التجزئة تحمي كيان الاغتصاب

منذ ما يقارب القرن وفلسطين لم تزل مركز الثقل في النضال العربي، وحجر الغلق في بنائه. قبل قيام الكيان الصهيوني فوق أرضنا كانت المواجهة تركز على منع الاحتلال واقامة الكيان، وبعد الاعلان عن الدولة «اليهودية» بدأ النضال لاستعادة الأرض وتحرير الإنسان.

لقد نجحت الحركة الصهيونية في مخططاتها، حتى الآن، مقابل تعثر حركة التحرر العربية وتراجعها الى درجة الهوان. ان مصادر القوة في الكيان الصهيوني متعددة، بعضها على الاقل يعود الى عوامل ذاتية خاصة تتمثل في «اخلاص» قادته وتفانيهم في خدمته لتحقيق أهدافهم في الاستيطان والتوسع، وبعضها الآخر يعود الى الترابط القائم والمستمر بين طبيعة الحركة الصهيونية وحركة الاستعمار التي عمت المنطقة العربية، خاصة، منذ انهيار الامبراطورية العثمانية ولم تزل قائمة بأشكال متعددة، الامر الذي امن للمسار الصهيوني وحركته دعما سياسيا وماديا وعسكريا واقتصاديا... قل نظيره، وبعضها الثالث يرجع الى الضعف العربي وتراخي الانظمة الحاكمة وتفكك البنية المجتمعية العربية.

بل يمكن القول، بعد هذا المخاض الطويل والمسيرة الدامية للأمة العربية، ان العامل الاخير لعب، ولم يزل، الدور الحاسم، من حيث المبدأ في تثبيت الكيان المغتصب لارضنا وتكريسه.

الازمة ليست في الاعتراف، او عدم الاعتراف بمدى العجز الرسمي العربي في مواجهة العدو الصهيوني، فهذه المسألة غدت من بديهيات الحياة السياسية، حيث اثبتت التجربة اليومية وفي اكثر من موقع انه عندما تتوافر ارادة القتال والمواجهة تنكشف سريعا هشاشة الكيان الاسرائيلي وتذوي اسطورة تفوقه بشكل لا لبس فيه.

لم تعد الازمة إذاً في تحديد مواطن ضعفنا وقوة العدو، او العكس، بل في موقفنا اليوم وموقعنا من هذا الكيان الاستيطاني بحد ذاته. وبالتالي موقفنا من فلسطين قبلة النضال العربي ومركزه.

علاقة جدلية

من المفارقات المؤلمة في اطار هذا الوضع، الذي نعيشه ونكتوي بناره يوميا، أمران على الاقل: المفارقة الاولى تتلخص في ان الامة التي رفعت لواء الوحدة بين اقطارها وعملت على دحر الاحتلال واستعادة الارض تبدو مهددة بوجودها، بينما الكيان المغتصب لجزء من الارض العربية «معافى» ومحاط برعاية دولية وحماية عالمية.

ان العلاقة بين الكيان الصهيوني والتجزئة علاقة جدلية. يقوى هذا الكيان ويشتد بتكريس الانقسام واستمرار التفتيت وسيادة منطق التشظي. ورغم «وعينا» العميق لهذه المعادلة البسيطة والقديمة جدا لم «تفلح» انظمة وقوى سياسية في تفكيك هذه المعادلة او العمل بالاتجاه المعاكس لمنطقها، الامر الذي عزز حضور الاغتصاب ورسخ وجوده من جهة، وحصن التجزئة بين الدول العربية ومتنها. والمسؤولية في هذه المسألة لا تقتصر على (الاعداء)، بل تطاولنا مسؤولية مباشرة عما وصلنا إليه، وما نحن فيه وما نسير باتجاهه فرادى وجماعات. ان التركيز على التجزئة كأخطر ما نعانيه لا يلغي مجالات التراجع والاخطار الاخرى التي تفتك بالأمة واقطارها، لكن يعود هذا التركيز الى سببين مترابطين على الاقل (اضافة لحماية الكيان الصهيوني): السبب الاول لان تعميق التجزئة يهدد الهوية القومية بشكل مباشر، والثاني لان استمرار التجزئة لا يحمي كيانات الامة من المزيد من التفكيك والتشظي. يمكن القول ان الاعلان «الرسمي» عن قيام «دولة» اسرائيل كان النجاح الاول لمشروع التجزئة. فوعد بلفور، جاء بعد اتفاقية سايكس بيكو (1916) مباشرة، حيث فرضت هذه الاتفاقية تقسيم الأمة وسمحت للامبراطورية البريطانية، في حينه، بالسيطرة على جزء من المنطقة، لذلك عمدت بريطانيا الى تلبية الرغبة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عبر ما عرف باسم وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني من العام .1917 وسرعان ما كرت سبحة الاعترافات بهذا الوعد، فأعلنت الحكومة الفرنسية موافقتها الرسمية عليه بتاريخ 14/2/1918 وايطاليا بتاريخ 9/5/1918 ومجلس الشيوخ والنواب الاميركيين في أواخر حزيران .1922 لذلك اتخذت الحركة الصهيونية العالمية من هذا الوعد مستندا «قانونيا» للمطالبة باقامة الدولة اليهودية ونجحت في ذلك. واليوم، بعد انقضاء تسع وخمسين سنة على اعلان الدولة العبرية (15 ايار 1948) التي عرفت باسم «دولة اسرائيل» واصبحت عضوا في الامم المتحدة في العام ,1949 غدت التجزئة كأنها قدر الامة الذي لا فكاك منه.

أوهام السلام

المفارقة المؤلمة الثانية هي التعالي الدولي ـ العالمي عن جرائم الكيان الصهيوني وحروبه العدوانية واعتداءاته على الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، وتعالي المجتمع الدولي عن الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني وعنصريته.

ان المنظومة الدولية لم تزل تعتبر «اسرائيل» دولة مسالمة ومعتدى عليها. بل من المضحك المبكي ان هذا المجتمع ممثلا بهيئة الامم المتحدة اقر قبول «دولة اسرائيل» في عضويتها العام 1949 لانها (اسرائيل)... دولة محبة «للسلام» وراضية بالالتزامات الواردة في ميثاق الامم المتحدة و«قادرة» على تنفيذ هذه الالتزامات و«راغبة» في ذلك.

ان استمرار هذه المقولة لم تزل حاضرة في الذهن الدولي بطريقة او باخرى، من دون ان يسأل العالم الدولة اليهودية مثلا عن القرارات التي تلتزم بتنفيذها، او يسأل عن «حدود» هذه الدولة الطبيعية، او عن المجازر اليومية بحق الشعب الفلسطيني... الخ، من دون الدخول في الاعتداءات المستمرة على لبنان شعبا وأرضا.

من هنا تأتي ذكرى النكبة اليوم والوضع الرسمي العربي على غير ما يرام. فيبدو العرب، كأنظمة رسمية، «مندمجين» في خلافاتهم، مكتفين بامراضهم، «مرتاحين» لعجزهم، «مسرورين» بأوضاعهم. يجتر الكل على هواه البديهيات ويتعالى عن العمل بمقتضاها، يكابر في الصمود ويقدم التنازلات. يتغنى بالوحدة ويحمي التجزئة.

بين ايار 1948 واليوم اصبح الوضع السياسي العربي على غير ما كان عليه. لقد ابتعدنا عن الكثير من البديهيات، وخفت وهج الاندفاعات الشعبية وذبلت الاحلام الكبيرة، ووهن الكثير من العزائم، وتحول الكيان الصهيوني الى معطى «طبيعي» وتراجع المشروع النهضوي القومي العربي وتدهورت مسيرته وصدقيته.. غير ان الثابت الوحيد في خضم هذه التحولات لم يزل فلسطين، أرضا وشعبا، فهي واضحة كالحقيقة، قريبة كالوريد، ساطعة كالحق، عميقة كالبساطة، صارخة كالجرح، صادقة كأطفالها... فأين المفر؟!

* استاذ جامعي

تعليقات: