بالأرقام: كيف دمَّرت إجراءات المصارف الاقتصادَ اللبناني

آلاف المتاجر على وشك الإقفال (Getty)
آلاف المتاجر على وشك الإقفال (Getty)


منذ أن دخلت البلاد في مرحلة الانهيار المالي، في تشرين الأوّل من العام الماضي، اتخذت المصارف اللبنانيّة إجراءات عديدة لضبط السيولة المتوفّرة لديها، بقرارات اتخذتها بنفسها، بعيداً عن أي تشريع أو تنظيم رسمي. وحسب المؤشرات المتوفّرة اليوم لسنة 2019، وبالأخص تلك المتعلّقة بحركة الأموال والنشاط التجاري في الأسواق، يبدو أن قرارات المصارف تلك قد أدّت إلى شلل تام في جميع القطاعات الاقتصاديّة، وأصبح الاقتصاد اللبناني بأسره مكبّلاً بهذه الإجراءات.

حركة الأموال داخليّاً مجمّدة

شملت الإجراءات المصرفيّة التي تلت 17 تشرين الأوّل، تجميد تسهيلات التجّار الممنوحة لديها بمختلف أنواعها، وتخفيض سقوفها إلى الحد المستعمل من كل تاجر في ذلك الوقت. ففي العادة، كان التجّار يستفيدون من سقوف ائتمانيّة معيّنة دائمة، ليستعملوها في تمويل عمليّاتهم التجاريّة عند الشراء، على أن يتم السداد لاحقاً عند البيع. أمّا بعد تجميد هذه التسهيلات، فاقتصر عمل المصارف من هذه الناحية على تحصيل القروض والتسهيلات المستعملة سابقاً، من دون السماح باستعمال السقوف الممنوحة من قبل، وهو ما أدّى إلى عجز فئات واسعة من المؤسسات عن الإيفاء بالتزاماتها أو متابعة نشاطها التجاري.

في الواقع، أدّى هذا الإجراء إلى تجميد حركة الأموال الداخليّة بشكل كبير في الأسواق، إلى درجة العجز عن تحصيل قيمة الشيكات الموجودة أساساً بحوزة التجّارة. فمثلاً، وحسب أرقام جمعيّة المصارف نفسها، تجاوز عدد الشيكات المرتجعة في شهر تشرين الثاني الماضي حدود 81 ألف شيك، بينما كان عدد الشيكات المرتجعة يقف عند حدود 22.7 ألف شيك في شهر أيلول، قبل تطبيق الإجراءات المصرفيّة الأخيرة. أما قيمة الشيكات المرتجعة شهريّاً، فقد قفزت من 124 مليون دولار في شهر أيلول، قبل تطبيق إجراءات المصارف، إلى حدود 319.73 مليون دولار، بعدها.

ومن ناحية أخرى، تراجعت قيمة الشيكات التي جرى تحصيلها بالدولار في سنة 2019 (لغاية شهر تشرين الثاني) لغاية 30.9 مليار دولار، بعدما كانت هذه القيمة تبلغ 41 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2018. وعمليّاً، يكون عام 2019 قد شهد تراجعاً بنسبة 25 في المئة في حركة الشيكات بالدولار الأميركي، نتيجة الجمود في حركة الأموال داخليّاً بعد 17 تشرين الأوّل.

وفاقم من أزمة جمود الحركة الماليّة في الأسواق إجراءات أخرى اتخذتها المصارف، مثل منع التحويلات إلى الخارج، إلا إذا قام التجّار بتأمين قيمة الحوالة نقداً. وهو ما أدّى إلى رفض شريحة واسعة من التجار تلقي الشيكات المسحوبة على المصارف، بعدما بات استعمال أموال هذه الشيكات للتحويل إلى الخارج بهدف الاستيراد متعذّراً، كما بات متعذّراً القيام بسحوبات نقديّة منها.

الأسواق عاجزة تماماً

لعلّ أبرز ما كبّل الأسواق كان فقدان القدرة على الاستيراد، كنتيجة لقرارات منع التحويل إلى الخارج إلّا ضمن شروط صعبة. وبفعل هذا الأمر، باتت فئات واسعة من التجّار عاجزة تماماً عن استيراد البضاعة المطلوبة، لتلبية الطلب إذا توفّر في الأسواق. وحسب أرقام مصرف لبنان، تراجعت قيمة الاعتمادات المستنديّة القائمة في تشرين الثاني إلى حدود 554.63 مليون دولار، مقارنةً بـ1,164.44 مليون دولار في الفترة المماثلة تماماً من العام الماضي. مع العلم أن الاعتمادات المستنديّة هي إحدى الخدمات المصرفيّة التي يستعملها التجّار للاستيراد، ويعكس حجم التراجع الهائل هذا الشلل الذي يضرب المستوردين حاليّاً.

ويفاقم من أزمة التجّار اليوم عدم وجود بدائل مصنّعة محلّياً للبضائع التي يعجزون عن استيرادها، وهو ما يعني دخول الشركات اللبنانيّة في نفق شح البضائع والمبيعات، وبالتالي الإفلاس. ولعلّ هذا بالضبط ما حذّر منه رئيس اتحاد تجار جبل لبنان، نسيب الجميّل، حين أكّد أن البضائع لدى الكثير من التجّار شارفت على النفاذ بعد ثلاثة أشهر من فرض القيود على التحويلات إلى الخارج، وهو ما بات يشكّل مشكلة كبيرة من شأنها أن تؤدي إلى إقفال المؤسسات، وفقدان سلع أساسيّة من الأسواق. وقد حذّر الجميّل من موجة إقفال لآلاف المؤسسات التجاريّة في الأسابيع المقبلة، مع ما يرافقها من صرف لآلاف العمّال والمستخدمين.

وفي كل الأحوال، انعكست أزمة الاستيراد، التي بدأت خلال شهر تشرين الأوّل، بوضوح في أرقام واردات المرفأ لسنة 2019 (لغاية شهر تشرين الثاني)، والتي تراجعت إلى نحو 184.6 مليون دولار مقارنة بـ214.4 مليون دولار في الفترة المماثلة تماماً من عام 2018. مع العلم أن هذا التراجع في أرقام سنة 2019 لغاية شهر تشرين الثاني لا يعكس سوى أثر شهر ونصف من عمر أزمة الاستيراد.

أزمة اجتماعيّة واقعة

المصارف حوّلت ببساطة الأزمة الماليّة إلى انهيار اقتصادي شامل، لم يوفّر أي قطاع اقتصادي. لكنّ المخيف في الموضوع هو الآثار الاجتماعيّة التي ستنتج عن هذا الوضع، خصوصاً كون إفلاس المؤسسات اللبنانيّة سيعني عمليّاً موجات كبيرة مقبلة من الصرف الجماعي للموظّفين. وهكذا، سنكون أمام مشهد يجمع ما بين البطالة وهبوط سعر الصرف وارتفاع جنوني في الأسعار، بالإضافة إلى شح كبير في السلع الأساسيّة في الأسواق. والنتيجة الطبيعيّة لهذا المشهد ستكون انضمام شرائح واسعة من اللبنانيين إلى الفئات القابعة تحت خط الفقر.

في المحصّلة، كان المطلوب منذ البداية فرض ضوابط ماليّة صارمة، لكل المعالجات التي جرت منذ 2011، في إطار الأزمة التي واجهت القطاع المالي اللبناني. لكنّ ما جرى فعليّاً كان ترك مصرف لبنان يتعامل مع الأزمة من جانبها النقدي، بمعزل عن أي خطة اقتصاديّة تحرص على مصالح عموم اللبنانيّين، وتحميهم من تبعات الانهيار الذي جرى لاحقاً. وبعد حصول الانهيار، انطلقت المصارف بإجراءات إستنسابيّة من دون أن يتم وضع أي تنظيم رسمي لهذه العمليّة، ومن دون أن يكون هناك أصلاً أي خطّة للخروج من النفق. واليوم، يقف جميع اللبنانيّين بين مطرقة الانهيار القاسي وسندان المصارف، التي تحاول حماية نفسها بلا رقيب ولا حسيب. وفي ظل الفراغ الحكومي القائم اليوم، ومع عدم وجود أي خطّة ماليّة أو اقتصاديّة واضحة لمن يشرف على تشكيل الحكومة الجديدة، لا يوجد اليوم ما يمكن الرهان عليه...

تعليقات: