة إذا كانت هذه المؤسسة اليوم مسؤولة عن إفلاس الدولة وإفلاس مواطنيها.

لماذا قرار إعادة ماريان حويك إلى مصرف لبنان في هذه الظروف؟ لماذا تم توظيفها أصلاً قبل 20 عاماً؟ في مقابلة معها مع مجلة Bespoke البريطانية، تتحدث الحويك بثقة عن علاقتها الاستثنائية بالحاكم، وتخبر بالتفاصيل عن الفترة التدريبية التي أمضتها في مصرف لبنان قبل أن تكون قد حازت شهادة الماجيستير، وكيف طلب منها الحاكم عدم الالتحاق بجامعتها والبقاء كموظفة في مصرف لبنان.

لم تكن ماريان الحويك قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها. تحصيلها العلمي كان عادياً وبالكاد كانت تملك خبرة عملية، وعلى رغم ذلك كله، كلفها سلامة بإعادة هيكلة مصرف لبنان.

قد لا تكون هذه هي نقطة البداية لهذه القصة، ولكنها من دون شك نقطة مناسبة لطرح بعض الأسئلة ومن دون أي حاجة إلى وثائق، حقيقية كانت أم مزورة.

ماريان حويك
ماريان حويك


الوثائق مترجمة
الوثائق مترجمة












تعليقات: