صحيفة الأخبار: «أقاتل كي أعيش»


«أقاتل كي أعيش»

هل يكون زجاج واجهتَي مصرفين في وسط بيروت أمس كـ«بلاطة» حائط فندق «لوغراي» في المنطقة عينها عام 2015؟ حينذاك، كان سقوط «البلاطة» الشرارة التي أطفأت التحرّكات التي انطلقت إثر أزمة النفايات.


السلطة إلى القمع المفرط... بعد المسّ بمصرف!

هل يكون زجاج واجهتَي مصرفين في وسط بيروت أمس كـ«بلاطة» حائط فندق «لوغراي» في المنطقة عينها عام 2015؟ حينذاك، كان سقوط «البلاطة» الشرارة التي أطفأت التحرّكات التي انطلقت إثر أزمة النفايات. الأجهزة الأمنية التي تعاملت مع المتظاهرين أول من أمس بمستوى منخفض نسبياً من القمع، لجأت أمس إلى العنف المفرط، في مواجهة من تسمّيهم «المشاغبين» الذين كسروا زجاج واجهتَي مصرفين، ما يُنذر بإمكان اللجوء إلى القمع في وجه التحركات! قبل ذلك، كانت القوى المكوّنة للحكومة تتقاذف مسؤولية الأزمة التي فجّرت الغضب الشعبي، بصورة كرّرت فيها ما تُجيده: المزيد من الكذب

لم تعُد البلاد مُستعصية على الثورات. انتفاضة شعبية يشهدها لبنان من أقصاه إلى أقصاه، فجّرتها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة، بفعل تمادي السلطة في سياسة التجويع وفرض إجراءات ضريبية، لا هدف لها سوى تركيز الثروة في يد القلة من اللبنانيين. للمرة الأولى منذ التسعينيات، لم يعُد الشارع فسيفساء من الانتماءات الطائفية المُتناحرة. خرج منذ يومين بهوية وطنية جامعة لا ولاء فيها للطوائف، ليقول للطبقة الحاكمة «كفى»، ولا يزال مستمراً في تحركه، فاتحاً الباب على مصراعيه أمام الأحزاب والتيارات السياسية التي أثبتت يومَ أمس أنها تغرق في حالة من الإنكار التام. فأمام زخم الغضب الشعبي والغليان الذي قُطع معه عدد كبير من الطرق التي تربط المناطق في مختلف المحافظات، واصل المسؤولون تقاذف مسؤولية الفشل والإخفاق والوعود الكاذبة، كما لو أنهم أمام أزمة سياسية عادية كتلكَ التي تُحلّ على طريقة «تبويس اللحى». وليلاً، لجأت السلطة إلى العنف المفرط، لتفريق المتظاهرين، بذريعة ملاحقة «المشاغبين الذين اعتدوا على الأملاك الخاصة والعامة». صدف أن استخدام قدر كبير من العنف، من قبل الجيش وقوى الأمن الداخلي، بدأ بعد تكسير واجهتي مصرفين في وسط بيروت.

وحتى يوم أمس، لم يكُن أهل السلطة قد استوعبوا بعد أن القصة ليسَت قصّة رغيف ولا زيادة أسعار المحروقات والدخان وأزمة دولار، ولا حتى فرض رسوم على تطبيق «واتسآب»، بل قصة كيل طفح بمكيال الكذب والإفقار والظلم وحجم البطالة والركود الاقتصادي ونظام المُحاصصة. إذ حاولت أغلبية القوى المشاركة في الحكومة ركوب موجة التحركات الشعبية، وخلق شارع مقابِل شارع عبر تبادل الاتهامات، لكنها فشلت في ذلك. الكل بدأ يتحدث كما لو أنه في موقع المعارضة ولا علاقة له بكل الإجراءات التي اتُّخذت في المرحلة السابقة.

هذه اللعبة بدأها النائب السابِق وليد جنبلاط من خلال تحريك شارعه للتصويب على «العهد» في محاولة لتمييز نفسه. ولحق به رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الذي جاءت مواقفه وجنبلاط مشجّعة لاستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري ورمي كرة النار بين يدي رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وحزب الله. الأمر الذي دفع برؤساء الحكومات السابقين للتضامن مع الحريري ورفضهم الاستفراد به. فيما كان لافتاً وواضحاً ارتباك كل من حركة أمل وصمت حزب الله. أما التيار الوطني الحرّ فقد حاول رئيسه الوزير جبران باسيل الاستثمار في غضب الناس لصالحه. الأخير خرج بعدَ لقاء مع رئيس الجمهورية ميشال عون وعدد من وزراء التيار ليخاطب الناس. وقف على منبر قصر الرئاسة في بعبدا، ليلقي كلمة موجهة إلى اللبنانيين، كما لو أنه متحدث باسم الرئاسة. قال بأنه «يتفهّم» غضب الشارع، معتبراً أن «ما يحصل هو لصالحنا وليسَ ضدنا»، مكرراً معزوفة الإصلاحات التي يريد العهد تطبيقها، لكنّ أطرافاً أخرى تمنعه من ذلك. علماً أن هذه الإصلاحات التي يتحدّث عنها باسيل وغيره ممن هم في الحكومة، من المستقبل الى القوات الى الاشتراكي ليست ذات منفعة، بل هي إجراءات ستزيد من حجم المشكلة وتأخذ البلاد نحو الانهيار. وراح باسيل يرمي الوعود كعادته من نوع تأمين الكهرباء، قائلاً إنه ضدّ الضرائب، مع أنه هو نفسه الذي شارك في اقتراحها وفي إقرارها.

وفيما كان الرصد طوال يوم أمس لإطلالة الحريري، طُرح سؤال حول إمكانية إسقاط حكومة الأخير في الشارع، استناداً إلى المشهد الراهن الذي أعاد لبنان إلى ما سبقَ واختبره في أيار عام 1992، حين أدّت التظاهرات إلى إسقاط حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي. غيرَ أن الرئيس الحريري لعب الدور نفسه الذي سبقه إليه كل من باسيل وجعجع وجنبلاط، محاولاً إظهار نفسه بمظهر الضحية. رئيس الحكومة، رأس السلطة التنفيذية، حاول تبرئة نفسه، بتحميل شركائه فيها مسؤولية الانقلاب على الإصلاحات والاتفاق، معطياً مهلة 72 ساعة وإلا «سيكون هناك كلام آخر».

الحريري يبتزّ شركاءه الحكوميين: إما شروط «سيدر»... أو أرحل

أراد الحريري ابتزاز شركائه في الحكم، عبر القول: إما أن تنفّذوا شروط مؤتمر «سيدر»، أو أستقيل. يبدو رئيس الحكومة غير مدرك لكون الناس نزلوا إلى الشارع، مع هذا القدر الهائل من الغضب، بسبب نتائج سياسات «سيدر وأخواته».

وفيما كان جنبلاط وجعجع ينتظران من الحريري استقالة فورية، خاب ظنهما. ردّ الأول على رئيس الحكومة بالقول «إننا لا نستطيع الاستمرار في الحكم والحكم ليس في يدنا، ونعيش 7 أيّار اقتصادياً ونحن أردنا المشاركة ولكن غير مرغوب فينا من بعض الناس»، معلناً بأنه سينتقل إلى موقع المعارضة «الهادئة والموضوعية». أما رئيس القوات فقال: «لا نجد أنفسنا في هذه الحكومة والاتصالات مستمرّة مع المستقبل والاشتراكي من أجل تنسيق الموقف، الرئيس الحريري يريد أن يستمهل قليلاً ولا مشكلة في الأمر، إلا أن المغزى أننا لا نرى فائدة من هذه الحكومة». وفي اتصال مع قناة «العربية» اعتبر أن «ما يحصل هو ثورة شعبية حقيقية»، معتبراً أن «حزب الله متخوف جداً وقسم من قاعدته خرج عليه»، محملاً إياه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد. بينما تقصّد وزير الخارجية بعد كلام رئيس الحكومة تسريب معلومات عبرَ مصادره تقول بأنه «أجرى اتصالاً بالحريري وأكد له بأن أن لا حاجة للانتظار 72 ساعة فلنبدأ فوراً بالحلول».

وعلى إثر الأحداث المتصاعدة، كانت التركيبة السياسية قد بدأت تنفجر من الداخل، قبلَ أن تظهر بوادر تدخّل من قبلها ليلَ أمس انعكست أعمال شغب ومواجهات مع القوى الأمنية أدت إلى تراجع أعداد المتظاهرين في عدد من المناطق، لا سيما في الساحة المركزية في رياض الصلح. وباتت هناك خشية من أن يكون مصير التحرك الحالي شبيهاً بمصير سابقه الذي اندلع عام 2015، والذي أطلق شرارته ملف النفايات، بعد أن حركت السلطة جماهيرها في مواجهته. فيما ينتظر الجميع الكلمة التي يلقيها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في ختام «مسيرة الأربعين» اليوم، ليتحدث عن مجمل التطورات السياسية، وبصورة خاصة الأوضاع الداخلية في لبنان.


فرصة حقيقيّة للتغيير

ابراهيم الأمين

ليس أبشع وأقسى من أداء أهل السلطة عندنا، سوى تخلّيهم عن مسؤوليتهم في مواجهة الناس. وكان الأمل بردّة فعل عاقلة، مجرّد وهم زال في لحظات المساء. فليس بين أهل الحكم عندنا من يفكر في تغيير جدّي على أثر الهبّة الشعبية الكبيرة. وأكثر من ذلك، فإن العجز الذي يشلّ عقل وقلب أركان السلطة، استمر مانعاً لقيام هؤلاء بالتقدّم خطوة صوب الشارع الغاضب. وكل ما حصل منذ صباح أمس حتى آخر ليله، عكَس العقلية ذاتها، إذ يرفض أحد منهم تحمّل المسؤولية والاستعداد للمحاسبة. بل قام هؤلاء، كلٌّ من جانبه، برمي المسؤولية على غيره، مع وقاحة غير مسبوقة، بإعلان تفهّم وجع ثم التهديد بالنزول معنا إلى الشارع.

المسؤولون قالوا لنا بالأمس، أن اذهبوا وبلّطوا البحر. ارفعوا من سقف اعتراضكم إلى أعلى ما تقدرون، وواصلوا احتجاجكم إلى حيث ترغبون، وزيدوا من تشهيركم وشتائمكم إلى حيث تقدرون... لكن لن تحصلوا منا على إقرار بالعجز والفشل. ولن نمنحكم فرصة محاسبتنا أو محاكمتنا أو معقابتنا على ما قمنا به.

ليس هذا فقط، بل يتصرف أهل الحكم بثقة كبيرة، على أن من نزل إلى الشارع هم أقلية موجوعة، لكنّ هناك خصوماً يتولّون تحريكهم لغايات سياسية.

وعندما يفكر الحاكم بهذه الطريقة، فهذا يعني أن علاج الأزمة عنده يتراوح، بين تكليف القوى الأمنية احتواء التحرك بعقلية أمنية، وبين تهديد الناس بالفوضى الشاملة إن هم أصرّوا على التغيير. ويستند قادة السلطة إلى أن لديهم قواعدهم القائمة على عصبيّات مذهبية وطائفية، وهي جاهزة للانقضاض على «المشاغبين» الذين خرجوا إلى الشوارع. وفوق كل ذلك، يهمس بعض حواريي الحاكمين، بأنه ما «إن يتوقف الصراخ حتى نحاسب كل من تعرّض لنا ولعائلاتنا ومنازلنا وكراماتنا»!

لكن الحريق إن توسّع، فسيكون أكثر شدّةً وحدّةً من حرائق الطبيعة قبل أيام. سوف لن يحتويه أحد. وسوف لن ينجو منه فريق أو طرف أو جمهور. وإذا كان بعضهم يتصرف أنه بمنأى عمّا يجري، فهو واهم. ليس لأن كل من دخل السلطة مسؤول، وإن بنسب متفاوتة عن الأزمة، بل لأن العاجز عن الإصلاح والتغيير، لا يجب أن يبقى شاهد زور، أو صامتاً عن سياسات يعرف الجميع أنها تقود إلى انهيار البلاد وانفجار الوضع. وعندما تحلّ الفوضى، لن يبقى شيء على حاله في المشهد الذي نعرفه اليوم. الاقتصاد المهتزّ سيسقط بضربة واحدة، وترافقه كل أنواع الانهيارات المالية والاجتماعية، وعندها لن ينفع لا تدبير أمني زجري، ولا حتى انقلاب عسكري ممنوع في بلد مثل لبنان. كما لن تنفع كل أنواع المناجاة، أو حتى تذكير الناس ببشاعة الحرب الأهلية الساخنة منها أو الباردة. وستكون الهجرة حيلة القادرين على الهرب، بينما لا يبقى للمقيمين، سوى شريعة الغاب لإدارة ما بقي من شؤونهم. وحروب الفوضى المتنقّلة، لها طَعم خاص في لبنان. طعم متنوع طائفياً ومذهبياً ومناطقياً وطبقياً. وإذا كان الفقراء هم عادة وقود الحروب الأهلية، فإن أول نخب سيرتفع من المتقاتلين، سيحصل في مكان تجتمع فيه جثث عليّة القوم الذين يصرون على سياساتهم الكارثية، إزاء كل أمور الحياة. فلا سلطةَ عاقلة ومتوازنة تقوم لتحمي الناس وحقوقهم، ولا قطاعَ خاصاً يتوقف عن النهب لساعات. ولا سماسرة الدين والطوائف والأمن يقبلون بيوم عطلة.

الوضع القائم في البلاد اليوم، لا يحتاج إلى توصيف أو تعليل أو شرح. بل يحتاج إلى قول واضح وصريح، بأننا أمام فرصة حقيقية، ونوعية لإطلاق مسار تغييري جدي في هذه البلاد. يهدف إلى جرف كل من تحكّم بنا باسم الطائفة والمذهب ومصالح الجماعة. ويهدف إلى قطع لسان كل من يريد العودة بنا إلى زمن مخاوف الأقليات واستبداد الأكثريات. لكن هذه الفرصة، لا تستقيم بالاحتجاج فقط.

بحثاً عن شخص يشبه سليم الحص في كونه يعرف أهمية الدولة وليس مرتهناً لقرار خارجي

اليوم، لا يحتاج عالم اجتماع، أو سياسي محترف، إلى أدلّة كثيرة على حجم الغضب الذي يسكن قلوب المتظاهرين وعقولهم. وإذا كان أداء السلطة في مواجهة حرائق الطبيعة قبل أيام، ثم الضريبة على تطبيقات الهواتف الذكية، شكّلا شرارة لحريق لا يزال في بدايته، فإن الكامن والمتراكم أكبر بكثير، ويمتد إلى ربع قرن فات، يوم قيل لنا إن الحرب الأهلية توقّفت ودخلنا حرب الإعمار.

لكن من يتحكّم به الغضب في الشارع اليوم، يحتاج إلى مساعدة غاضبين يملكون القدرة على التفكير بهدوء. لأن الحاجة ملحّة الآن إلى خطة تحرّك. ليس بهدف تنظيم الاحتجاج، والركون إلى سخافات الداعين إلى وقف أعمال الشغب، التي تبقى عنصراً رئيسياً في أي تحرك شعبي، وفي أي مكان في العالم. وإلى خطة عمل، لا تُلزم الغاضبين بانضباط على طريقة عمل الأحزاب. بل تضع تحركهم في سياق يُتيح رفع سقف المواجهة بطريقة تقود إلى نتائج مباشرة. سواء كان الهدف هو نسف النظام، أم تغيير السلطة وتحقيق إصلاحات جذرية. وحاجة الجمهور إلى هذه الخطة، له هدف مستعجل أيضاً، يتعلّق بمنع الطفيليين، من القوى والسياسيين والناشطين وغيرهم من أطراف إقليمية، يسعون منذ اللحظة الأولى لاندلاع الاحتجاجات، إلى استغلال الغضب لأجل تحقيق أهداف تندرج في سياق صراعات سياسية محلية وخارجية. وهو خطر جدّي، ويصبح أساسياً بمجرد أن يخرج وليد جنبلاط وسمير جعجع وبقايا 14 أزلام السعودية وأميركا، ويرفعوا شعارات الناس، وكأنهم خارج المسؤولية والمحاسبة.

قد يكون من المبكر الحديث عن قيادة لهذا الحراك، تضمن له استمراره وتمنع قمعه. لكن المشكلة التي تواجه المعترضين على سياسة الدولة، ترتبط بمكانة القوى والزعامات والقيادات المتطوّعة لهذا الفعل. وربما هذا ما يستدعي الاستفادة من دروس ما يجري حولنا. وأن ندرس تجربة تونس، بحثاً عن قيس سعيّد لبناني. بحثاً عن شخص، يشبه سليم الحص، في كونه يعرف أهمية الدولة، وليس مرتهناً لقرار خارجي، وله صوته المانع لحضور أباطرة الحروب والفساد…


وقاحة جنبلاط وحاجات جعجع... النفسية

فراس الشوفي

لا شيء يُضاهي وقاحة النائب السابق وليد جنبلاط. كاد أمس، وهو يحاول سرقة الشارع من اللبنانيين، أن يخطف روح جان فالجان من رائعة فيكتور هوغو، «البؤساء». أو، أن يذكّرنا بشخصية البيك في مسرحية «غربة»، لمحمد الماغوط ودريد لحّام، حين يُخَبِّر إقطاعي الضيعة أستاذ المدرسة، عن اعتناقه الاشتراكية وفهمه لها، بأنها الاشتراك في كل شيء: «عزيمة، جوازة، جنازة، مؤامرة... كله كله بشترك فيه».

هذه المرّة، اختار البيك الحقيقي الاشتراك في التظاهر. وهو قبل أيام، استبق القوى السياسيّة كلها بالنزول إلى الشارع، مستشعراً وقوف اللبنانيين على حافة الانفجار. لكنّه، لم يستحِ أمس، عندما كلّف الوزير أكرم شهيّب بقيادة التحرّكات الاشتراكية في الجبل، على أنها تحرّكات شعبية.

يشبه جنبلاط، وهو يدعو للتظاهر ضد الفساد والسلطة، صورة كاريكاتورية عن نفسه. يظنّ أنه إن أَكَلَ أَكْلَ الفقراء، مع سفير أجنبي، صار مثلَهم، معدماً، لا يحمل إلا همّ الدفء لعائلته في الشتاء الذي اقترب، في الجبل الذي يئنّ. يظن ذلك ولو شرب النبيذ الفاخر الذي يكاد سعر الزجاجة منه يتجاوز الحد الأدنى للأجور. لكنّ الواقع ليس كذلك. جنبلاط بيك، وشريك بارز في امتصاص خير لبنان، لكنّه الآن يلعب لعبته الأخيرة: يقزّم هزيمته مع من راهن عليهم في الإقليم إلى محاولة السيطرة على كانتون في الجبل رسمه في مخيّلته، وفي تغريدته أمس عن «مناطقنا». لكنّه فوجئ عندما انفجر أمس بوجه مسؤوليه في المناطق، مزاج درزي كفر بنظريّة «البيك يعرف ماذا يفعل»، وبات مقتنعاً بأنه جزء لا يتجزأ من منظومة سفك الدولة والموارد والماضي... والمستقبل.

أمّا رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، فوقحٌ أيضاً، لكنّ مرتبك حد الضياع. يريد أن يحرّك الشارع ضد العهد، ويخاف من تحريك العونيين شارعاً مضاداً. يريد أن يستقيل وزراؤه من الحكومة، لكنه يخاف أن لا يأبه للأمر لا الرئيس سعد الحريري ولا الوزير جبران باسيل، وربّما، يخاف أن يستقيل وحده ويتركه جنبلاط في منتصف الطريق. هل فهم أحد ما هو موقف جعجع أمس؟ أو ماذا يريد؟ حتى مسألة حثّ الحريري على الاستقالة، تبدو حاجة نفسية لرئيس القوات أكثر منها حاجة سياسية.

مع جعجع، يكاد الفارق بين السياسي والميليشياوي أن يندثر. عندما تنتهي «القضية»، وتدنو الخسارة الاستراتيجية، كما يحصل مع القوات، يحاول السياسي، التقليدي، الحدّ منها. أما الميليشياوي، التقليدي أيضاً، فينتظر الهزيمة، كاملة، بعد أن يحرق كل بيادقه، وهو يفتّش عن قضية ولو مستعملة.



بيروت «تحت» صفيح ساخن

محمد نزال

يحمل بيده قضيباً معدنيّاً، يضرب به لوحاً معدنيّاً، خالعاً قميصه والنار مِن حوله. يضرب الحديد بالحديد لأكثر مِن ساعة، ثم ماذا؟ مات الحديد المضروب، فرضاً، لِمَ لا يتوقّف الضرب؟ بدا ذاك المتظاهر، قبيل فجر أمس، كمن يُمارس رقصة طقسيّة ما، لقبيلة ما، مستحضراً بـ«الفودو» أرواحاً ما. الدخان الأسود لوّن وجه، والخدوش بادية في صدره، منفعل «يزرزب» مِنه العرق... ويستمر الضرب. رأيناه ليل أول مِن أمس. متظاهر كهذا يأتيه مراسل تلفزيوني يسأله عمّا يُريده مِن الحكومة. أيّ جواب يتوقّع منه؟ هذا ليس متظاهراً عاديّاً، هذا مقتول منذ ولادته، وربّما قبل ذلك، هذا «مُنتَج اجتماعي» يصعب على «أبناء البيوت» فهمه، تفكيكه، تقبّل وجوده أساساً، إلا اللهم بعد ألف دراسة «إنثروبولوجيّة»... إن أمكن أصلاً. هذا ينام نهاراً ويستيقظ ليلاً، قبل انطلاق التظاهرات الأخيرة ضدّ الضرائب، وروّاد وسط بيروت نهاراً على الأرجح أنّهم لم يقابلوه عن قرب. هذا، فضلاً عن العمل، عاطل مِن أشياء كثيرة أخرى. هذا ليس حالة فرديّة، تظهر فجأة في التظاهرات، بل حالة باتت مألوفة، وهي في ازدياد مستمر. التظاهر عنده ليس بالضرورة لغاية، بل يُمكن أن يكون هو الغاية نفسها، مجرّد الانفلات مِن كلّ قيد، الانطلاق، الانفجار... ويحصل أن ينفجر هذا، أحياناً، بمَن «صنعه». ظهر صاحبنا ليل أمس، في ليلة هي الثانية على بداية الاحتجاج الواسع، رأيناه هو نفسه، ومعه مجموعة مِن رفاق «الحالة».

ليلة أمس، قُطعت طرقات بيروت كلّها. تماماً كلّها. اقتصر الأمر في الليلة السابقة على بعض الطرقات الرئيسيّة. سماء العاصمة، أمس، كانت قاتمة منذ الصباح لكثرة ما استقبلت سواد المطّاط المُشتعِل. خطّ «فان 4» تعطّل نسبياً بداية النهار، لكنّه، ومع اقتراب المساء، اختفى كليّاً. المتظاهرون ظفروا بـ«فان» يعمل، احتجزوه عند تقاطع بشارة الخوري، قبل أن يطلبوا مِن الركاب النزول مِنه. دوّن أحدهم رقم لوحة تسجيله، متوعّداً صاحبه بالمحاسبة لاحقاً، لأنّه خالف قرار «جماعة الفانات» بالتعطيل والإضراب. كاد أن يُضرَب، لولا شفاعة فتاة له، كانت بين الركّاب. حلّ المساء. عاد بعض «المهذّبين» إلى منازلهم، وجاءت نوبة «العصاة» الآن. هاجموا واجهة بنك الموارد، ظنّ البعض أنّ اللحظة التاريخيّة بدأت، ذلك مع تحطيم لواجهة بنك آخر، ودخول مبنى مكتوب على جدرانه اسم شركة الاتصالات «MTC». سبقت ذلك جولات كرّ وفرّ بين القوى الأمنيّة والمتظاهرين، قنابل مسيّلة للدموع، ألعاب ناريّة مدويّة، إلى أن حضر الجيش. في الليلة السابقة، لم يتدخّل الجيش. قبل ذلك، وإثر بداية التعرّض لمباني بعض البنوك، توقّع بعض المتظاهرين أنّ السُّلطة، الآن، سوف تبطش بقوة. وفعلاً، هذا ما حصل. نزل الجيش بين المتظاهرين. وسط بيروت ساحة حرب إنّما بلا رصاص. عشرات الموقوفين، عشرات المضروبين، ركض في كلّ اتجاه، قسوة لافتة مِن العسكر. وما العسكر؟ «آلات قسوة» لا تنال راتبها الشهري إلا لأنّها كذلك. على هذا يتدرّبون. لا يُحبّون المزاح. شعارات التظاهرات هذه، في تشرين الأوّل مِن العام الجاري، ستُذكر مديداً بكونها كسرت «تاوبهات» ما كان أحد يتوقّع أن تُكسَر. التعرّض لقامات سياسيّة، لها هالة قداسة عند أهلها، أصبح مألوفاً أمس على ألسن الناس. هذا ليس عابراً. عادة، وعلى مدى التاريخ، لم تكن تحصل التحوّلات، خاصّة المتضمّنة لتهشيم هالات كبرى، مِن غير عنف وعويل ودم. هذا ما يجب أن يُحسَب حسابه. هذه سُنّة تاريخيّة.

بدأت النفايات تتكدّس في شوارع بيروت في ظلّ قطع الطرقات الرئيسيّة والفرعيّة

الناس في الشارع، المتظاهرون، ما عادوا يطيقون أن يتضامن معهم «المشاهير». كلّ مسؤول سياسي، ولو مِن خارج الحكومة، انضم إليهم ليتضامن معهم نال نصيبه مِن الشتم والطرد. شيء ما نضج في الشارع هنا. شيء مِن القرف فاض على شكل: «طْلَعوا مِن راسنا بقى». الشارع يبدو أنه ما عاد يطيق مجاملة أحد. النفور شامل. كلّ «المساطر» جُرّبَت. حتى بعض الإعلاميين، مِن المتمسحين بأعتاب السُّلطان والآكلين على مائدته، يُخبرهم الشارع اليوم أنّه لا يطيقهم أيضاً. شيء ما في الشارع نضج ضدّ هذا النوع مِن النفاق. ليس علينا أن نتفاءل كثيراً، لكن، وهذا المؤكّد، هناك تحول ما هنا حصل، ويحصل.

النفايات بدأت تتكدّس في شوارع بيروت. هناك كومة ضخمة مِن النفايات في منطقة البسطة، مثلاً، هي نتاج عدم جمعها لمدة يومين. ستزداد تلك الكومة، وغيرها كذلك في مناطق أخرى، إن استمر إقفال طرقات العاصمة. ما عاد ممكناً التنقل لمسافات بعيدة إلا بواسطة الدراجات الناريّة. أن تملك سيارة اليوم فأنت لا تملك وسيلة نقل، هكذا ببساطة. نرصد «أبو حطب» يركب حصاناً. هو أحد المتظاهرين، تلقائيّاً يعني، وإن فضّل عدم الذهاب إلى وسط البلد. مشهد فنّي أن تراه فوق حصانه يمرّ بين الحاويات المشتعلة، في القرن الحادي والعشرين. يمرّ قربه عدد مِن عناصر قوى الأمن، ليسوا مِن ضمن مجموعة مكافحة الشغب، وخارج منطقة المواجهات التقليديّة، ومع ذلك لا يحتاج فتى مراهق إلى جرأة كبيرة حتى يسخر منهم بأعلى صوته. راح «يُقرّق» عليهم بلا توقف. لم يرفع أحد مِنهم رأسه. أكملوا سيرهم. هذه لحظة كسر المحرّمات. كلّ هذا يكون في نفوس الناس، منذ أمد بعيد، فتأتي اللحظة ويكون كلّ هذا المشهد. ماذا عن الأمل؟ مَن يعلم؟ الله أعلم.


أمام مصرف لبنان: حرامي حرامي... رياض سلامة حرامي

هديل فرفور

«يسقط كهنة المعبد». تقول العبارة التي رسمتها إحدى الناشطات على الطريق المؤدي إلى المصرف المركزي في بيروت. خطّتها الفتاة العشرينية قُبيل موعد الاعتصام الذي دعا إليه عدد من الناشطين أمام مبنى المصرف، عند الساعة الرابعة من عصر أمس، احتجاجاً على سياسته وعلى إدارة حاكمه رياض سلامة.

عند الدقائق الأولى من الاعتصام، لم يكن عدد المتجمهرين يتجاوز العشرين ناشطاً، ممن يؤمنون بضرورة توجيه بوصلة الغضب نحو مكمن الخلل الأساسي: سياسة المصرف التي ساهمت في تراكم ثروات كبار المودعين على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. لكنّ ذلك التجمّع المتواضع سرعان ما اجتذب بعض «مواكب» الدراجات النارية التي كانت تجوب شوارع العاصمة والتي كانت تتّجه إلى شارع الحمرا. حطّ أصحاب تلك المواكب أمام المصرف وسمعوا من رفاقهم أسباب تجمّعهم، وسرعان ما وافقوهم. «مزبوط قالوا إنو رياض سلامة بيقبض ألفين دولار ع كل يوم بيسافر فيه»، قال أحد «قادة» الموكب قبل أن يُعطي تعليماته لـ«الشباب»: «رح ننزل هون يا شباب».

بعدها، توزّع أولئك القلّة بين الأكثرية الغاضبة ومدّوهم بالشعارات «اللازمة»، لتعلو صرخاتهم بـ «يسقط حكم المصرف»، وبـ«حرامي حرامي، رياض سلامة حرامي».

قد لا يدرك جميع من احتشد خلف هذه الشعارات أن الهندسات المالية التي قام بها حاكم مصرف لبنان بحجة تثبيت سعر الصرف، تسبّبت في عام 2016 فقط في تحقيق أرباح للمصارف ولكبار المودعين بلغت قيمتها نحو 4.8 مليارات دولار، لكنّهم يعرفون جيداً أن «استقرار الليرة اللي بيصرعونا فيه طلع من عيونا»، على حدّ تعبير أحدهم، فيما سأل زميله «شو جاييني إذا الليرة مستقرة وأنا ما عندي لا استقرار وظيفي ولا معيشي؟»، مُضيفاً: «طالما الدولة راضية عليه، يعني هو حرامي أكتر منن».

بداية سقوط «أسطورتين»: سلامة والليرة المُستقرة

لم يدم الاعتصام أمام المصرف أكثر من ساعة، لكن المعتصمين لم يتوقفوا خلال تلك المدة القصيرة عن ترداد شعار «يسقط حكم المصرف»، وهو «تطور نوعي يُبنى عليه فيما بعد لتبيان الصورة الحقيقية لسلامة وللمصارف الذين أشبعونا بطولات مغلوطة بشأن قدسية الليرة»، تقول إحدى منسّقات الاعتصام، مُضيفة: «يكفي أن هؤلاء المحتشدين مضوا إلى رياض الصلح (حيث الاحتجاجات المركزية) وهم يعرفون أن المصارف ليست سوى جزء من الدولة التي يريدون إسقاطها».

عند فضّ الاعتصام، عادت الناشطة العشرينية ورسمت عبارة «تسقط سلامة الليرة» على الرصيف المحاذي لمبنى المصرف، قبل أن تغادر ويغادر المعتصمون، وتبقى تلك العبارة، منبئةً ببداية سقوط «أسطورتين»: سلامة والليرة المُستقرة.


يسقط «بيت المال»... من أين لك هذا؟ شعارات وشتائم: لقد انكسر المحظور

إيلده الغصين

يسقط «بيت المال»... من أين لك هذا؟ شعارات وشتائم: لقد انكسر المحظور

متظاهرو الـ2015 تناقلوا أرقام هواتف المحامين في حال اعتقالهم (مروان بوحيدر)

«إسمي بيروت، me llamo Beirut»، بالعربيّة والإسبانية رفعَت لافتتها، تيمّناً بأسماء شخصيّات مسلسل «نتفليكس» الإسباني الشهير «بيت الورق» (La Casa De Papel). المسلسل «الثوري» ضد سلطة المصارف، والقائم على عمليّة سطو دار سكّ العملة، حضر تأثيره «بقوّة» في صفوف المحتجّين في ساحة رياض الصلح. قناع شخصيّات المسلسل (وجه دالي) انتشر بين عدد من المتظاهرين، وزيّهم الأحمر. «المشكلة في المصرف المركزي، وباقي البنوك» يقول أحدهم، فيما يبقى البحث جارياً عن شخصيّة «البروفيسور»، أو القيادة الفعليّة للتحرّك العفوي. تأثير الأفلام والمسلسلات انسحب أيضاً على كاراكتير «الجوكر»، إذ تلوّنت وجوه بعض المحتجّين كوجه «المهرّج»... والسبب «مدينتنا خربانة مثل مدينته» يقول أحدهم.

جاء من حي اللجى، ترك والدته مستغرقة في الكوما التي ألمّت بها قبل أشهر. حمل همّ تأمين علاجها الشهري والأدوية الباهظة، ونزل يطالب بضمان اجتماعي ونظام استشفائي عادل. «لم أنتخب أحداً لأن أولادهم يعيشون في العز ونحن تحت خط الفقر... بدنا دولة»، هذا مطلبه. إلى جانبه، يجلس شاب عشريني مثله، لم يشارك المتظاهرين الحلوى التي وزّعوها في ما بينهم، لأن والده توفّي بمرض السكّري. هذا قدر الفقراء الذين ينتهون بلا علاج أو رعاية... «مات وارتاح» يقولها بقهر، «مطلبي أن نعيش بكرامة».

«الوضع تفاقم إلى حدّ الاستفزاز... أريد عملاً لائقاً»، هذا مطلب الوحيد للارا، ابنة كورنيش المزرعة. «وي وونت شيينج» (نريد التغيير) تصرخ بالإنكليزية، وتضيف المتظاهرة الآتية من البقاع «بدنا حقوقنا، الناس المغسول دماغها فلتنتفض معنا». انتظار هذه اللحظة، والحماسة إلى التعبير عن الغضب، هما أبرز ما ميّز الشباب المنضوين في التحرّك. «صرلي زمان ناطرة هالفرصة لنرجع للشارع» تقول ابنة بيروت. المتظاهرون ممن سبق وشاركوا في تظاهرات 2015، كانوا الأكثر دراية بلعبة الشارع، والمواجهة مع القوى الأمنيّة، والشعارات المستعادة إضافة إلى نقمة واضحة على الوضع الاقتصادي وسلطة المصارف وحاكم مصرف لبنان. «رياض سلامة حرامي»، ذكرت إحدى اللافتات. «المخضرمون» كتبوا على أيدي باقي المتظاهرين أرقام المحامين في حال تمّ اعتقالهم. «الأمور تراكمت، من ارتفاع الدولار إلى أزمة الخبز، وأخيراً دقّوا بالواتسآب التطبيق المجّاني... طفح الكيل!»، يقول سليم الآتي من المنصورية (المتن).

حرائق بداية الأسبوع، وأزمة الدولة في مواجهتها، حضرتا مع القادمين من الشوف وإقليم الخرّوب. «خلّصنا الحريق، وجينا نحرق هون»، يقول الياس ابن الدبيّة التي طاولتها الحرائق. ابن الليلكي نال نصيبه من هراوات القوى الأمنيّة ليل الخميس- الجمعة، وعاد أمس مطالباً بـ«إسقاط الحكومة والعيش متل الخلق». من الدكوانة جاء بعائلته وأطفاله، مثل عائلات عديدة شاركت في الاحتجاج، «بدنا ناكل ونشرب وندفع فواتيرنا مش أكتر».

المغتربون ممن صودف وجودهم في البلد حضروا أيضاً، أحدهم (29 عاماً)، يقول: «أنا من سكّان البربير وأعمل في الكويت، أشارك في التظاهرات علّنا نصلح البلد لنعود للعمل فيه». غضب الشباب عبّروا عنه بما تيسّر من شتائم ردّدوها «ملحّنةً» تستهدف معظم السياسيين، بلا استثناءات. لقد انكسر المحظور! إحدى المتظاهرات تبوح بالعبء الذي تنوء تحته: «مكسورة على 5 آلاف دولار من قسط الجامعة».

تصاريح السياسيين من بعبدا وبيت الوسط، وصلت إلى المتظاهرين عبر هواتفهم المحمولة، وردّوا عليها بكيل الشتائم. دقيقة صمت وقف المتظاهرون عن روح العاملين اللذين قضيا اختناقاً في حريق أحد الأبنية في وسط البلد أول من أمس. جئت «احتجاجاً على الغلاء والضرائب وكرمال أولادي الأربعة»، تقول سوزان التي نزلت من عرمون رغم قطع الطرقات. من مرجعيون، حضرت مجموعة من الشباب، «لأن ما بدنا نسافر إلى أفريقيا، بدنا يرجع الإسكان». من طريق الجديدة، جاء والد ينتظر ابنه البكر «ما بدي يدفع مثلي مئة فاتورة». سجى (26 عاماً) جاءت من الأوزاعي، لأنّها «بلا عمل ثابت». علي (21 عاماً) جاء من صور «انضممت إلى محتجّي العاصمة للمطالبة بأقل حقوقي». ابن البسطة الفوقا يجزم «أننا في دولة حراميّة ومن حرّضنا للنزول ليس الواتسآب بل من سبقونا إلى الساحة». الأزمات المتتاليّة كانت محرّضاً بارزاً لابن برج أبي حيدر (20 عاماً)، «ساعة ما في خبز، ساعة ما في بنزين، خلص!».

السرعة حكمت التحرّك فكانت اللافتات معدودة، وأبرزها: «من أين لك هذا؟ لا للسرّية المصرفيّة للمسؤولين»، «ثورة»، «الضرائب تصاعديّة أو لن تكون أبداً، عدالة اجتماعيّة». فرحات جاء من بلدة العين (قضاء الهرمل)، يشير إلى فيديو عبر هاتفه، ويقول بفخر: «شوفوا أهل ضيعتي!». «من حيفا لبيروت» عبارة منقوشة على أقراط شابة فلسطينيّة، من مخيّم البرج الشمالي (صور)، سنحت لها الفرصة هذه المرة، «من خارج المخيم»، للتعبير عن رفضها «للإجراءات التي تطاول الفلسطينيين وإجازات العمل».


غضب جنوبيّ: ثمّة ما انكسر!

آمال خليل

بكثافة غير مسبوقة، نزل الغضب الجنوبي من النظام وحكّامه إلى الساحات، متحرراً من ميادين المنصّات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي ومن انتقاد الفاسدين في المجالس الخاصة. في النبطية، كانت انتفاضة ليل الخميس مفاجئة. عشرات الشبان حطّموا اللافتات التي تحمل اسمَي نائبيهم محمد رعد وهاني قبيسي وحاولوا اقتحام منزل نائبهم الثالث ياسين جابر. المحاولة التي صدّها مناصرون لجابر منتصف ليل الخميس، تجدّدت مساء أمس وتخلّلها إطلاق نار في الهواء من عناصر في «أمل» حضروا لحماية المنزل وصدّ الجموع التي تجمهرت أمامه. الغاضبون واجهوا النار برمي الحجارة، ما أدى إلى وقوع ثلاثة جرحى من عناصر الحماية. في المدينة العالقة في أزمة نفايات منذ خمس سنوات، حاول الشبان الغاضبون ليلة أمس، كما الليلة التي سبقتها، اقتحام مبنى السرايا الحكومية، والبلدية المحسوبة على حزب الله واتحاد البلديات المحسوب على «أمل». استطاعت تلك المجموعة التشويش على التجمّع السلمي الذي نفّذ أمام السرايا منذ الصباح. تلك الفئة الأكبر من أبناء المدينة وبلدات المنطقة تجمّعت صباحاً وسارت في تظاهرة حاشدة نحو مستديرة كفررمان حيث نُفذ تجمع احتجاجي آخر، فيما نُفذ تجمع ثالث عند مدخل النبطية الفوقا.

وبين التجمعات الثلاثة، أُقفلت التقاطعات الرئيسية بالإطارات المشتعلة والردميات. الإقفال طاول محطات عدة على أوتوستراد الزهراني - النبطية وطريق النبطية - مرجعيون وطريق النبطية - أنصار. زخم المشاركة عزّزها التحاق إمام النبطية الشيخ عبد الحسين صادق ليل الخميس بالمتظاهرين أمام حسينية النبطية ومشاركة عدد كبير من الأشخاص المحسوبين على حزب الله وأمل.

صور التي تعدّ العرين الأبرز لـ«أمل» لم تحمل أمانة الحركة أمس. ثمة ما انكسر في العالقة بين «المحرومين» و«حركتهم». شعارات لاذعة طاولت رموز الحركة والرئيس نبيه بري وعائلته. البعض لم يكتف بالهتاف وإطلاق الشتائم. في خطوة لافتة، اقتحم العشرات استراحة صور التي يظن البعض أن لزوجة بري حصصاً فيها وخطوا على لافتتها «أملاك الشعب». إلا أن قوة من الجيش حضرت سريعاً وصدّت المهاجمين واعتقلت عدداً منهم. لكن بعد ساعة، عاد الشبان واستطاعوا اقتحام القسم الفندقي وأشعلوا النار في بعض محتوياته. وفي الإطار ذاته، قطع شبان الطريق قبالة جامعة فينيسيا المملوكة من رندة بري وأشعلوا النار في اللافتة المؤدية إليها. الغضب ضد «الأخضر» طاول النائبين علي خريس وعناية عز الدين اللذين تجمّع المئات أمام مكتبيهما في المدينة. وكانت صور نفذت قبل ظهر أمس تظاهرة حاشدة قُدّرت بالآلاف جابت شارع المصارف عند الكورنيش البحري. التجمع المركزي في صور رافقته تجمعات محدودة في بلدات القضاء، ارتكزت على قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة من قبل عشرات الشبان عند مداخل صور والبرج الشمالي والقليلة وصديقين وصريفا.

المتظاهرون يقتحمون استراحة صور: «أملاك الشعب»

منطقة بنت جبيل لم تكن أقل غضباً. التجمع المركزي نُفذ عند مستديرة صف الهوا التي قُطعت المنافذ المؤدية إليها بالإطارات المشتعلة. كما حاول شبّان اقتحام مكتب النائب علي بزي، فيما نفى مكتب النائب حسن فضل الله أن يكون قد تعرض لمحاولة اقتحام. الإطارات تحكّمت بالطرق بين بلدات المنطقة في فرون والغندورية وكفرا. وعند مدخل مارون الرأس، أحرق رجل أثاث منزله احتجاجاً على ضيق أوضاعه المعيشية. وعند مفترق بئر السلاسل، قطع بعض الناشطين الطريق المؤدية نحو تبنين بالحمير دلالة على سلوك الزعماء تجاه الشعب.

في التجمعات الشعبية على اوتوستراد صور الزهراني، ابتكر البعض حلولاً لتبديد الوقت تحت الشمس الحرقة. منهم من لعب الورق في وسط طريق العباسية ومنهم من رقص الدبكة عند السكسكية، ومنهم من لعب كرة القدم عند الصرفند، ومنهم من نفخ عليها بالنراجيل لتنجلي عند البيسارية.


إقفال أوتوستراد غزير: تغيير النظام الاقتصادي

ليا القزي

لأنّ الطرقات هي مُلكٌ عامّ، «نحنا باقيين بأملاكنا لنحقّق مطالبنا. وإذا قدرت عليكم القوى الأمنية، فنحنا مِحور الزوق ناطرينكم هونيك». كان ذلك شاباً وصل من زوق مصبح إلى أوتوستراد غزير في كسروان، ليشدّ عزيمة المعتصمين، قبل أن يعود إلى «محوره». الأسود الذي يُغطّي جسده ووجهه، يُخبر قصة شابّ لم يترك الشارع منذ يومين، أسوةً بلبنانيين آخرين، لا يريدون للنار أن تخمد. ليس المقصود فقط نار الإطارات المُشتعلة، والتي قطعت أمس أوتوستراد غزير (أوتوستراد بيروت - طرابلس) عن ذوق مصبح جنوباً والصفرا شمالاً، بل حماستهم وهمّتهم وصرختهم لانتزاع حقّهم من سلطةٍ «عرّتهم». فكلّ الحلول لإنهاء أزمة اقتصادية تسبّب بها أركان الدولة، تدور حول تدفيع المواطنين المزيد من الضرائب وانتزاع مكتسباتهم منهم، مقابل ارتفاع خدمة الدين العام وحماية ثروات الطبقة الحاكمة (بشقيها المالي والسياسي). أمام حالة الاختناق التي فُرضت على الناس، هل يبقى ما يستحقّ أن يقيموا من أجله حساباً؟

هي شرارة أرادوا القبض عليها، لتحقيق خرقٍ يطمحون أن يكون عظيماً: «الشعب يريد إسقاط النظام». شعارٌ عامّ ردّده كُثر أمس، من دون تحديد مقصدهم من «النظام». البعض يعتبر أنّ كلمة النظام تعني مجلس الوزراء، فنصبَ خيمةً على الطريق السريع، واعداً بعدم إزالتها إلا بعد إسقاط الحكومة. أما البعض الآخر، كرالف ابن الـ21 سنة، فكلامه موجّه: «وضع خطة تسمح بتحسين أوضاع معيشتنا وتُحقّق مشاريع فعلية». ولكنّ الخطوة الأساسية قبل البدء بذلك، «هي تغيير النظام الاقتصادي، وإقالة كلّ من نهب أموالنا وجوّعنا». في السنوات السابقة، تمكّنت السلطة الحاكمة من حرف أنظار اللبنانيين عن مكمن الخطر الحقيقي، واستفادت من توجيه نقمتهم تجاه قضايا «ثانوية» وأقلّ خطورةً من الضرر الذي يُسبّبه النظام الاقتصادي القائم. لذلك، إنّ إعادة تشكيل وعي الجماهير باتجاه «العدّو» الفعلي لحقوقهم ووجودهم، محطة أساسية في المواجهة الحالية. يتحدّث رالف عن تركّز الأموال «بيد 1٪ تتحكّم بثروات أكثر من نصف الشعب، وعدم وجود نظام ضريبي عادل»، ليخلص إلى أنّه يجب «محاكمة الفاسدين لنسترد أموال الدولة، قبل أن ينتزعوا ما تبقّى في جيوبنا، وفي جيب أبي الذي يعمل ليل نهار ليؤمّن لي قسط جامعتي. حين سأتخرّج، أين سأجد وظيفة؟ من سيؤمّن لي البنزين والغذاء والدواء؟ لذلك الحلّ ليس بإسقاط الحكومة، بل بتغيير العقلية». لم يسبق لرالف أن شارك في تظاهرات أو اعتصامات، «نزلت لأن حسّيت في نبض حقيقي».

عدوى (حميدة) أصابت الساكنين في غزير والبلدات المحيطة لها، لينتشروا في الشارع، تماماً كما قُطعت الطرقات البحرية والسريعة في زوق مصبح وساحل جونية وأدما والصفرا والعقيبة ونهر ابراهيم وجبيل وعمشيت… أغضبتهم الأخبار عن نيّة الحكومة فرض ضرائب جديدة، واستفزّهم مشهد التظاهرات في وسط العاصمة، حتى تكون لهم أيضاً مشاركتهم في «معركة استعادة الحقوق». بدأت القصّة، في غزير، من محادثة على تطبيق «واتسآب» بين عشرة شبّان، قبل أن ينضم إليهم مراهقون وطلاب جامعات وأهالٍ ورجال أعمال ومتقاعدون… يُخبر أحد الذين بدأوا بالحراك كيف «خَدَع» أصدقاءه عندما قال لهم بأنّ الطريق أُقفلت أمام الملعب البلدي في جونية، «لأحثهم على النزول». أتوا بشاحنة مليئة بالإطارات، «وما زلنا منذ التاسعة ليل الأحد في الشارع، ولن نخرج قبل إسقاط الحكومة». يقول الرجل إنّه ينتمي إلى القوات اللبنانية، «ولكنّ التحرّك غير مُسيّس. كلّ الأعلام هنا للبنان». لماذا التحرّك؟ «اكتفينا من دفع الأموال، عيشناهم كتير قبل، صار وقت هنّي يدفعوا كرمالنا. ما رح ندفع لا ميكانيك ولا ضبط ولا شي، هالـ100 ألف يللي بدّن ياخدوها ولادنا أحقّ فيها». أيضاً، هي المرّة الأولى «التي أدعو فيها لتظاهرة، لأنّ المطالب مسّتنا جميعاً». قليلة كانت أعداد العناصر الأمنية الموجودة. لحظات ويمرّ موكب لمغاوير البحر في الجيش اللبناني، «يعطيكم العافية»، توجّه أحد العناصر للناس.

البعض نصبَ خيمةً واعداً بعدم إزالتها إلا بعد إسقاط الحكومة

هتف المعتصمون ضدّ «14 و8… عملو البلد دكّانة»، وكان الاتجاه لأن تكون الصرخة الاعتراضية شاملة، فـ«كلّن قرطة حرامية». ولكن وُجد من يهتف ضدّ العهد والوزير جبران باسيل، مُطالبين إياه بالرحيل. للأخير مُناصرون في الشارع أيضاً. «أنا عونية، مع ميشال عون وجبران باسيل، ونازلة مع حالي وحقوقي مش ضدّن»، تقول شابة. إلى جانبها رجلٌ، يُخالفها التوجه السياسي، ولا يريد إسقاط الحكومة «فليس هذا الحلّ». غالباً ما يُشارك في التحركات الشعبية، هو المُتألّم من «عدم وجود ضمان صحي ونظام تقاعد مُنصف. اسألي مصاري الضمان من سرقها وأصبح اليوم في الحكومة؟».

الغلبة في غزير كانت للجيل الجديد، طلّاب الجامعات تحديداً. رقصوا، عزفوا على الطبلة، ورفضوا العودة إلى بيوتهم. تقول إحداهنّ إنها «بتعلّم بالجامعة اللبنانية، وهونيك كارثة تانية، ورغم انو بعدني باخد مصروفي من بيّي بس حاسة خلص عم نختنق. كتير هيك وقاحة الدولة بالضرائب». أما رومي، فتستغرب سؤالها عن سبب مشاركتها في الاعتصام، «ما في شغل، البحر ملوث، القدرة الاستهلاكية عم تنخفض كتير، كل شي غالي». وتوضح فتاة في الـ19 من عمرها أنّ «قصة الواتسآب كانت حبّة الكرز على قالب الحلوى (تقولها بالفرنسية)، ولكن الأساس أنّنا لا نملك شيئاً». ما المطلوب؟ بحسب فادي، «حكومة اختصاصيين، لأنّ السلطة الحالية فاسدة وفاشلة. معقول أنّ ٧ أشخاص لديهم ثروات بمليارات الدولارات ولم يتمّ إيقاف أي منهم لاستعادة الأموال؟».


«حظر تجوّل» في المتن الشمالي: إسقاط الحكومة... ورياض سلامة

رلى إبراهيم

«ما بتقدر أبدا تلغيني، بدك تسمعني وتحكيني»... تدندن إحدى الفتيات أغنية جوليا بطرس وهي تسير برفقة كلبها الصغير الأبيض إلى مكان تجمع بعض من رفاقها على جانب من أوتوستراد انطلياس أمس. الحياة، حتى بعد 24 ساعة من الاعتصام تبدو كفسحة أوسع وأكثر أملاً. الكل يضحكون هنا ويغنون... والكل يبدون في انتظار تطور ما، بمن فيهم عناصر الجيش المتأهبون في الناحية الأخرى من الطريق. تفكر رامونا لبعض الوقت قبيل الإجابة عمّا تريده حقاً اليوم. ما عاد الطلب بالمفرق ينفع: «نريد تحقيق كل مطالب الشعب. يفلوا ونحن منحققها بدونن وأولن رئيس الجمهورية». بالمناسبة رامونا أتت من بشري لتعتصم في انطلياس. بجانبها، يُرخي أحد المغتربين الآتين حديثاً الى لبنان بثقله على أحد بلوكات الباطون الفاصلة. يتردد في الحديث، ثم يطلب مساعدة للتعبير عمّا يريد إيصاله: «يمرقوا قانون رفع السرية المصرفية ويعترفوا بحقوق المواطن المدنية». العدد هنا يناهز الخمسين شخصاً وهو أشبه بتجمع عائلي لشدّة التآلف بين المعتصمين. يقف أحد الشبان مستغرباً حضور «غريب»، ليسير بنا إلى شاب على بعد أمتار منه طالباً منه أن يهتم بجريدة «الأخبار». يربط الأخير وجوده في الشارع بلائحة متكاملة: «إيقاف الفساد، استرجاع الأموال المنهوبة، إلغاء النظام الطائفي، كهرباء، طبابة، استقالة الحكومة»... و«استقالة رياض سلامة» يضيف أحد الرفاق الواقفين بقربه.

لم يسبق لبلدات ساحل المتن الشمالي أن انتفضت منذ سنوات كثيرة. بدا الأمر يوم أمس أشبه بإعلان حظر تجول في الطرق الداخلية للتجمّع على نقاط الأوتوستراد الرئيسية. المصارف أُقفلت بقرار رسمي والمحال التجارية بقرار فردي. حركة السير شبه معدومة ويغيب عناصر الشرطة البلدية بشكل كامل. خلت أسواق ضبيه وانطلياس وجلّ الديب والزلقا والجديدة والدكوانة التي عادة ما تكون مكتظّة بناسها، إلا من بعض الدرّاجات النارية التي تعمد الى إشعال بعض الدواليب ومستوعبات النفايات لقطع الطرقات. حضر الطبل ليزفّ جسر جل الديب ولو متأخراً، على حدّ قول أحد المعتصمين هناك. وحضرت ثلاث سيارات محملة بمكبّرات صوت، تغني كلّ منها على سجيّتها. السواد المنبعث من الإطارات المشتعلة يلفّ السماء، وتعلو قبضات المعتصمين على الجسر بحركة واحدة منتظمة مع من يتجمّعون تحته. العدد هنا أكبر وموجّه أكثر. ينخفض صوت جوزف عطية، ليعلو صوت أحد الشباب «المترئسين» لقسم من الحشد: «من شهرين قلكن قائد المعارضة (ربما في إشارة إلى النائب سامي الجميل) فِلّوا أحسن ما تفلّوا شحط... فاسدين، زعران، سرقتوا المال العام». حضور النساء يوازي أو يفوق حضور الرجال عدداً في جل الديب، ومعظم هؤلاء من سكان البلدة. تقول إحداهن وهي تسير وزوجها وابنها وابنتها متماسكي الأيدي، إن فرصة الضغط لفرض تنازلات قد تكون ذهبية اليوم. أما ولداها، فيعتقدان أن مهرجاناً ما يحصل. في الساحة أيضاً خمسة شبان ينفثون النرجيلة بسلام وكأنهم في إحدى صالات السينما المفتوحة: «نريد استقالة الحكومة ورئيس الجمهورية. لو كان قادراً أن يقوم بالوضع لكنا معه».

على نهر الموت، «ولّعها» الشباب وكأنها ساحة حرب. يريدون إسقاط الدولة الطائفية بأحزابها: «كلن يعني كلن. هؤلاء الذين يقتاتون على دماء الحرب الأهلية». يبدو المكان مناسباً لتذكّر يوم من تلك الأيام الأليمة، حين أطلقت القوات اللبنانية النار على المتظاهرين في الموقع نفسه. «قديش العالم بعد بدا تنذلّ لتعمل ثورة»، يصرخ أحدهم. فيما زميله يتفرّغ لتسهيل مرور بعض السيارات مرتدياً قناع «فانديتا». تحلّ ساعات بعد الظهر، فتتفرق الحشود خصوصاً في سدّ البوشرية حيث لا وجود سوى لدراجات نارية تستعرض حركاتها على الطرقات وتضمن عدم إخماد النار في وسط الطريق. تسلك دراجة طريقها نحو مستديرة الصالومي لتعيد إغلاق أحد المنافذ نحو سنّ الفيل. يبدو الرجل مصرّاً على سدّها بدراجته. يفاوضه أحد عناصر القوى الأمنية. يرفض. يفاوضه آخر. يتمنى عليه الشاب أن يتركه لتنفيذ عمله. يصر العنصر الأمني. المشهد لطيف لكن الشاب يشعر بالتوتر، فيصرخ بالسيارات التي تحاول المرور: «مش عيب عليكن ما تنزلوا توقفوا حدّي لنسقط الحكومة».


طرابلس تثور على الحريري وميقاتي

عبد الكافي الصمد

بعد قرابة 8 سنوات، انقلب المشهد السياسي والشعبي في طرابلس رأساً على عقب، ما أعطى مؤشراً أن ما بعد 17 و18 تشرين الأول 2019 لن يكون كما قبله في المدينة.

ففي 25 كانون الثاني 2011، احتشد مناصرو تيار المستقبل في ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور) احتجاجاً على تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتأليف الحكومة على حساب الرئيس سعد الحريري، ما دفعهم حينها إلى إعلان «يوم الغضب» من «عاصمة السنّة»، قبل إشغال المدينة بجولات من الاشتباكات التي لم تهدأ إلا بعد استقالة حكومة ميقاتي.

في الساعات الـ48 الماضية تبدّلت الصورة تماماً، بعدما قام محتجّون بتمزيق صور الحريري وإحراقها، وكذلك إحراق صور والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري والأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، بشكل لم يكن أعتى خصوم الحريري يتوقعه.

مشهد أول من أمس استكمل أمس في طرابلس، وتوسّع نطاقه، بعدما قام المحتجون بمحاصرة قصر ميقاتي في الميناء وتمزيق صوره، وهي المرة الثانية التي يُحاصر فيها قصره، بعد محاولة أولى جرت قبل أسبوعين، ما دفع القوى الأمنية إلى إقامة طوق أمني كبير في محيط القصر لمنع الإحتكاك. وقد شملت الإجراءات أيضاً محيط منازل النواب والمقار الحزبية، لكن ذلك لم يحل دون دخول محتجين مكتب التيار الوطني الحر في شارع الجميزات وتكسير محتوياته، كما سبق أن أحرقوا راية التيار البرتقالي في وسط الساحة، على وقع هتافات وشتائم بحق الوزير جبران باسيل، في حين قام آخرون بتحطيم محتويات مكتب النائب علي درويش في محلة جبل محسن، كما عمد البعض إلى تمزيق صورة للنائب فيصل كرامي.

أمس، ومنذ ساعات الصباح، كان المحتجون يصلون تباعاً إلى ساحة كرامي (النور)، حيث أغلقوا منافذ الساحة كافة، بينما كانت شاحنات صغيرة تنقل إطارات سيارات مستعملة إلى الساحة، تمهيداً لإشعالها. وهو أمر لم يطل انتظاره كثيراً، إذ سرعان ما ارتفعت أعمدة الدخان الأسود في سماء المدينة، ما تسبّب في شل الحركة في طرابلس بشكل كامل.

أوقف الجيش عدداً من مرافقي الأحدب المشتبه في إطلاقهم النار على المتظاهرين

هتافات التنديد بالسياسيين طالت الجميع، لكن القسم الأكبر منها طال الحريري وميقاتي تحديداً، اللذين اتُّهِما بالتخلي عن المدينة وفقرائها.

اللافت في تحرّك أمس أن أحداً من القوى السياسية لم يتبنّه، كما لم يُرفع فيه شعار أي حزب أو تيار سياسي، وأن أغلب المطالب التي رفعها المحتجون لم تكن سياسية، بل تتمثل في تأمين فرص العمل ولقمة العيش والطبابة والتعليم في المدينة الأفقر في لبنان.

التحرّك الاحتجاجي في طرابلس لم يمر بشكل سلمي، ففي حين غاب نواب المدينة والقوى والأحزاب السياسية عن تحرّك الشارع فيها، باستثناء تأييد تلقّوه من النائب فيصل كرامي الذي دعا مناصريه للنزول إلى الشارع ومشاركة المعتصمين تحركهم، سقط عدد من الجرحى، كان من بينهم حالات حرجة، نتيجة إشكال بين مرافقي النائب السابق مصباح الأحدب الذين أطلقوا النار على محتجين بعد رفضهم إلقاءه كلمة في الاعتصام «كي لا يستغل هو أو غيره التحرك لغاياتهم السياسية»، وفق قول أحد المحتجين.

هذا الإشكال دفع المحتجين إلى التوجه نحو «كاراج الأحدب للنقليات» في ساحة التل المجاورة، الذي يملكه الأحدب، حيث قاموا بنزع لافتته وتكسير محتوياته وإحراقه. كما توجهوا إلى منزله في محلة المعرض، لكن الجيش اتخذ إجراءات أمنية حالت بينهم وبين هدفهم. وأوقف الجيش عدداً من مرافقي الأحدب المشتبه في إطلاقهم النار على المتظاهرين.

ومساءً، اقتحم محتجون محل «باتشي» للشوكولا الكائن في شارع الجميزات القريب من ساحة كرامي (النور)، الذي يملكه وزير الاتصالات محمد شقير وأفراد من عائلته، وقاموا بتكسير واجهته ونهب محتوياته.


اعتصام مفتوح لصيدا وحارتها

لم تهدأ صيدا عند مستديرة إيليا. منذ ليل الخميس، تنادى عدد من الناشطين إلى الدوار ونصبوا خيمة مطلقين اعتصاماً مفتوحاً حتى استقالة الحكومة. عبر مكبّرات الصوت، صدحت الأغاني الوطنية والأناشيد الثورية محفّزة مئات الشابات والشبان من المدينة وقرى شرقها وحارة صيدا والغازية وبلدات الزهراني، على الانضمام إلى التجمع الحماسي. حافظ المتجمعون على هدوئهم من دون إطلاق شعارات حادة ضد أي طرف سياسي. من صيدا وحارتها وشرقها أجمعوا على أن "كلن يعني كلن" من دون استثناء. البعض بادر إلى توزيع الطعام والشراب. وآخرون وزعوا الورود على جنود الجيش والقوى الأمنية. منذ انطلاقته منذ ليل الخميس، أمضى النائب أسامة سعد ساعات في خيمة الاعتصام المفتوح، من دون تسجيل مشاركة أو موقف للنائبة بهية الحريري أو الهيئات المحسوبة عليها. سعد حيّا الانتفاضة الشعبية المشروعة والمُحقّة، داعياً "للحفاظ على زخمها وسلميتها».

لكن المشهد الهادئ في دوار إيليا لم يمنع قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة عند المستديرات الرئيسية في المدينة وعلى الكورنيش البحري وعند حاجز الحسبة. لكن التدهور الأمني سجّل عند أوتوستراد الغازية حيث أطلق الجيش النار على المتجمهرين الذين رفضوا فتح الطريق المُقفل بالإطارات.


تعددت الشاشات... والوجع واحد

زينب حاوي

أول من أمس، كانوا بضعة شبّان على جسر «الرينغ» يقطعون الطريق في الاتجاهين. شبان في العقدين الثاني والثالث، نزلوا للاحتجاج على رزمة الضرائب التي أذيعت عند الصباح، وأكدّها الوزراء المعنيون، على رأسها الضريبة على مكالمات «واتساب». نزل هؤلاء للاحتجاح أيضاً على تراخي اللبنانيين عن النزول. خال الإعلام والسلطة مجتمعين أن هؤلاء سرعان ما ستخمد صرخاتهم، ويعودون أدراجهم الى بيوتهم. لكن الذي حصل قلب التوقعات رأساً على عقب. أصرّ المحتجون مساءً على البقاء في الشارع، ونقل حركتهم من منطقة الى أخرى، وسط دعوة مباشرة وواضحة لبقية اللبنانيين الجالسين خلف شاشات هواتفهم إلى الالتحاق بهم. بعيد الساعة الثامنة من مساء أول من أمس، ولدى انتهاء غالبية نشرات الأخبار، بدأت حركة المعتصمين تتظهر على شاشات محدودة من ضمنها: «الجديد»، lbci وnbn، مع استكمال mtv برمجتها من دون أي التفات إلى ما يحصل في الشارع. أما otv، و«تلفزيون لبنان» و«المنار»، فقد واصلت على تجاهل الحدث، الى أن كبرت كرة الثلج، وازدادت الأعداد بشكل مهول، بخاصة بعد حادثة إطلاق مرافقي وزير التربية أكرم شهيب النار في الهواء ومحاولتهم ترهيب المعتصمين. لحظة حاسمة، استطاعت توليد المزيد من الشحن، والدفع بمزيد من اللبنانيين إلى النزول والمشاركة بكثافة. لعلّ صورة الشابة التي ركلت عنصراً أمنياً شاهراً سلاحه في وسط العاصمة اللبنانية، من دون خوف وبكل بأس وقوة، كانت أبرز مثال، على ما بات عليه الشارع اللبناني اليوم، من كسر لجدران الخوف، وحتى تحطيم تابوهات تخص الزعماء أو شخصيات سياسية.

هكذا، توزعت الاحتجاجات على المناطق اللبنانية، من الضاحية، والجنوب، والبقاع. نزل الناس الى الشارع، تشجعوا وكسروا الخوف، ودفعهم قهرهم إلى أن يمسكوا بأيادٍ أخرى. للمرة الأولى في لبنان، نكون أمام هذه المشهدية الفريدة المكوّنة من معتصمين ركلوا انتماءاتهم الحزبية والطائفية والمناطقية جانباً، ووحدتهم أوجاعهم وتراكم الأزمات الاقتصادية الواقعة على كاهلهم. هؤلاء ليسوا بمجموعة واحدة ولا يرأسهم قادة، ولا وجود لأي اتصال في ما بينهم، فقط نزلوا بعدما طفح الكيل وكفروا بالطبقة السياسية الحاكمة.

في المشهدية التلفزيونية أول من أمس، كان لافتاً المسار الذي أجبرت عليه القنوات المحلية، بعدما علت الصرخات في الشارع. قنوات قطعت برمجتها، ونزلت بمراسليها الى الميدان لنقل الحدث، كمحطة mtv، التي واكبت متأخرة قليلاً الحدث بعيد تكاثر الأعداد، وسقوط أي احتمال بأن تكون على شاكلة باقي التظاهرات التي شهدتها بيروت أخيراً، مع تسجيل لأداء مراسليها ومحاولتهم تضييع البوصلة، كإصرار جويس عقيقي مراراً، لدى استصراحها أي محتج، على سؤاله عن الجهة التي دفعته إلى النزول والاعتصام، أو كلامها صباحاً عن «نوعية المتظاهرين» الذين أتوا بالدراجات النارية، ويمكن أيضاً الإضاءة على ما وصف به آلان درغام (mtv) المتظاهرين بأنه يبدو عليهم «بأنهم مثقفون وخريجو جامعات» لدى مواكبته سيل المحتجين في شارع الحمرا.

بعد أكثر من ساعة تقريباً على تحرك الشارع، فُتح هواء «المنار» التي واكبت إلى ساعات الفجر الأولى ما يحصل في الشارع، والتزم التلفزيون الرسمي التجاهل الكليّ لغليان الأرض، فيما كانت otv، تؤخر التغطية، الى حين اتخاذها قرار فتح الهواء، لكن، من دون وجود مراسليها على الأرض. فقد اكتفت بنقل مباشر عن باقي زميلاتها، تحت ذريعة أن فريقها قد يتعرّض للاعتداء من قبل المتظاهرين. otv كانت من بين أكثر القنوات التي تعرّضت للتهكّم. نقلت صوراً لمحطات أخرى، وفتحت الهواء لمجموعة ناشطين وسياسيين ليعلقوا على الحدث. وأضحت اللقطة الأكثر تداولاً وسخرية، عندما أوقفت المحطة بث ما يجري على الأرض قرابة الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبدأت بثّ حلقة معادة من برنامج الطبخ «تيتا لطيفة». استغل الناشطون هذه اللقطة، وسخروا منها كونها تأتي في لحظة يغلي فيها الشارع، فيما تركن بدورها الى تفضيل عرض الترفيه. وصباح أمس، سقطت ذريعة القناة البرتقالية، إذ شاهدنا مواكبتها للتظاهرات على الشاشة، ونزل مراسلوها الى الشوارع وأدلوا برسائل من هناك من دون تسجيل أي أذى لحق بهم.

مع التغطية التلفزيونية الحيّة المفتوحة ليل أول من أمس، حتى ساعات الفجر الأولى، احتل نقل وجع الناس المشهد، مع تسجيل لبعض الشواذات لدى تخصيص مساحات لافتة للسياسيين من قبل lbci، وبعدها mtv، في تكرار لسيناريوات سابقة في التعاطي مع أحداث مماثلة، والركون الى أصوات ليس مكانها على الشاشات بل في ميادين المساءلة.

مراسلة mtv تحدثت عن «نوعية المتظاهرين» الذين أتوا بالدراجات النارية!

ما يمكن الخروج به في هذه التغطيات، أنها كسرت حواجز الصمت والخوف لدى اللبنانيين بأطيافهم كافة، وحطمت أيضاً أجندات القنوات التي اضطرت صاغرة إلى النقل، تحت سوط المساءلة في حال تجاهل نبض الشارع. كذلك، كسرت قاعدة أن الكلمات البذيئة والشتائم يجب تجنّب نقلها على الهواء. فقد كان لافتاً، هذه المرة، عجز المراسلين/ ات، عن التحكم في الأرض وفي وجع الناس، فخرجت استصراحات كثيرة، لم تتوان عن توجيه الشتيمة والعبارات المسيئة للطبقة السياسية. فقد بات هذا الأمر جائزاً وطريقاً لتحطيم سلّم الخوف في التعاطي مع الساسة. الوحدة الوطنية اللبنانية تجلّت من دون أي اتفاق مسبق في كل المناطق، والتي لم يشهد بعضها أي حركة مشابهة منذ الحرب. كل ما حصل أول من أمس أفرز مشهدية فرضت نفسها على الإعلام ورجال السلطة الذين فضّلوا النأي بأنفسهم عن غضب الشارع، وتجنّب حتى التصريحات الإعلامية خوفاً من توليد غضب إضافي يحل على رؤوسهم، بعدما مُزّقت صورهم وبات الهجوم عليهم بالأسماء أمراً معتاداً على الشاشات، بعدما كان من «المحرّمات».

الإعلام السعودي يصوّب على المقاومة

فيما اللبنانيون يتوحّدون للمرة الأولى يداً بيد في وجه الطبقة السياسية الحاكمة من كل الأطياف، وفي كل المناطق اللبنانية من دون استثناء، لم تجد «العربية» سبيلاً لتنفيذ أجندتها ضد «حزب الله» سوى تعمدها في كل تقرير، وحتى في تغطيتها الميدانية إلى إبراز عبارة «حزب الله» وتصوير الاحتجاجات على أنها تنطلق من تلك المنطقة، وتتركز فيها دون سواها في تضليل واضح للحدث.

هكذا، ركزت الشبكة السعودية، على التظاهرات التي حدثت في الضاحية وراحت مراسلتها في بيروت غنوة يتيم، تستصرح المحتجين من هناك. لتخرج بتقرير معنون «ماذا قال أحد المتظاهرين في الضاحية الجنوبية لبيروت لنصر الله؟». تقرير وجّه اللوم إلى أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، على غياب المحاسبة للفاسدين. كذلك، في تقارير أخرى، متفرقة، أصرّت «العربية» على وصف «الضاحية» بـ «معقل حزب الله»، والتركيز على هذه البقعة التي شهدت احتجاجات شعبية أول من أمس.


الشعب قال كلمته، على الإعلام أن يتبع

أحمد محسن

وحّدت الحرائق الناس. شعروا بالخوف. تُرِكوا وحدهم ليواجهوا غضباً رهيباً. اكتشف الناس: الدولة فاشلة إذاً. تأخر الإعلام في الفهم، وباستثناء التغطية الاستثنائية لمراسلة تعاطفت مع الضحايا، تصرف على تنويعاته كما يتصرف اليائسون. انتهت الحرائق، بلا حساب، بلا أسئلة. لكن الناس فهِموا أن الحرائق آتية. ما فعلوه خلال اليومين الماضيين ليس إجباراً للسُلطة على الاستماع إلى صوتهم بالقوة، بل إعلام الجميع: «نحن الإعلام»

الفرح والأمل وتوزيع السعادة ليست وظائف أحد. توزع الأدوار وتوزيعها قد يكونان ضمن مستويات متفاوتة للتعامل مع الكارثة. الكارثة التي سيصل إليها بلد تقود سياسته المصارف التي هو مدين لها، وهذا الخطاب ما زال غائباً عن ألسن محتلي الهواء على الشاشات. المشهد الإعلامي في غاية البساطة: لدى الناس ما يقولونه في الشارع. هل لدى الذين يخرجون على الشاشات ما يقولونه؟ حتى الآن، النفي إجابة عادية. كذلك، المشهد في غاية التعقيد. فالأمل مبالغ فيه. ليس ضرورياً في غير وقته، وليس هناك من أي حلّ للأزمة قبل الاعتراف بها، أو في الحالة الإعلامية اللبنانية تحديداً: عدم التخلي عن هذا الاعتراف. الاعتراف أهم من الأمل، وأكثر رجاحة بكثير. حتى الآن، ما يجمع المؤسسات الإعلامية بالتظاهرات والمتظاهرين، هو الاعتراف. استمرارهم في التحرك ضدّ الأزمة بمواكبة إعلامية، على أرضية لا تخلو من ذهول جميع الأطراف بأنفسهم. الناس صدّقت أنها تستطيع أن تفعل ما تريد فعله، أو على الأقل تقول ما تريد قوله، من دون طوائفها، والإعلام لوهلة أيضاً صدّق أنه يمكن أن يكون خلف الناس، وليس خلف الطبقة المهيمنة.

تبدو الأمور مختلفة قليلة على الأرض. الإصرار الذي يبدو عليه المتظاهرون، متجمعين ومتماسكين في أحيائهم، لا يبدو دقيقاً في التلفزيون. قبل الكاميرات، لا يبدو هؤلاء متحمسين لتأكيد انتمائهم إلى الجوع وإلى الأزمة، قبل انتمائهم إلى أي حظيرة طائفية. ظهورهم على التلفزيون، في كثير من الأحيان، يجعل هذه المتلازمة ضرورية، أي نفيهم لأي صبغة طائفية مشبوهة عن اعتراضهم. في الليلتين الماضيتين، ورغم عدم وجود أي مظهر «طليعي» في التظاهرات، كان وعي المتظاهرين بالمحصلة، وفي محطات كثيرة، يتجاوز وعي المراسلين التلفزيونيين. مراسلو قناة «الجديد» الطيّبون، دخلوا في سجالات مع المتظاهرين على الطريقة اللبنانية، كما لو أنهم جزء من النقاش. مراسلو «أم تي في» حاولوا الإسهام في تحييد بعض الشخصيات. مراسلو «أو تي في» كانوا مستغرقين في مشاهدة الأحداث عبر شاشات أخرى، لأن «تيتا لطيفة» كانت تُعدّ طبقاً شهياً من الكفتة والبطاطا على شاشتهم. في جميع الحالات، اندفاع الإعلام على نحو متواتر، يشبه تواتر الناس أنفسهم إلى الطرقات، ويقود إلى مجموعة ملاحظات رئيسية.

أولاً، التفاوت الرهيب في الحِرفية بين العاملين في المؤسسة الإعلامية الواحدة. مثلاً، على «الجديد»، على نقيض من المناوشات الحامية بين بعض مراسلي «الجديد» المبتدئين مع الناس، النابعة من شعور فظيع بسُلطة منحهم الحق في الحديث، بدا مراسل «الجديد» في مار مخايل مرتاحاً مع نفسه، حاضراً وجاهزاً، كما لو أنه يعرف هؤلاء الناس. وإذا أردنا استخدام لغة أكثر علمية، يبدو أنه يعرف ما الذي يريده هؤلاء الناس، وكيف يريدون قوله، وإلى من يتوجهون بأقوالهم واعتراضهم. وينسحب هذا على مراسلي «أم تي في»، في المناطق المتوزعة شرق العاصمة، حيث انتشروا كما ينتشر الجنود في «مواقع آمنة». هذه الملاحظات عن «التركيبة»، ستكتسب قيمة إضافية عندما يتضح أن مراسلة «أم تي في» لم تستطع تحمّل التكسير والفوضى في محيط وسط المدينة، وأسرفت في حديث – لم يسبقها إليه إلا مناصرو مارين لوبن – عن «تغيّر نوعية المتظاهرين». الحديث عن النوعيّة ليس غريباً في لبنان، وهذا «الفحص» السريع تمّ إجراؤه عادةً، وإعلانه من قبل سياسيين تشربوا «الصيغة» التي صار علكها وبصقها على الهواء أو تحت الهواء، بلا أي فائدة، خاصةً بعدما ثبتت لا مركزية الحراك، واستحالة تبعيته لأي جهة خارجية، على نقيض من مصالح المرتزقة والانتهازيين.

ثانياً، أصوات الناس كانت أعلى من المؤسسات الإعلامية، أو المؤسسات التي أدرجت نفسها في هذا التصنيف، رغم أنها تشكّلت في الأساس كمؤسسات طائفية. هذه المؤسسات وجدت نفسها في اليومين الماضيين تتحرك داخل النظام وليس خارجه، لكنها شعرت لأول مرة بقيادة جديدة للنظام. لقد قاد المتظاهرون تظاهراتهم، وخرجوا بأنفسهم، على نحو محكم، إلى درجة صعّبت على الأبواق المعتادة «التشويش» على التظاهرات، وإضافة أبعاد مؤامراتية خيالية إليها. وهذه نقطة أساسية. لوقت طويل، حكمت علاقة هذه المؤسسات بالسُلطة، وحكمت علاقة اللبنانيين بإعلامهم. علاقة تقتصر على تبادل جرعات من الطائفية، ومن تمييع متواصل للأزمة. وفي الليلتين الماضيتين، كانت المؤسسات الإعلامية – وليس جميعها طبعاً على الدرجة ذاتها من العلاقة بالسُلطة القائمة – قد وجدت نفسها خلف سُلطة جديدة، لا تعرف التعامل معها، بحيث إن هؤلاء الناس لا مرجعية حزبية وطائفية محددة لهم. القول إن اللبنانيين الذين شاركوا في التظاهرات خرجوا من طائفيتهم إلى الأبد هو قول مبالغ فيه، وتعطّله التغطية الإعلامية نفسها. لقد وضعوا طائفيتهم جانباً، ما اضطر المؤسسات الإعلامية إلى أن تضع علاقتها بالطبقة المهيمنة المتذرعة بوصايتها على الطوائف جانباً. ودائماً، ينبغي التنبيه إلى أن التلفزيون، بالاستناد إلى مراجعة طويلة لبورديو، لا يمكنه إظهار الصورة كاملة، لأن إظهارها يعطّل جزءاً أساسياً من صورته.

تحميل القنوات مسؤولية التصريحات العنصرية ليس عادلاً في بعض الحالات

ثالثاً، الإعلام معني بفتح الهواء للاعتراضات والمعترضين، لكنه معني أيضاً بالبحث عن أصوات داعمة للتظاهرات، وقادرة على رفع مستوى المطالب إلى درجة واقعية. الصرخات من الحناجر المتعبة هي الحقيقة، ولكن يجب أن يجد المتظاهرون في الإعلام المادة التي يبحثون عنها وهي موجودة، للرسو على مطالب من شأنها منع أركان السُلطة من التمييع. بين الطبقة الأوليغارشية التي فعلت ما فعلته ولم تشبع، وبين الطبقة المضادة، وجوه وأسئلة كثيرة. هذا ما لا تظهره وسائل الإعلام التلفزيونية. لأسباب عديدة، اكتفت هذه المحطات، على مدار اليومين الماضيين، بالذهول. انبهرت بالأصوات القوية، بخروج اللبنانيين أخيراً عن صمتهم. اكتشف الإعلام اللبناني خلال اليومين الماضيين أن «الأكثرية الصامتة» يمكنها أن تتحدث، وأن تصرخ، وأن تعلن عن نفسها كأكثرية، قابلة للاتساع أو للانحسار. اكتفت الوسائل الإعلامية بفتح الهواء، وإرسال مراسلين يتفاوتون في درجة الحرفية، وفي درجة الطائفية تبعاً للمؤسسات التي خرجوا منها. في المقابل، لم يظهر من يتحدث عن دور المصارف، وعن المخارج الممكنة. تعرّفت المؤسسات الإعلامية إلى نوعين من الوجوه وحسب؛ النوع الأول وهو الأكثر سطوعاً وحقاً بالمشهد، وهو الذي أجبر الجميع على الاستماع إليه. والنوع الثاني هو النقيض، أي الوزراء وأركان السُلطة. بسُلطته، استطاع الإعلام لوقت طويل تقديم الكثير من الأصوات الانتهازية على أنها من دعاة الإصلاح والمقاومة وما شاء الله من شعارات. حتى ليل أول من أمس، خسر الإعلام هذه السُلطة. الناس كفرت بكل شيء، والإعلام كان ينقل كفرها، محافظاً على خيط رفيع من العلاقة بالسُلطة تحت ذريعة واهية هي «المعايير المهنية»، ويعلن بصوت خافت: «لست بكافر».

رابعاً، هناك أشياء لا يمكن تفاديها في أحداث جارفة. تحميل الإعلام مسؤولية التصريحات العنصرية هنا وهناك ليس عادلاً في بعض الحالات، وفي حالات أخرى قد يكون ضرورياً. المسألة شائكة ولا يمكن توقع محاضرات في الدفاع عن المجتمع بين جحافل المتظاهرين الجائعين. العمل على نبذ هذه الأفكار متأخر، والإعلام لعب دوراً سلبياً يشبه دور السُلطة التي أوهمت الناس بوجود مشكلة مع اللاجئين. على الإعلام أن يستقيل من دوره في فضح هذا الوهم، إضافة إلى الأوهام الأخرى، التي رسّخها النظام لوقت طويل، مثل مديح الجيش والعسكر، الذي لا يدل إلا على وجود خوف عميق ما زال كامناً في مكان ما في نفوس المتظاهرين. الأمل لا يكفي، الاعتراف هو أول الطريق، والمجد يبقى دائماً للذي قال لا.

السلطة إلى القمع المفرط... بعد المسّ بمصرف! (هيثم الموسوي)
السلطة إلى القمع المفرط... بعد المسّ بمصرف! (هيثم الموسوي)


وقاحة جنبلاط وحاجات جعجع... النفسية (مروان طحطح)
وقاحة جنبلاط وحاجات جعجع... النفسية (مروان طحطح)


بيروت «تحت» صفيح ساخن: نزل الجيش إثر تعرّض المتظاهرين لواجهات بعض المصارف بالتكسير في وسط بيروت (هيثم الموسوي)
بيروت «تحت» صفيح ساخن: نزل الجيش إثر تعرّض المتظاهرين لواجهات بعض المصارف بالتكسير في وسط بيروت (هيثم الموسوي)


أمام مصرف لبنان: حرامي حرامي... رياض سلامة حرامي (مروان طحطح)
أمام مصرف لبنان: حرامي حرامي... رياض سلامة حرامي (مروان طحطح)


يسقط «بيت المال»... من أين لك هذا؟ شعارات وشتائم: لقد انكسر المحظور
يسقط «بيت المال»... من أين لك هذا؟ شعارات وشتائم: لقد انكسر المحظور


غضب جنوبيّ: ثمّة ما انكسر!
غضب جنوبيّ: ثمّة ما انكسر!


إقفال أوتوستراد غزير: تغيير النظام الاقتصادي
إقفال أوتوستراد غزير: تغيير النظام الاقتصادي


طرابلس تثور على الحريري وميقاتي
طرابلس تثور على الحريري وميقاتي


تعددت الشاشات... والوجع واحد - نضال خيري ـ الأردن
تعددت الشاشات... والوجع واحد - نضال خيري ـ الأردن



تعددت الشاشات... والوجع واحد - نضال خيري ـ الأردن
تعددت الشاشات... والوجع واحد - نضال خيري ـ الأردن


الشعب قال كلمته، على الإعلام أن يتبع - (رامي قانصوه)
الشعب قال كلمته، على الإعلام أن يتبع - (رامي قانصوه)











تعليقات: