ريـاض حمـد اللبنانـي ـ الفلسطيني وقصـة «انتحـار» معلـن

حمد في آخر صورة له
حمد في آخر صورة له


هـل قتلتـه «الحربـة» الإسرائيليـة لمساعدتـه أطفـال المخيمـات؟

غادر بسيارته، قبلها بلحظات كانت زوجته تترجل متجهة الى منزلهما. تفتح الباب وما زالت كلماته في أذنيها. أخبرها أنه يقصد الصيدلية للحصول على الادوية التي وصفها له طبيب الجهاز الهضمي. لكن الرجل لم يرجع، او لنقل رجع بعدها بأيام منتحراً ومقيد اليدين والرجلين ومعصوب العينين كما قيل.

قلقت الزوجة والابن والابنة جراء تأخره عن العودة ومعه الدواء. اتصلوا بأجهزة البوليس للسؤال عنه. بالأصح لطلب المساعدة في البحث عنه. لكن الاخيرة قالت انها لا تستطيع اعتباره مفقوداً كي تبحث عنه. كثير من الرجال يغادرون منازلهم في حالات مماثلة ثم يرجعون. القاعدة هي الانتظار مدة 24 ساعة وبعدها يمكن تسجيله في خانة المفقودين وتبدأ رحلة البحث عنه. كان ذلك في 14 الجاري، بعد يومين من الاختفاء تم العثور على الرجل البالغ من العمر 56 عاماً جثة هامدة في بحيرة ليدي بيرد. تم العثور اولاً على سيارته ثم على الجثة. الجثة كانت جثة الزوج المفقود رياض الصلح حمد اللبناني المولد الأميركي الجنسية معصوبة العينين مقيدة اليدين والرجلين.

لا ينتهي الموضوع هنا، بل يبدأ من هذه النقطة بالذات. من لحظة العثور على جثته تبدأ القصة. قصة الرجل الذي تم تسجيل وفاته في تقارير الشرطة باعتباره حادث انتحار. أي أن الرجل أقدم على إغراق نفسه في مياه البحيرة عن سابق اصرار وتصميم كما يقال. لكن الرجل لم يحاكم نفسه على فعلة ارتكبها ويصدر قراراً شخصياً بإزهاق روحه، او ان يقرر التخلص من الحياة على هذا النحو الذي عثر فيه عليه.

قبلاً لا بد من التعرف على رياض الصلح حمد الذي تقبلت عائلته التعازي به في بيروت. أولاً عائلة حمد من العائلات البيروتية العريقة في العاصمة قبل ان تتسع في الخمسينيات والستينيات. الدليل على قدمها ان جده هو عبد الغني حمد. ولمن لا يعرفون من هو عبد الغني حمد، او لا يتذكرون الاسم، نشير الى انه احد شهداء السادس من أيار الذين أصدر الديوان العرفي في عاليه بقيادة جمال باشا الجزار أحكامه بشنقهم. كان الجد اذن في عداد المعلقين على الأعواد، وهم مجموعة من الوطنيين الذين ناضلوا من اجل ازاحة النير التركي عن الأكتاف. الدليل الآخر على عراقة بيروتية العائلة ان اسم «رياض الصلح» هو اسم مركب من اسم شخص واسم عائلة. اي انه اسمان في اسم واحد، وطبعاً اسم «رياض الصلح» الذي اطلق على المولود كان تيمناً بأول رئيس وزراء لبناني بعد الاستقلال، كما هو معلوم. العائلة التي تقيم الآن في محلة قصقص هي من العائلات البيروتية العادية التي تعمل في قطاع الأفران وغيره من مصادر الرزق المتواضعة. وكالكثير من الأبناء غادر رياض الشاب الى الولايات المتحدة الاميركية وعمره سبعة عشر عاماً. وهناك اكمل دراسته وحصل على شهادة الماستر قبل ان يزاول التدريس منذ أكثر من عقد في مدرسة متوسطة في المكان الذي يقيم فيه، اي اوستن في ولاية تكساس. وفي سنوات الدراسة والتخرج والعمل حصل رياض على الجنسية، وتزوج ومارس عمله وعاش مع عائلته في بيت متواضع كابناء الطبقة التي ينتمي اليها في مجتمعه الجديد. أيضا حافظ على علاقة مع وطنه الأم ومع شقيقيه وتردد مرات عدة على البلاد.

الحادث وعلامات الاستفهام

حتى هنا تبدو الامور عادية او تشبهها. شاب لبناني يهاجر الى الولايات المتحدة، يعمل ويدرس حتى ينال الماستر يعمل في الجامعة أولاً ثم يتجه نحو التدريس في المرحلة المتوسطة ويمارس حياته العادية. مع ذلك سرعان ما تبرز كلمة «لكن» بدءاً من حدث العثور على الجثة. لن نتحدث عن تلكؤ أجهزة البوليس في البحث عنه. خصوصاً ان حالات فقدان الأشخاص ذكوراً وإناثاً مقلقة للمجتمع الاميركي وغالباً ما تتدخل فيها أجهزة التحقيق الفيدرالية نظراً لخطورتها وشيوعها ودوما بعد التأكد من الاختفاء، اي بعد 24 ساعة على الإعلان. اذن يجب صرف النظر عن احتمال الاتهام بالتلكؤ هذا والبحث في ما يتعداه. مع ذلك هناك الكثير في شخصية رياض حمد ينبغي التعرف عليها لوضع علامات استفهام حول «انتحار» الرجل. اولا البعض وصف حمد بأنه ناشط فلسطيني من اجل السلام وهو معروف أميركياً بهذه الصفة. وكان يمارسها انطلاقاً من قناعته بالديموقراطية الاميركية التي تتيح له إعلان آرائه دون قيد، شريطة الالتزام بالقوانين والانظمة. وقد مارسها بجرأة وشجاعة نادرتين على أي حال. عبر رياض عن مواقفه ونشاطه بأشكال متعددة من ضمنها المشاركة في ندوات ومحاضرات ومؤتمرات حول قضايا الشرق الاوسط. أي القضية الفلسطينية والاحتلال الاميركي للعراق وافغانستان. عرف عنه انه من القادرين على التعبير عن وجهة نظره بلغة قوية. لم يعلن يوماً عن تضامنه مع منفذي العمليات الانتحارية التي توصف بالاستشهادية أياً كانت تستهدف، بل كان ممن يدينون العنف من أي جهة. في الوقت ذاته كان مع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة كيانه المستقل على ترابه الوطني وبالتأكيد من دعاة إنهاء الاحتلال الاميركي لكل من العراق وافغانستان.

لكن مواقف رياض لم تكن مجرد مواقف خطابية في المنتديات المتاحة او بين زملائه وتلامذته في المدرسة. فقد دخل في الجانب العملي من خلال تأسيس برنامج لدعم الأطفال الفلسطينيين. الاطفال الفلسطينيون الذين ساندهم لم يكونوا في فلسطين فقط، بل ايضاً في ديار الشتات. وانواع المساعدة التي قدمها لهم كانت متعددة وتمت اما بطريقة مباشرة لأطفال ذوي اوضاع صحية صعبة او عبر الجمعيات الكنسية التي تعمل في فلسطين ولبنان. مثلا يروي أديب قعوار انه راسله بشأن ثلاثة صغار فلسطينيين في مخيم عين الحلوة قصدوه مع ذويهم الى بيروت وبحوزتهم تقارير تثبت اوضاعهم الصحية التي تتطلب التدخل. وهم يعانون مرضاً نادراً يؤدي الى الشلل مع تقدمهم في عمر الطفولة، واوضاع ذويهم لا تسمح لهم بدفع نفقات العلاج. وقد نجح رياض في تأمين إيصال مبالغ مالية لمساندتهم فى تغطية العلاج لإنقاذ حياتهم. كما قدم مساعدات لعدد من الاطفال يعانون من حالات مشابهة في مخيمات سوريا. الاهتمام الأكبر لرياض كان داخل الأراضي المحتلة ومن خلال الصلة بالجمعيات المسيحية التي تتولى مهام المساعدة والدعم. كان يتلقى من هذه الجمعيات أشغالاً يدوية من الخشب والمطرزات وما شابه ويتولى تسويقها وإرسال أثمانها وما يحصل عليه من تبرعات الى هذه الجمعيات. او يشتري بأثمانها كتبا يرسلها الى مدارس الاطفال من خلال الجمعيات. اذن يمكن تصنيف رياض انه من اللبنانيين الذين يعتبرون فلسطين قضيتهم، خصوصاً وان مرحلة انطلاقة الثورة الفلسطينية والبيئة التي عاش فيها في بيروت وملاصقتها لمخيمي صبرا وشاتيلا شكلت وعيه الذي لم يتخل عنه.

مدرس في مدرسة متوسطة، يعيش مع عائلته في منزل صغير، ناشط وحاضر في مواجهة مناخات تتراوح بين العنصرية والصهيونية وما شابه، خصوصاً بعد زلزال نيويورك وما أورثه من تحولات لمصلحة التطرف بمنوعاته. لكن لنعد الى ما قيل انه «انتحار» الرجل. وهذا يتطلب الرجوع الى رواية البوليس وبعض من الملاحقات التي تعرض لها ورصد بعض ردود الفعل التي أعقبت الموت الغامض هذا.

اولا، لا بد من التذكير بقاعدة يجيدها المحققون الاميركيون اكثر من سواهم، وتقول ان معظم عمليات الانتحار هي عمليات قتل مدبرة ومموهة بإتقان. هذه القاعدة ترتفع درجة مصداقيتها لتصل الى مئة بالمئة لدى اشخاص معينين وفي ظل ظروف معينة. اذن هناك الكثير من الشكوك التي لا بد من إجلائها حول هذه القضية التي أدت الى مصرع مواطن لبناني أميركي في الوقت نفسه. طبعا في المنطقة العربية يقتل المعارضون ثم يعلن انتحارهم أو تدبر حتى حوادث سير تودي بحياتهم وتسجل التقارير مصرعهم بحادث سير عادي نجم عنه سقوط المستهدف قتيلاً.

رواية الانتحار

اذن اختفى رياض لمدة يومين ثم عثر عليه جثة ملقاة في مياه البحيرة. الرواية الرسمية التي قدمت الى وسائل الإعلام وردت على لسان الرقيب جوزف شاكون ومفادها ان لا ادلة تشير الى تورط ما في مقتله، فقد وجد رياض مقيد اليدين والرجلين، معصوب العينين. لكن حارس البحيرة الذي عثر عليه وصف الحادث بأنه ليس غريباً. لم يشرح شاكون كيف قيّد رياض يديه ورجليه وعصب عينيه ثم تقدم نحو البحيرة لإلقاء نفسه في مياهها. يلاحظ كورت نيمو في «انفو ورز» أن رجال الشرطة يريدوننا أن نصدق الراوية هذه، ويريدوننا أن نعتقد انه تقدم من سيارته الى المياه وهو على هذه الحال التي عثر عليه فيها. لم تقدم تفاصيل حول قيام رياض بتقييد نفسه على هذا النحو ثم الإقدام على تنفيذ الانتحار. في موازاة رواية الشرطة كانت تروج أقوال تتحدث عن قراره بالانتحار على لسان زملائه في المدرسة. أما رئيسة الاتحاد الأميركي المحلي للحريات المدنية ديبي روسل فلا تملك إلا ان تتحدث في رسالة الكترونية وجهتها الى العشرات من ناشطي السلام عن جريمة وليس عن حادثة انتحار. إذن الجريمة تتطلب وجود مجرم أي قاتل، أما الضحية فموجودة بطبيعة الحال. هذا الحكم الذي أصدرته ديبي بررته بقولها إنها سمعت من وسائل الإعلام عن مقتله.

قبل متابعة البحث عن المجرم والجريمة لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء. إلى شهر شباط/ فبراير من العام 2007 وتحديداً إلى 27 منه. ففي هذا اليوم قرع جرس منزل رياض وعندما فتح الباب كان العشرات من رجال الشرطة المحلية و»الأف بي آي» يندفعون الى داخله مزودين بقرار تفتيش قضائي من القاضي روبرت بيتمن الذي يوصف بانه من المعادين للقضية الفلسطينية والعرب. المهم ان هؤلاء باتوا في داخل المنزل ولم يتركوا تفصيلاً إلا وفتشوه ودققوا في الموجودات وعندما خرجوا منه، كان بحوزتهم أربعون صندوقاً من الكتب والأشرطة والوثائق وكل ما يتطلب التنقيب فيه. بعدها لم توجه تهمة الى رياض في أعقاب التفتيش، وان كانت الاجهزة التي تولت العملية أشارت في ردها على الاسئلة الى احتمالات قوية تدفع الى التدقيق في وضعه بتهم من بينها تبييض الأموال وعمليات الاحتيال المصرفية وما شابه. منذ شباط الماضي والى الآن لم تتحرك الاجهزة المذكورة للقبض عليه، مما يعني ان الوثائق التي تمت مصادرتها لا تقدم ولو دليل واحد على مثل هذه التهم. إذ لو توفر الدليل لكان يمكن بسهولة ربطه بجريمة الاحتيال او تبييض الأموال ان لم نقل تمويل الإرهاب. والأخيرة هي التهمة الاقسى في اعقاب احداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر. ترفض ديبي مثل هذه التهم وتصر على ان رياض هو ناشط سلام وليس ارهابيا، اذ ان نشاطه ينحصر في التخفيف من عذابات الاطفال الفلسطينيين. كلام مشابه صدر عن زملائه وطلابه في المدرسة التي يتولى التدريس فيها.

مثل هذا وسواه يفرض اعادة التدقيق في قضية الانتحار. نيمو في مقاله الذي حمل عنواناً معبراً هو «هل الناشط الفلسطيني رياض حمد أقدم على الانتحار؟» ينقل عن ان حارس البحيرة الذي عثر على الجثة لاحظ آثار تعذيب على الجثة. ما يعني ان هناك من خطفه خلال توجهه الى الصيدلية وقيده وعصب عينيه وألقاه بعدها في البحيرة. على اي حال رواية البوليس التي أذاعها شاكون لا تقدم تفاصيل عن الساعات الاربع والعشرين التي اختفى فيها رياض. كما ان التشريح لا يشير الى مثل هذا الوضع. اذن كل ما ازداد المرء تدقيقاً بوقائع غموض الانتحار كل ما ارتفع منسوب الشك في ان يكون الأمر حالة انتحار وليس جريمة مموهة بعملية انتحار.

الا ان ما نقله نيمو عن الكس جونز الذي التقى مدير المركز الاسلامي في اوستن د.ابراهيم درملي وهو الذي تولى غسله والصلاة عليه كان فاضحاً. فقد أفاد درملي أن عائلته منعت من تشريح الجثة. ويقول درملي كما ينقل جونز عنه: يبدو وكأن حيواناً متوحشاً قد هاجمه في غابة. فقد عانى من جرح من كتفه الى معدته، كذلك ظهرت كدمات على وجهه. وبدا رأسه محطماً، حتى ان دماغه كان مفقوداً. ويرجح الكس تبعاً لذلك ان يكون دماغه قد فقد جراء تعرضه لإطلاق نار. وبعد ان اشار درملي الى تحريم الاسلام للانتحار أعلن ان حمد كان يحضر لأطروحة دكتوراة، لكنه في المقابل لم يجزم بتعرضه للاغتيال.

يقدم نيمو رواية تتضمن بعض المعطيات عن حادثة تدخل فيها رياض قبل عامين اي في العام 2006 مع دائرة الهجرة والجوازات لمصلحة امرأة مسلمة حجزت في أقبية مركز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين تحت الأرض في هاسكل ـ تكساس. كذلك تدخل في حادث الاختفاء الذي تعرض له مواطن عربي يعاني السكري ويدعى عادل سليمان. هناك من يذكر ان رياض وضع بعد الحادثين تحت رقابة مشددة من جانب أجهزة الامن. رياض نفسه كان يتحدث عن 35 عاماً من المراقبة، وليس عن عام او اثنين او سبعة في أعقاب تفجيرات نيويورك الإرهابية.. لا يستغرب نيمو أن يكون رياض هدفاً وعملية انتحاره تشابه عملية انتحار الصحافي الاستقصائي الأميركي غاري ويب الذي عثر عليه وفي رأسه رصاصات عدة. علماً أن الأخير كان يحقق في الأموال التي قدمتها «السي آي ايه» الى منظمة الكونترا المعادية للساندينيين في نيكارغوا من خلال عمليات اتجار بالكوكايين. يتحدث نيمو عن اتجاهات عدوانية مزدوجة بين المحافظين الجدد وإسرائيل في سياق الحرب على الإرهاب والتي تتضمن تأهيل مسارح لتنفيذ عمليات قتل تستهدف اشخاصاً محددين في الولايات المتحدة ودول صديقة أخرى. فرق القتل التي أنشأها المحافظون الجدد، تتألف هذه من وحدة رئيسية تتبعها وحدات صغرى تتولى تنفيذ التخلص من المستهدفين. ينقل نيمو تأكيدات عن ارتباط هذه الفرق بالموساد الإسرائيلي عن وكالة «يونايتد برس انترناشيونال» منذ العام 2003 التي تحدثت عن تأكيدات بشأنها على لسان أكثر من نصف دزينة من أعضاء السلك الخارجي الاميركي وضباط امن وعن لسان عميل اسرائيلي سابق. الفرق هذه تحمل اسم «كيدون» وهي كلمة عبرية تعني الحربة.

يختم نيمو مقاله بالعبارة التالية «من الممكن أن يكون فريق القتل التابع للمحافظين الجدد قد أخذ أستاذ المدرسة رياض. ما ذكرناه عن قصة هذا الفريق أكثر منطقية من الادعاء البائس أن رياض قد انتحر«.

ختـاماً يتحدث نيمو عن فريق القتل كخلاصة لمقاله والسؤال هو: هل قتلت «الحـربة» الإسـرائـيلية ريـاض حــمد لمساعدته أطفال المخيمات؟ وهل تتحرك الخارجية اللبنانية للمــطالبة بفتــح تحقيق جدي حول ملابسات ما يسمى «الانتحار» في ضــوء شــهادة الشــيخ درملـي الذي عاين الجثة قبل الدفن؟

تعليقات: