الشيخ محمد قانصو: لعبة الموت..


‎.. تعودت الهروب إلى الطفولة متلمساً الدفء والأمان والبراءة وراحة البال، مبتعداً عن حاضر معقد يكثر فيه الهم والقلق والضياع.

أقلب في دفتر الطفولة وأتوقف عند صفحة مهمة من صفحاته

وأساءل نفسي لماذا كانت لعبتي المفضلة هي الموت !..

وما سرّ هذا الارتباط الوثيق والتسلسل الزمني الذي جعلني مع تقادم الأيام لصيقاً بالموت وأصبح هو ايضاً قريباً مني إلى حدّ التماهي ..

ربما كانت البداية من بيتنا الأول في الضيعة الذي كان مجاوراً ومطلاً على المقبرة، وكنا صغاراً نلعب (الغميضة) بين القبور، كما كنا نلعب أيضاً (بيت بيوت) بين بيوت الموتى الأبدية ..

في الخامسة، السادسة، وما بعدهما من سني الطفولة كانت لعبتي الجنازة ، كنت أكفن الجنود ،"البلاستيك" وأقيم لهم مراسم الدفن الاحتفالية وأحفر لهم قبوراً في الحقل المجاور لبيتنا وهكذا كل يوم وكل حين انتقل من جنازة إلى أخرى ومن مأتم إلى مأتم ..

في العاشرة من عمري، الحادية عشرة، الثانية عشرة، تطورت لعبة الموت لديّ وشاركني فيها الحبيب "أحمد" وبعض أفراد عصابة الحي، وأصبحنا نقيم الجنائز بشكل متكرر بعد أن أخذنا على عاتقنا مهمة انتشال ضحايا حوادث الصدم من القطط على الطرقات لنقيم لكل واحدة منها مأتماً مهيباً محاكياً للمآتم التي كنا نشاهدها في حياتنا اليومية ..

في آواخر الثانية عشرة من عمري تحولت لعبة الموت القديمة إلى حقيقة حاضرة أمامي، وفي لحظة مخيفة من ليلة حالكة رأيت الموت أمامي جسداً مزقته رصاصات الغدر ممداً على سرير غارق بالدماء ومن حوله عويل وصراخ مخلد في أذني وذاكرتي..

الموت الذي زارنا واصطحب معه أبي لم تطل غيبته عن دارنا بل عاد بعد سنين قليلة ليطفئ شمعة أخي الأكبر، ثم ليعود بعد سنوات ايضاً ليجدد عهده بنا فيخطف أخي الثاني، وبعدها بسنوات قليلة يزورنا بكل قسوته ليتنزع مني أمي وليتنزعني من بقية الحياة والأمل ..

لم يكتف الموت الصديق وأصرّ أن يجردني من كل أسلحتي ويعريّ كل غصوني، وإذا به يضربني ضربته القاضية كاسراً ضهري، محطماً وتدي، مصراً على أن يجردني من بقية قوتي فيغتال " أحمد " ويتركني أسير وحدتي ..

تلك حكايتي ورحلتي مع الموت مذ كنت صغيراً وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات، ما بيننا يصعب تفسيره ولا أبالغ أنني أعيش بالموت والموت يعيش في داخلي في كل تفاصيلي في كل زاوية وركن وطية ذكرى، الموت هو حكايتي ولعبتي وتجربتي وقضيتي، وانا لا أخافه بل على العكس أحبه وأرى فيه مركباً سيرسو يوما على الضفة أو قطاراً سيصل إلى المحطة الأخيرة ليحملني إلى السفر المشتهى حيث اللقاء بالأحبة والعودة إلى أحضان أمي ..

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو

١٢

تعليقات: