المصارف اللبنانية تحارب كورونا: رشوة بغلاف الإنسانية

محاربة فيروس كورونا هو حجة مثالية لإظهار تعاطف المصارف (Getty)
محاربة فيروس كورونا هو حجة مثالية لإظهار تعاطف المصارف (Getty)


مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والنقدية، وتهديدها الأمن الاجتماعي للشعب، رفضت المصارف التخلّي عن فتات أرباحها المتراكم عبر عقود. بل كشفت عن أنيابها ونهشت بقراراتها أموال صغار المودعين ولم ترأَف بحالهم وسط الضغوطات.. وفجأة، ظهر الجانب الانساني لجمعية المصارف المؤلفة من تحالف السياسة مع المال. أعلنت الجمعية بعد لقاء وفدها برئيس الحكومة حسان دياب، تبرّعها بمبلغ ستة ملايين دولار لشراء 120 جهاز تنفس، وتجهيز أجنحة خاصة لمعالجة المصابين بفيروس كورونا في عدد من المستشفيات الحكومية، في مختلف المحافظات اللبنانية.

جمعية خيرية؟

لو أننا نعيش في زمن السحر والمعتقدات الغيبية القديمة، لقلنا أن الآلهة نفخَت من روحها في قلوب أصحاب المصارف. لكننا في زمن العلم والتكنولوجيا، زمنٌ اختبرنا خلاله التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في العالم، وأيقنّا أن المصارف ليست جمعية خيرية، بل هي فخر الصناعة الرأسمالية المتطرّفة. فماذا وراء الانسانية المفاجِئة؟

وعليه، إن التنازل عن ستة ملايين دولار، لم يكن بدافع الانسانية. فالمصارف لم ولن تكترث للحالات الانسانية. فلو كانت الانسانية مرحّب بها لدى المصارف، لما احتجزت أموال صغار المودعين وساعدت في تهريب أموال السياسيين وكبار المودعين. ولما أجبرت صغار المودعين على تقبيل الأيادي (مجازياً) عبر تقديم اثباتات تفيد بأن الأموال المحوّلة هي لغرض العِلم أو تلقي العلاجات الطبيّة. فالشريحة الكبرى المصابة بفيروس كورونا، أو المعرّضة للاصابة به، تنتمي لفئة صغار المودعين. فهل تنتظر المصارف الجنازة لتسير فيها وتنوح؟

ومع استبعاد ستار الانسانية، لماذا تنازلت المصارف عن حفنة الأموال هذه؟

تعزيز التفاوض

استنفذت السلطة الحلول السطحية التي تفيد في تخدير الألم الناتج عن الأزمة، ولم يبقَ أمامها سوى العمليات الجراحية، وأولى العمليات، هي هيكلة الديون. ومن ضمن جملة العمليات الضرورية، إعادة النظر بحجم القطاع المصرفي، الذي بات مجبراً على تقليص حجمه عبر الدمج وغيره من الطرق، خاصة وأن الأزمة الاقتصادية والنقدية كشفت عن خطر وقوع بعض المصارف في فخ الافلاس. وبالتأكيد، تحاول المصارف التفاوض مع أركان السلطة، أي شركائها المخلصين، بهدف إيجاد حلول تحمّل المواطنين العبء الأكبر.

من هذا المنفذ، تندرج خطوة المصارف للمساعدة في محاربة فيروس كورونا. فستة ملايين دولار قادرة على قلب المعادلة وتذكير الشركاء بأن المصارف كانت وستبقى ركيزتهم الأساسية ومصدر تمويلهم. فهذا ما جرى على مدى عقود حين وافقت المصارف على جذب ودائع الناس وإقراضها للدولة بفوائد مرتفعة، ليقوم الشركاء السياسيون بإهدار المال لمنافعهم الشخصية. ولهذا الجانب بحث يطول.

تحتاج المصارف وسيلة للضغط على شركائها في السياسة، فهيكلة الديون قد تصيبها، وخلط الأوراق في ما يخص حجم القطاع المصرفي، يحتاج الى نقاش داخلي بين المصارف والسياسيين، ولا ضير من ترطيب الأجواء مسبقاً. وهل هناك أرقُّ وأحنّ من تبرعات مالية في عزّ الحاجة؟.

شاي بالياسمين

قيمة التبرّع هي "شاي بالياسمين"، وكل من شاهد فيلم مرجان أحمد مرجان للممثل المصري عادل إمام، يعلم سرّ هذا الشاي. ويبدو أن شاي المصارف قد أتى بثماره سريعاً. فقد أكّد وزير المالية غازي وزني في حديث لصحيفة الفايننشال تايمز، "إننا نفكر في استخدام أموال المودعين لإنقاذ المصارف المتضررة من الأزمات، كجزء من إصلاح شامل للقطاع، وذلك عبر تحويل جزء من الودائع إلى أسهم في البنك".

موجة الانتقادات التي أثارها التصريح، دفع وزني إلى نفي ما ورد، مؤكداً أن سياسته "تقتضي بالحفاظ على الأموال باعتبارها حقاً مقدساً لأصحابها".

لكن النفي في خضم المسار الذي حفظه كل متابعي الأزمة، منذ ما قبل انفجارها في 17 تشرين الأول 2019، يعيد إلى الأذهان نفياً سابقاً كان بطله وزير المالية السابق علي حسن خليل. إذ أكد خليل مطلع العام 2019، اتجاه الدولة اللبنانية لاعادة هيكلة الدين، لكن وقع الإعلان جاء مخالفاً لتوقعات الجميع، وخاصة المصارف حاملة النسبة الأكبر من سندات الدين، فاستنفرت كل قواها للتعبير عن رفضها، فما كان من خليل إلاّ رمي المسؤولية على اللغة العربية، مؤكداً أن العبارات خانته، فالمقصود كان إعادة جدولة للدين وليس هيكلة، ليتّضح بعد أقل من 6 أشهر، أن الهدف الحقيقي كان الهيكلة، وأن الدولة كانت في وارد إجرائه، لكن المصارف أرادت كسب الوقت لتضع مخططاً يحميها من أثار الهيكلة، أو في أسوأ الأحوال لتخفيف الآثار. وحينها، دافع وزير الاقتصاد رائد خوري، وهو وزير ينتمي الى جمعية المصارف، عن خيار عدم اجراء الهيكلة، مؤكداً عدم وجود خطط لهيكلة الدين، وأن "حمَلَة السندات وأموال المودعين في أمان".

اللافت للنظر أن ملايين المصارف ظهرت وكأنها هبطت من مكان مجهول. فالمصارف تذرّعت بشح الدولار لتمارس أبشع أنواع الاحتجاز على ودائع الناس، لتخلق 6 ملايين دولار قادرة عن التنازل عنها بسهولة. فمن أين أتت السيولة؟.

لم يقتنع أحد من الجمهور أن المصارف لا تملك سيولة دولارية، والافراج عن هذا المبلغ الكبير، هو الدليل الأبرز، وهو بالتالي بمثابة إخبار للأجهزة الرقابية، مفاده أن المصارف تملك الدولار وتحجبه عن مستحقيه وأصحابه، وهو دليل على أن مصرف لبنان مشارك في هذه اللعبة عبر تغطيته كل القرارات غير القانونية التي اتخذتها المصارف منذ انفجار الأزمة.

وبالتوازي، هو إخبار أخلاقي يؤكد ابتعاد المصارف عن هذه الصفة، فلو أنها أفرجت عن الدولارات لصغار المودعين، لتمكّن هؤلاء من مواجهة كورونا عبر التزام الحجر الصحي في المنازل واحتمال التوقف عن العمل. لكن المصارف فضّلت إذلال أصحاب الأموال أكثر، عبر التأكيد أنها تحتجز أموالهم، فيما قرار الدولة الرسمية في يدها، وأنها قادرة على تلميع صورتها من جيوب الناس.

تعليقات: