جاسوس في جيبي


مما يُروى عن شاعر مصر، الراحل أحمد فؤاد نجم، إن رجل أعمال ثرياً أهداه هاتفاً محمولاً في بداية خدمة الهواتف النقالة في مصر، لكن "الفاجومي" حين عرف بما يمكن للهاتف أن يفعل، رفض الهدية بصورة قاطعة: "عايزني أشيل مُخبر في جيبي؟".

يوم الخميس الماضي، بعد ستة أعوام إلا شهراً على رحيل نجم، أثبت "المجلس القومي لحقوق الإنسان" في مصر، بُعد نظر الشاعر، حين دان في بيان "توقيف المواطنين أثناء سيرهم في الشوارع وإجبارهم على إطلاع رجال الشرطة على هواتفهم النقالة وفحصها، وذلك بما يخالف نصوصاً عديدة في الدستور تضفي حماية على حرمة الحياة الخاصة، وكذا تحصين مراسلات المواطنين واتصالاتهم، بما فيها الاتصالات ووسائل التواصل الإلكترونية".

تأتي أهمية البيان/الإدانة، كونه صادر عن مجلس حكومي، وإن ضمّ في عضويته عدداً من الحقوقيين المعروفين، ما يجعله إشارة خافتة تصدر عما كان يسمّى يوماً دولة المؤسسات، والتي يمكن لإحداها أن تتصدى أو تنتقد بصورة مستقلة ما تفعله أخرى. كما أن البيان في حد ذاته، عُدّ أول تأكيد رسميّ لما تداوله نشطاء ومواطنون بصورة واسعة، عن عدم الاكتفاء باستيقاف واستجواب المواطنين من قبل رجال الشرطة على خلفية تظاهرات 20 سبتمبر، بل فحص ما تحويه هواتفهم المحمولة أيضاً، وهو ما مثل "مخالفة للدستور والقانون" بحسب بيان مجلس حقوق الإنسان.

لكن حتى تلك الإشارة الخافتة، غير المؤثرة في واقع الأداء الرسمي، لم تمر من دون ردّ. فسرعان ما أصدرت وزارة الداخلية بياناً على لسان "مصدر أمني"، لا لتنفي اتهامات المجلس، بل لتؤكد عدم مخالفتها للقانون! فقالت الداخلية: "جميع حالات الضبط التي تمت خلال الأيام الماضية، جاءت وفقاً للقانون، ومن بينها حالات التلبس التي تتيح لمأموري الضبط القضائي تفتيش الأشخاص وما بحوزتهم من متعلقات منقولة (الهواتف المحمولة أو خلافه وفقاً لصحيح القانون)".

ولفهم أفضل لمسألة تفتيش الهواتف المحمولة أثناء استيقاف المواطنين، والتي تلاها القبض على المئات منهم، فإنها لا تعني إلقاء نظرة سريعة أو عابرة على الهاتف النقال، بل كذلك فتح ملفات الصور الشخصية، الاطلاع على ما شاركه صاحب الهاتف في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى مطالعة سجلات المشاهدة في موقع "يوتيوب"، والرسائل الخاصة. بل ثمة حالات تم فيها فحص سجل النشاط "activity log" في تطبيق "فايسبوك"، للاطلاع على ما أبداه صاحب الحساب من "إعجابات" أو تعليقات سابقة. وليس عجيبا، في ظل الحال هذه، أن معظم من قاموا بفحص الهواتف - بحسب شهود عيان - كانوا من الضباط وليسوا من "المُخبرين" أو "أمناء الشرطة"، وذلك لما يحتاجه ذلك النوع من "التفتيش" إلى "مهارات" و"معرفة" قد لا تتوافر لدى أصحاب الدرجات الشرطية الأقل.

وبالطبع، يكفل الدستور المصري الحق في الخصوصية وسرية الاتصالات. "المادة 57: للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التي يبينها القانون". لكن، الدستور إذ يكفلها، فإنه يفعل ذلك بالدرجة ذاتها التي يكفل بها حرية التعبير واستقلالية الإعلام، وغيرها مما لا يُرى أثره خارج صفحات الدستور.

وفي أية حال، فإن ذلك الاهتمام الشُرطي الجديد بهواتف المارة في بلد مكتظ بالسكان، يتطلب - بعيداً حتى من المسألة الحقوقية - جهداً هائلاً، وموارد ربما كان الأفضل إنفاقها في أولويات أخرى في بلد يواجه تحديات أمنية ربما تكون أخطر من "اللايك والشير". خصوصاً أن المواطنين سرعان ما بدأوا تبادل خبرات الخصوصية الرقمية، ما يجعل المهمة الأمنية "الهاتفية" أشبه بمطاردة الأشباح، مجرد فعل قليل الجدوى ينشر الكثير من الخوف، والخوف - كما تعلمنا - يأتي عاجلاً أم آجلاً بالغضب.

تعليقات: