الدولار في حقبة كورونا: فضيحة الصرّافين والسلطة

اليوم هو موسم الصرافين، فوحدهم يملكون هامش مناورة (المدن)
اليوم هو موسم الصرافين، فوحدهم يملكون هامش مناورة (المدن)


بَنَت المصارف بعد انتهاء الحرب الأهلية، امبراطورية قوية، راكم أصحابها ثروات لا تُحصى، بالتواطؤ مع أرباب السلطة السياسية، الذين أبوا بناء دولة عمادها مؤسسات تعمل تحت ظل القانون.

في ظل سطوتها، كان الظنّ بأن امبراطورية المصارف هي "نهاية التاريخ"، تيمّناً بتنبوءات فوكوياما. ولأن التاريخ لا يُحدُّ برأي ولا تقف في وجه عجلته حتميةٌ، اهتزّ عرش المصارف، فكشفت التصدّعات عن طامح فتيّ يسعى للسيطرة، ألا وهو قطاع الصرّافين. وشكّلت أزمة شح الدولار، رحم الولادة، فيما أعطى فيروس كورونا الخليّة الحية التي تمنح الحياة للطامح الجديد. وفي صراع الأباطرة والطامحين الجدد بالجلوس على العرش، يُعتَصَرُ الشعب.

تراجيديا مضحكة

ما كان سعر الدولار ليتبجّح بنفسه أمام الليرة اللبنانية، لو لم يجد من يزرع في رأسه حب التعالي. وهكذا خصال لا تأتي إلاّ من أصحاب الشيَم الانتهازية، ممّن يعيشون على آلام الآخرين.

فسعر الدولار ارتفع وازدهر بدعمٍ من الصرافين الذين يكتنزونه ويقنّنون بيعه للناس، بغية الاستفادة من فارق السعر الهائل، الذي سترسو عليه أزمة شح الدولار، بعد اختراع مخرجٍ ما، يستند غلى حزمة قروضٍ وإجراءات سياسية واقتصادية مرهقة للمواطنين.

وحرية حركة الصرافين التي يرعاها مصرف لبنان، لم تعد سرّاً، وإن وُضِعَ في الواجهة التعميم الذي حَمَلَ رقم 13207، الذي طلب من خلاله حاكم المصرف المركزي رياض سلامة من كافة مؤسسات الصرافة، "التقيّد، استثنائياً، بحد أقصى لسعر شراء العملات الأجنبية مقابل الليرة اللبنانية لا يتعدى نسبة 30 بالمئة من السعر الذي يحدده مصرف لبنان في تعامله مع المصارف. والامتناع عن إجراء أي عملية صرف لا تراعي النسبة المحددة". فهذا التعميم بات تراجيديا مضحكة في ظل الواقع الحالي. وتزيد من مهزلته، العبارة التي يُفترض بأنها ستردع الصرافين، إذ توعَّدَ التعميم المخالفين بـ"تطبيق العقوبات القانونية والإدارية". وأصغر طفلٍ في هذه الجمهورية بات يعلم مفاعيل التهديدات الصادرة عن مؤسسات الدولة.

الأزمة عميقة

ليس التهكّم على التهديدات أو التلويح بالعقوبات دعوةٌ لعدم الالتزام بالقوانين، بل هو دعوة للسلطة السياسية والقائمين على تسيير مؤسساتها، لتطبيق القوانين والقرارات بصورة صحيحة وفعلية، والكفّ عن محاولات الاختباء خلف بعض ردود الأفعال، التي لا يمكن وصفها سوى بأنها "لزوم المشهد"، أو بأنها عمليات تجميل للواقع المأزوم. ولا نقول لعجز السلطة عن فرض قراراتها، لأن السلطة في لبنان ليست عاجزة، بل تمتلك من القوة ما يلزم لتهدم هيكلاً وتبني آخر، بإشارةٍ من إصبع هذا الزعيم أو ذاك، فكيف إذا توافق الزعماء على أمر؟

لذلك، فإن إرهاق عناصر المؤسسة العسكرية، وتحديداً عناصر أمن الدولة، في ملاحقة بعض الصرافين ممّن لا سَنَد سياسياً لهم، هو مؤشّر إضافي على عمق أزمتها وعقم سلطتنا. وما مسوّغات إعلان المديرية العامة لأمن الدولة توقيف ثمانية صرافين في البقاع، وثلاثة في جبل لبنان واثنين في عكار، يوم الخميس 26 آذار، بسبب "قيامهم بالتلاعب في سعر صرف الدولار الأميركي والمضاربة، مخالفين التعميم الصادر عن مصرف لبنان بهذا الخصوص، حين وصل سعر صرف الدولار عند بعضهم إلى حدود 2950 ليرة لبنانية، بالإضافة إلى قيام عدد منهم بالعمل بصورة غير قانونية"، سوى إمعان في تعميق الازمة.

فالملاحقة لا طائل منها سوى تخدير المواطنين، في ظل الثقل الجديد الذي يتمثّل بانتشار فيروس كورونا، بعد أن أثقلت الفاجعة الاقتصادية والنقدية، الشريحة الأكبر من المواطنين الذين شاهدوا أموال أرباب السلطة تُهرَّب إلى الخارج بمساعدة المصارف، وشاهدوا تأمين هؤلاء الأرباب، الأرضية الخصبة للصرافين، للانتفاع من الأزمة والتجكم بسعر صرف الدولار ضد الليرة.

يوميات الارتفاع

يشرب المواطنون فنجان القهوة الصباحي، ويفتحون وسائل التواصل الاجتماعي، ليتابعوا أعداد المصابين بالفيروس، وسعر الدولار. هُما الخبران الأهم الآن. لكن إن كان ضبط انتشار الفيروس أمراً خارجاً عن قدرة الدولة، فما هي ذريعة تفلّت سعر الصرف في ظل وجود تعميم لحاكم المصرف المركزي؟

الدولار يرتفع يومياً، والحاكم يعلم، وأيضاً كل سياسيّ أطرَبَنا بموشحات رفضه للفساد وسعيه لتطبيق القانون. وحين يُخالَفُ القانون أمام حاميه ولا يهتزّ الأخير، فما تفسير ذلك؟ أهناكَ سببٌ غير النوم أو التواطؤ؟

لم ينخفض سعر الدولار خلال الأسبوع الجاري عن 2500 ليرة، ولامَسَ 2800 ليرة بعد ظهر يوم الخميس، فيما المصرف المركزي رسم حدوده بما لا يتجاوز 2000 ليرة، ولم يتحرّك أحد. فهل الصرافون يرتدون قبّعات سحرية تُبعِدَ عين الحسد والدولة؟ ليتَ هذه الوصفة في متناول أيادينا لنُبعِدَ شبح الفيروس والأزمات المعيشية. لكن الحقيقة في مكان آخر، لا صورة لها سوى الفضيحة التي تمثّل فصلاً جديداً من حكاية السلطة التي تبحث في كل فصلٍ عن شريك يسهّل عملها. واليوم، هو "موسم" الصرافين، فوحدهم يملكون هامش مناورة يمكن استغلاله للالتفاف على القانون، بعد أن تقلّصت منافذ المصارف.

وعليه، إن كانت السلطة تُدرك حجم الأزمة التي تخنق البلاد، فلا سبيل أمامها سوى التخلي عن لعبتها المكشوفة، وتالياً، الكف عن تسهيل مهام الصرافين الذين يملكون تَرَفَ تسعير الدولار كأنه علبة فول أو "ضمة بقدونس"، وهو ما بشّرَنا به حاكم مصرف لبنان حين اعتبر الدولار سلعة كأي سلعة اخرى في السوق، تخضع لمنطق العرض والطلب. فالحلول المجتزأة التي تبحث عنها السلطة، لتخفيف وطأة الضغط على المواطنين، لن تكون سوى سبباً آخر يُضاف لأسباب الانفجار الآتي، غير المعروف توقيته. وحينها، لن ينفع كورونا ولا ندم. فمن أحرَقَ سيارته اعتراضاً، سيحرق غداً صرّافاً أو مصرفاً او زعيماً أو إلهاً.. وتجنباً لتلك اللحظة، على حاكم مصرف لبنان أن يبادر إلى إعادة الاعتبار لقراره، وضبط سعر صرف الدولار، لأنه قادر على ذلك بقوة القانون.

تعليقات: