إذا الشعب يوماً إختار نيسانه

طفل يلهو برصاصات فارغة دون أن يعلم في رأس من أو صدر من إستقرت ... من أرشيف جمال السعيدي
طفل يلهو برصاصات فارغة دون أن يعلم في رأس من أو صدر من إستقرت ... من أرشيف جمال السعيدي


نيسان من أجمل اشهر السنة، لكن شاء القدر لهذا الشهر ان يحمل في طياته ذكرى أليمة وبغيضة على قلوب اللبنانيين.

في مثل هذه الأيام، من شهر نيسان عام 1975، دوّت رصاصات في سماء هذا الوطن إيذاناً بإنطلاق مارثون اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية. فأسمعت هذه الرصاصات من كان ينتظرها ويجهز لها، فلبّى النداء بالمشاركة فكان ضحية مؤامرة جذبت بشعاراتها الكاذبة الكثرين فخرج الجميع من هذا المارثون وهم يجرون خلفهم تلك الشعارت الخاسرة والجوفاء والخالية من كل شيء، إلا من الحقد والكراهية، ولم ينالوا إلا الخزي والعار.

ولم ينال النصر إلا أولئك المنظِمين لهذا الحدث، فكانت ضحكات زهوهم تعلوا على اصوات المنتحبين والمنتحبات وصرخات المستغيثين والمستغيثات وتآوهات الثكالى والأرامل والمكروبين والمنكوبين وأنين الجرحى والمصابين والمعذبين.

وكان صرير تناطح كؤوس النصر والغلبة لمشروعهم اقوى وأبلغ من أزيز الرصاص، الذي نال من الأبرياء العزًل فكانت ضحاياه لاتعدّ ولاتحصى، وكانت صورهم الكاذبة وبسماتهم الصفراء السامة وحيلهم وخداعهم تطغى على صور الحرب الدامية.

صورة أب مقتولاً يحتضن كيس من الخبز لأولاده الذين ينتظرون عودته لعل وعسى يخمد جوعاً يتضوّرون منه ويخفف عنهم إعياءً حل بهم وغضباً صُب عليهم من إخوةٍٍ لهم في الوطن فوأدت أحلامهم وأصبح انتظارهم هباءً مبثوثة.

وطالب مدرسة أو جامعة نالت منه رصاصات قناص فأردته قتيلاً على إحدى زوايا شارع وهو يحتضن شنطة كتبه التي لطخت بدمائه الطاهره فحرم اهله من عودته الى احضانهم.

وامٌ دفعتها عاطفتها وحثتها على الخروج بحثا عن زوجها أو عزيزا عليها فعاجلها قاتل من خلف متراس برشق ناري اردها قتيلة فجعلها تسبح بدمائها من غير ان يعلم القاتل بأنها تركت خلفها طفلاً كانت قد أرضعته للتو فاستسلم للنوم مضطجعاَ على امل ان تعود إليه ليدفن راسه مجدداً بين اضلاعها بحثاً عن الدفىء والسكينة.

وطفل يلهو برصاصات فارغة امام منزل التصق سقفه بأرضه وهو ليس مدركا بما يدور حوله ولايحيط علماً بحشوات هذه الرصاصات كيف كان مجرها ومرسها في رأس من وصدر من وأحشاء من كان مستقرها، لكن كان همه ان يذود بين ركام المنزل عند الشدة كما تذود القطط في مخبأها طلبا للأمان.

الحاقدون والمتآمرون والمنظمون لمثل تلك لأحداث مازالوا يعدون العدة ويشحذون الهمم وينفخون في كور النعرات الطائفية وهم على استعداد لتكون اشهر السنة كلها نيسان ولكن لم يعد بمقدور الذين ينتظرون رشقات نيسان ومن غير المسموح لهم ان يستبيحوا وطنا ويهلكوا شعبا لأن هذا الشعب أصبح على درجة من الوعي ومدركا لنيسانهم ومؤمراتهم.فإتخذ لنفسه نيساناً لا يرى فيه إلا جمال التعايش والسلام سبيلاً، ونبذ الفرقة والشقاق والعنف والتقاتل، والعمل على التقارب والتجاور والأستئناس بالآخر، ومصارحة النفس مع النفس، ومكاشفة السرّ بالسرّ، ورفع الغمة، والصبر على المحن والشدائد، وكظم الغيض، والذود الى كنف ألآخر بحثاً عن الراحة وألأطمئنان.

فكانت أوراق نيسان البيضاء إجنحة له يحلق بها في سماء الوطن ليكون حمائم رحمة وطيورا من طيور الجنة تهدل هديلاً يكون مصدرا للخيروالسلام والأمان.

لا ان تكون كما أرادها البعض بوما وغربانأً تنعق لحن الموت والتشؤم والرعب والخوف.

وأخيراً:

نيسان قوس قزح والوان.

رذاذ عنبر ومرتع غزلان

نسائم عليلة وطرحة عرسان

ياقصصاً تبوح بها الغدران

ياقيثارة تشدو بأجمل لألحان.

* مغترب في قطر

المقالة السابقة للكاتب

من أرشيف جمال السعيدي (صور قيّمة عن الحرب اللبنانية)

تعليقات: