ثقافة التوسل والأستجداء


في مجتمعاتنا ودولنا العربية يعيش المثقف والمبدع ازمات تصل به احيانا لحد خط الفقر وحسب تعريف عالم الاقتصاد الهندي الحاصل على جائزة نوبل" آماريتا سين " ان الفقر عدم القدرة على التمتع بحقوق اساسية وحريات جوهرية" . و يكافح المثقف او المبدع بالحصول على وظيفة بعيدة كل البعد عن همه الابداعي بعد ان تتقطع به كل السبل، وتاخذ منه وقته وتشتته وتمزقه بالاكراه ، واحيانا لايجد الوقت لاتمام عمل ابداعي يتطلب منه الوقت اللازم فيذهب مشروعه الابداعي ادراج الريح وتصبح الخسارة مضاعفة للمبدع والمجتمع الذي يحتاج الثقافة والابداع من اجل التطور والسمو الاجتماعي والحضاري.

لكن هناك صنف من المثقفين يعيش رغد العيش وبحبوحة الحياة بسبب ما تجود به ايادي طويل العمر وصاحب السمو والحاكم وهذا ينطبق على الجوائز واللجان التي تاخذ شكل التكريم لبعض اللامعين من المبدعين والاكادميين كرشوة لشراء اقلامهم وولائهم من خلال اشراكهم باللجان التقييم والتحكيم صوريا . وقد سبق ان كتبنا عن ظاهرة الجوائز وما يشوبها من اخذ ورد" انظر مقالنا في "مجلة الجسرة القطرية العدد 42 بتاريخ20/1/2016 " ولا نعمم هنا على كل الجوائز وفعاليات التكريم للمثقفين والمبدعين .

تخادم بعض النخب مع توجهات وايدلوجيات الحكام ليست ظاهرة جديدة وتتجلى اليوم بفئة واسعة صامتة لاتنبس ببنت شفه في قضايا انسانية وحقوقية يغلق الباب عليها تماما ؛ كي لا يزعج ولي النعمة الذي اصبح جزء من خراب الثقافة والتدمير الذي حل بحواضر الثقافة في المشرق العربي . لم نسمع من مثقفين كبار واكادميين مشهود لهم بعلميتهم ومنجزهم بحديث او مقال ادانة او راي عن الحرب في سوريا واليمن وليبيا وماقبلها العراق وتدمير الارث الحضاري العريق والذاكرة الجمعية "حسب تعريف هالبواكس -- كمرجعيات" لتلك البلدان التي نهبت اوخربت شر تخريب في رابعة النهار وعلى مرئى ومسمع العالم . ببساطة لايراهنون على خسارة الهبات المالية فباتوا مرتهنين لتوجهات وسياسات تلك المشايخ والدويلات الحديثة النشأة التي تملك من المال الفائض الذي لاتسعه بنوك سوسيرا ولا استثمارات امريكا واوربا.

وهنا لابد من الاشارة الى صنف اخر من المثقفين الانتهازيين متملقوا الحكام ومن يتصدر السلطة وهذه الظاهرة موجودة بكل زمان ومكان عبر التاريخ . ان مرد تواجد هؤلاء في واجهة المشهد هو احتياج الحاكم لهم ويغدق عليهم بسخاء كبير من اجل مقارعة المثقف التنويري والفاعل والملتزم بقضايا الانسانية والشعوب .

ان الحالات الانسانية الحرجة التي تلم بالمثقف العراقي تفرضها العوارض والفاقه والاقدار مثل المرض فيلجأ اصدقاء ومحبي المثقف للاستجداء والمناشدات التي تاتي متاخرة . وبعد التي واللتين مدعومة بفضل علان وفلان من ماسحي الاكتاف . عندها فقد الفنان او الاديب نصف حواسه او اطرافه او الموت تاركا خلفه مخطوطات واعمال ابداعية لم ولن ترى النور ويصبح في طي النسيان هو وابداعه .

هذا قليل من كثير لظاهرة الاستجداء والتوسل التي تسود مجتمعنا العراقي والعربي ونسمعها ونلمسها سلوكيا والبعض يطرب لها ويتقبلها برحابة صدر، وبين الفينة والاخرى نسمع ونرى ما تؤول اليه حال روائي كبير او شاعر او فنان مبدع ويصبح عرضة للابتزاز والمتاجرة من قبل الحاكم او المسؤول الذي يفرح ويشمت بتعرية واذلال المثقف والمبدع لانه يدرك ان الثقافة تشكل الوعي الذي يهدد بقاءه الغير مشروع وبدلا من الاسراع بمساعدته يدخله في تعقيدات الروتين والحالة تتطلب انقاذ طبي عاجل ،ناهيك عن الاستغلال الاعلامي والنشر دون مراعاة للخصوصية الفردية متناسيا انه مواطن اولا واخيرا ومن واجب الدولة ازاء مواطنيها حفظ كرامتهم بالعلاج وتوفير الامن بكل اشكاله والحفاظ على سرية المريض .

اعتقد ان سبب ذلك هو ان مجتمعاتنا لازالت تسودها القوانين العشائرية والقبلية وصولا للنخب المثقفة التي تنزعها وتنبذها على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد وتلبسها وتتمسك بها في الشارع والبيت والجامعة ، وكثيرا ما شاهدناها تلجا للعشيرة حتى في نزاعها الفكري والادبي وتصدع رؤسنا بما بعد الحداثة والعولمة .

ان السلطات الحاكمة ترقص فرحا وتستثمر بالجهل المقدس وليس من صالحها ان يعلو كعب الثقافة والمثقفين لانه يهدد سلطانها ووجودها والذي عفى عليه الزمن . وهذا مرده اننا نعيش نظم وقوانين وثقافة تعود لفترة الاستعمار العثماني والكولنيالي ولا زلنا نعيش كمثقفين تركة الماضي التي تكبلنا وتنكل بنا وندعي عكس ذلك والاختفاء تحت عناوين براقة وخادعة .

كانت هذه ابشع فترات مرت على منطقتنا العربية وبدأنا نعدها من الزمن الجميل ونتغنى بها لبشاعة ما يجري اليوم من فوضى وتداخل الديني والسياسي والعشائري ببنية الدولة وعند الحاكم او المسؤول الذي يقبض على كرسي الحكم والمسؤولية ويعتبره حكم عضود له ولعائلته وعشيرته . والبعض يتولى الوزارة بقوة سلاح عشيرته ومليشياته لانه ابن عائلة اقطاعية او شيخ عشيرة او فرض من دول الجوار نفسها المتبنية للمثقف الصامت الذي اشرنا اليه .

ونحن نسامح هؤلاء الذين قال عنهم جورج برنادشو " سامحه فهو يعتقد ان عادات قبيلته هي قوانين الطبيعة .

لكن لايمكن مسامحة المثقف على الاطلاق الذي يفكر بطريقة شيخ العشيرة او احد رعاياها ويستبدل القانون بالتملق لطويل العمر ويفرط بحقوقه الانسانية والمدنية التي كفلها الدستور العراقي له ولم يساهم في تحرير الانسان وترسيخ ثقافة العدالة الاجتماعية والمساواة من خلال ابداعه .

الماخذ على المثقف لم يساهم في تقويم هذا الاعوجاج التاريخي البشع للسلطات ولن يوليه اهتمام الا عندما يقع ضحية وفريسة للعجز او المرض ولم يبحث عن حلول قانونية بعيدا عن عبودية التوسل والاستجداء من خلال النقابات والاتحادات وتفعيل دورها ولايسمح بتسلط الانتهازيين عليها والتي زادت الطين بله بدلا ان تساعده وتقف الى جانب من ينضوي تحت مظلتها وبكل اسف انها تعمل بنظام الشليلية والحزبية وصولا للمثقف العشائري والطائفي وهذا امر بمنتهى الغرابة والمفارقة ومن اعاجيب الثقافة العراقية المعاصرة .

في بعض دول العالم "المتحضر" لاتوجد وزارة ثقافة وان وجدت فليس بنفس الهيكلية والمهام التي تمارسها وزارة الثقافة عندنا التي بكل الاحوال تشبه وزارة بلا حقيبة لارضاء حزب اشترك في العملية السياسية القائمة على المحاصصة الحزبية وبالتالي لاتوجد وزارة ثقافة في التاريخ يفوق عدد موظفيها الالاف الا في العراق ولاتملك رؤيا، او خطة لانجاز ما يمكن انجازه كما كان في زمن النظام السابق فكانت للوزارة مؤسسات ودوائر متخصصة تنجز كم هائل من الاعمال والسلاسل المعرفية والترجمات بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم الذي جيرها لصالحه وما موجود اليوم من كتاب وادباء حصدوا جوائز ورسخوا اسماءهم على خارطة الابداع العربي والعالمي هم بشكل اوباخر ولدوا من رحم تلك الحقبة وطوروا ذواتهم الابداعية رغم القمع الفكري والسياسي البشع والحروب . وهذا حصل في المانيا الهتلرية والاتحاد السوفيتي وفي مصر الناصرية والامثلة كثيرة . ان الثقافة والابداع هي ثروة للشعوب رغم ما يطرا عليها من انتكاسات وتشوهات وانحرافات لكنها تبقى تراكمية لاتقطع صلتها بالماضي ولا تستلم للحديث كليا وهذه طبيعة التغيير و قوانين التطور .

سؤال هل يستطيع احد ان يخبرني ماهو دور وزارة الثقافة بعد الاحتلال الامريكي عام 2003م ؟ سوى اقامة المهرجانات الهزيلة وطباعة الكتب ورميها في مستودعات مظلمة فريسة للعث والغبار . ان الاستثمار في الثقافة والابداع بات يدخل في اقتصاديات العالم الحديث ويدر ارباح كبيرة ويساهم في الدخل القومي للامم ، وبصفة الثقافة منتج جمالي – فكري ، وقيمة سلعية فبالضرورة تكون محل تنافس المنتجين والمسوقين على المستوى المحلي والعالمي مثال السينما والموسيقى والاعمال التشكيلية وبقية الفنون والاداب . من هنا قام الرئيس الفرنسي الحالي" إيمانويل ماكرون" بتعين الروائية الفرنسية " ليلى سليماني" من اصول " جزائرية –مغربية " بدرجة وزيرة للقراءة .

شقيقتنا امريكا اللاتينية بالمعاناة وانظمة الاستبداد فهمت الدرس مبكرا فوضعت كتابها ومبدعيها سفراء وملحقين ثقافيين في السفارات ولهم دور كبير في تصدير ثقافتهم لشعوب تلك البلدان ، انظروا لسفاراتنا عبارة عن وكلات سفر لتسير رحلات الزيارة والحج ، هناك استثناء وحيد للمركز الثقافي العراقي في لندن بسب تواجد جالية قديمة ومثقفة بكل الاختصاصات تواجدت عبر عقود .

فضلاً على كل ماتقدم لا توجد في العالم العربي مؤسسات ثقافية توفر للكاتب او الفنان منحاً دراسية اوتفرغ كما في اوربا واستراليا وامريكا ، أو تتبني المنجز الإبداعي، وإن وجدت عن طريق وزارات الثقافة في بلداننا العربية التي تتحكم بها الحزبية و”الشللية” وحالها حال كل المؤسسات الأخرى مترعة بالفاسدين والانتهازيين. وتبقى المبادرات شحيحة لاتشبع ولا تسمن، لكن لا غنى عن الدعم المؤسساتي بكل أشكاله .

في الغرب استطاعوا تحويل الثقافة من عبء مالي إلى مورد مهم للإسهام بالتنمية المجتمعية المستدامة وتوفير فرص عمل للمشتغلين في الابداع وهنا قد يفهم البعض هو ايجاد وظيفة في دوائر وزارة الثقافة وهذا ليس المقصود لان تلك الدوائر هي تحت طائلة البطالة المقنعة والترهل والمحسوبيات والاخوانيات بل المطلوب ادامة العملية الابداعية وخلق منافسة وفق ضوابط الابداع الجمالية والفكرية وصرف مكافاة مجزية للاعمال وتميز الفائز منها بمكافاة اكبر وتمويل لمفاصل الثقافة المختلفة ، وجعل الثقافة فعل شعبوي وليس نخبوي . ويرى الكاتب الروسي الشهير مكسيم غوركي مؤسس الواقعية الاشتركية ؛ ان الادب مبني على النشاط الاقتصادي ونموه وتطوره ، وانه يؤثر في المجتمع بقوته الخاصة ، لذلك ينبغي توظيفه في خدمة المجتمع .

سيبقى الوضع على ماهو عليه لحين ان يستمع ويعي المسؤول بكل المؤسسات المعنية اهمية الثقافة والمثقف للامة ، وتبدا بمعالجة اوضاع المثقفين والفنانين واستثمارهم دون ان يقفوا بطوابير الاستجداء والتوسل من اجل دواء او حقوق معاش او غيرها ، وعيب انساني على رئيس الجمهورية والبرلمان العراقي ان لايشرعوا فورا قانون حماية لهذه الشريحة او على اقل تقدير بالتكفل بتامينها صحيا .

تنويه لابد منه : اود القول للمتصيدين بالماء العكر هذه السطور لاتحمل اية شخصنة باي شكل من الاشكال ووزير الثقافة الحالي الصديق "الدكتور عبد الامير الحمداني" فوق كل الشبهات لانني اعرف علميته ورؤيته الثاقبة للثقافة والمثقفين وهو رجل متواضع وصاحب اخلاق رفيعة وهذا ليس من باب التملق او المجاملة ومشهود له كعالم اثار بكل الجامعات العالمية والعربية . واذا كان" الدكتور الحمداني" او أي شخص اخر يتولى الوزارة لايغير بالامر شيء بسبب الارث العظيم من الخراب المستشري بمؤسسات الدولة منذ العهد الملكي وتاسيس الدولة العراقية عام 1921م الذي شكا منه الملك فيصل الاول "1921- 1933م" اول ملك للعراق الحديث وشرحه برسائله المنشورة واشار للطائفية والعشائرية والقبلية واستحكامها في حياة العراقيين بقسوة وهي سبب ما يجري اليوم من نكوص وتردي . الامر بحاجة الى ثورة ثقافية يساهم بها المثقفون انفسهم قبل غيرهم بدل الركون للتوسل ولنا اسوة بمثقفي العالم الحر وليس بمحيطنا الثيوقراطي والقبلي . لايحدث تغيير دون تبني خطاب ثقافي جديد مبني على حقوق الانسان والمساواة والعدل بتفعيل القانون والتمسك به كفضيلة وحيدة ومخرج وحيد مما موجود من وضاعة وفوضى قاتلة .

لايمكن باي حال من الاحوال ان يقبل اي عاقل او مثقف شريف هدر كرامة اي انسان مهما كان لونه وعرقه وطائفته ومهنته ولايجوز ان نستجدي حقوقنا التي كفلتها الشرائع والقوانين والفطرة الانسانية والدستور الذي يتبجح به ساسة العراق في كل مناسبة والذي كفل العدالة والمساواة للجميع وعلى المثقف كانسان تنويري ان يسعى لترسيخها قبل غيره وإلا نصبح عبيد للاقطاعيات الدينية والسياسية والأولغارشية التي تتصدر المشهد وتتحكم بمقدرات البلاد والعباد .

رغم مطاطية كلمة ثقافة وتارجحها واتساعها لكنها تبقى عنوان يعبر عن هوية الشعوب وسمتها وسلاح ضد الظلم والنسيان والركون في الظل . مع كل ما تقدم من نظرة فيها تشاؤمية لكن يبقى الامل وتبقى الثقافة من اهم اسلحة الشعوب . وكما يقول الروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا " الثقافة سلاح استثنائي بيدنا للدفاع عن انفسنا في المحن"

وهي كذلك بكل تاكيد ..

* عباس داخل حسن / هلسنكي

تعليقات: