الصنوبر أو الذهب الأبيض يصمد في حرج بكاسين


يتسلق عشرات العمال أشجار الصنوبر الباسقة في حرج بكاسين في قضاء جزين، ليقطفوا أكوازه أو ما يطلق عليه، أبناء المنطقة «الذهب الأبيض» غير مبالين لما يحدق بهم من مخاطر، «عينهم على رزقهم وتعبق بأنوفهم رائحته الزكية المشبعة بالهواء النقي»، مصممين بعزم على استكمال موسم القطاف، الذي يعتبر أطول رحلة قطاف «ثمر على شجر»، اذ يبدأ منذ منتصف شهر تشرين الأول ويستمر حتى نهاية نيسان، لينطبق عليه المثل القائل - «الحزورة» الشهيرة، ما هو «الثمر اللي بيشوف جدو عالشجر؟!».. ويعتبر حرج بكاسين أكبر محمية في لبنان والشرق الأوسط، إذ تبلغ مساحته حوالى 4 ملايين متر مربع، وهو في ذات الوقت يزخر بالأشجار المثمرة والخضراء، فيه أكثر من 120 ألف شجرة معمّرة تتوزع في غالبيتها على الصنوبر، إضافةً الى السنديان والحور، ويعتبر المورد الأساسي لخزينة البلدية التي تقوم ببيع الثمر عبر مزاد علني، وقد ضمنته هذا العام الى روبير نصر بمبلغ 139 مليون ليرة، حيث يقوم المستثمر بقطف الثمر «على أمه» من الشجر وبيعه ولا دخل للبلدية به، بينما ضمنته في الموسم السابق وبـ 72 وبالموسم الأسبق بـ 316 مليوناً، ما يُشير الى حالة التراجع والازدهار في آن..

واكبنا رحلة قطاف الصنوبر في حرج بكاسين، وكيفية توضيبه ونقله تمهيداً لبيعه..


حكاية الصنوبر

حكاية أشجار «الصنوبر» بدأت مع الأمير فخر الدين الثاني الكبير، الذي حمل أول شجرة من «توسكانة» الإيطالية في العام 1516، ثم من «الأستانة»، لتنتشر وتغطّي نسبة 20% من مساحة لبنان المزروعة، وقد تحوّلت اليوم الى مصدر رزق رئيسي لما يزيد عن 50 ألف عائلة لبنانية، وفقاً لإحصاء أجرته قبل أعوام «نقابة مزارعي وعمال الصنوبر في لبنان» عبر عملية ضمان الأحراج من أصحابها، ومن البلديات المالكة لأراضٍ مشاعية، ومن خلال بيع الإنتاج، فضلاً عن حلقة العاملين في القطاف والنقل و«كسر الصنوبر» والحطب المستخدم في المواقد، وصولاً إلى التوضيب والتسويق.


ويؤكد محترفو مهنة قطاف الصنوبر وحتى العاملين فيها، أنه على الرغم من أهمية إنتاجها الذي يبلغ بين 600 و800 طن سنوياً، فقد شهدت خلال السنوات الماضية تراجعاً ملحوظاً بات يهدد بزوالها في بعض مناطق الجنوب، لأسباب كثيرة:

- أولاً: الإحتلال الاسرائيلي التي شهدتها المنطقة، وما تعرّضت خلاله من قصف بري وجوي من قبل العدو الإسرائيلي، ما أدت إلى حرق وتلف آلاف الأشجار المعمرة من الصنوبر.

- ثانياً: تعدي البعض على الطبيعة وإستهتاره بهذه الثروة الحرجية لحسابات شخصية، ومكاسب مالية عبر إستحداث مرامل ومقالع وسطها، والقضاء على مساحات واسعة منها دون حسيب أو رقيب.

- ثالثاً: الحرائق التي قضت على جزء لا يستهان به منها، إلاّ أنها في بكاسين حافظت على حضورها بفضل جهود البلدية ورئيسها المحامي عبد الله سعد، لكن بقيت عرضة للأمراض مثل «دودة الصندل» و«دودة البرعم» وغيرهما في ظل غياب الاهتمام الرسمي، وخاصة وزارة الزراعة من خلال عدم مد المزارعين والبلديات المعنية بالأدوية اللازمة، وتقديم الإرشادات المطلوبة ليتمكنوا من مكافحة مثل هذه الآفات قبل إستفحالها أكثر.

داخل حرج صنوبر بكاسين، يُسابق عشرات العمال الوقت للانتهاء من قطاف ما تبقى من ثمر الموسم، فمع اشراقة شمس كل صباح، يتسلقون الأشجار الباسقة التي يصل إرتفاعها إلى سبعة أمتار، ويقومون بقطاف أكواز الصنوبر بأيديهم حيناً، ويستعينون بأعواد طويلة معكوفة الأطراف ليسقطوا الأكواز البعيدة بها حينا آخر.. وقد بلغ بعضهم من الخبرة الى حد استخدام هذه الأعواد في الانتقال من شجرة الى شجرة مجاورة، وقريبة على طريقة «طرزان» دون أن يكلف نفسه عناء النزول عن الشجرة والصعود الى أخرى.


عفيف

{ ويقول الخبير بقطاف الصنوبر «المعلم» جهاد عفيف (38 عاماً)، وهو يتسلق إحدى الأشجار: مضى عليّ أكثر من 18 عاماً، وأنا أعمل في مهنة القطاف، كان عمري 20 عاماً حين نزلت الى العمل، لقد أصبحتُ خبيراً، استخدم «سلالم الألمنيوم» المقوى بداية لتسلق الأشجار، التي يتراوح ارتفاعها بين (3-7) أمتار، قبل أن أعود وأستخدم الحبال العريضة للوصول الى قمة الشجرة، وبعدها أبدأ بقطف الأكواز بيدي، قبل أن أستعين بعود طويل يسمى «معقيلي»، لأُسقط به ما تبقى من أكواز بعيدة عني ولا أستطيع الوصول اليها.

وأضاف: إن عملية القطاف تتطلب جهداً كبيراً فهي صعبة وشاقة، ولكن خبرتي بالمهنة، جعلت أشجار الصنوبر صديقة لي، وأكوازها طيعة بين يدي، ولا يستطيع أي انسان احتراف هذه المهنة بسهولة، لأنها تتطلب الشجاعة والقلب القوي، فضلا عن الخبرة.

وأشار عفيف الى «أن المعلم يتقاضي نحو 60 ألف ليرة لبنانية يومياً، بينما العامل «الفكيك» على الأرض 45 ألف ليرة لبنانية».

عيسى

{ يقول العامل صالح عيسى: نعمل على مدى 6 أشهر في العام، يومياً نبدأ العمل الساعة السابعة صباحاً الى الثانية ظهراً، ومهمتي حيناً مساعدة المعلم في القطاف، وجمع الأكواز في أكياس من «الخيش»، ونقلها بواسطة آلية صغيرة اذا كانت المسافة بعيدة عن الطريق العام، الى شاحنة استعداداً لتخزينها.. ويستمر الحال حتى آخر نيسان، حيث يبدأ الكوز بالتفتح على أمه.

وأضاف عيسى: جني الصنوبر عملية صعبة وخطرة، والموسم يتفاوت بين سنة وسنة، فهناك شجرة تحمل 60 كوزاً، وشجرة تحمل 10 أكواز، ويمتد موسم قطاف ثمره نحو 6 أشهر، فهو يشمل 3 أجيال متتالية، منه تلتقي على شجرة واحدة، وهناك مثل شائع نتناقله على شكل «حزورة» تقول: «شو هوي الثمر اللي بيشوف جدو عالشجر».. فهناك 3 أجيال من الصنوبر في موسم واحد.


مراحل وأسعار

أما مراحل ما بعد القطاف، فتترك أكواز الصنوبر عادةً في المستودعات أو على أسطح المنازل، وفي منتصف شهر أيار يتم البدء بفلشها، حيث تتعرض لأشعة الشمس والهواء لتجف كي تتفتح تلقائياً، عندها تُنقَل إلى مصنع مخصّص يضمّ ثلاث ماكينات:

- الشّباقة: وظيفتها كسر كوز الصنوبر.

- العرابة: ومهمتها فصل الحبات عن القشرة.

- والكسارة: ومهمتها كسر حبات الصنوبر واستخراجها.

وهذا المعمل يُمكنه تكسير نحو 7 أطنان يومياً. وتتفاوت أسعار كلغ «الصنوبر الأبيض» وفق حجمه - رقم النمرة المتعرف عليها، يباع الكلغ الواحد (نمرة 9) بـ 45 ألف ليرة لبنانية، بينما (نمرة 8) الأقل حجماً بـ 38 ألف ليرة لبنانية، (وما دون حتى نمرة 5) بـ 33 ألف ليرة لبنانية، بينما يباع القنطار (250 كلغ من الأكواز كما هي بـ 140 دولاراً أميركياً).


المشاكل..

ويتعرض انتاج الصنوبر الى المنافسة والتهريب خصوصاً من تركيا، إضافةً الى كلفة اليد العاملة المرتفعة، حيث يُطالب أصحاب القطاع، وزارة الزراعة بمساعدتهم، على ضبط توقيت فرط موسم الصنوبر بعد العاشر من تشرين الثاني من كل عام، لأن الفرط المبكر يؤدي الى انخفاض في الجودة والنوعية، ومنع المنافسة والتهريب والتي هي «أم المشاكل»، واعتماد استراتيجية زراعية تقضي بالسماح بتفريد الصنوبر بعضه عن البعض - أي توسيع المساحة بين الشجرة والأخرى لتفادي أي حريق ممكن.


يستخدم الصنوبر اللبناني في إعداد أصناف من أطباق الطعام والمقبلات والحلوى، وله ميزة خاصة لجهة جودته ونكهته، وهي ليست موجودة في دولة أخرى، وهو مطلوب في المملكة العربية السعودية والكويت ومعظم الدول العربية.. لكنه يواجه منافسة من الصنوبر التركي، الذي تستخدمه محال صناعة الحلويات لأنه كلفته أقل نسبياً.




تعليقات: