وديع الصافي.. ليلة غنّى في دمشق حتى طلوع الفجر


أصبح وديع فرنسيس يدعى وديع الصافي لصفاء صوته، بعد نجاحه في مسابقة الإذاعة اللبنانية سنة 1938، وبعد تحوله من مرحلة الهواية إلى مرحلة الاحتراف. ومن بعد ذلك، ظل لمدة ستة عقود وأكثر مطرباً من الطراز الرفيع. غنّي بمقدرة فائقة مستنداً على صوتٍ فائقِ القوة والصفاء، قادرٍ على بلوغ مقامات السوبرانو العالية ونقيضها مقامات القرار في أسفل السلم الموسيقي، والتنقل بينهما في يسرٍ فريد. وقد روى لي الموسيقار وليد غلمية، وكان يقود الأوركسترا عندما قدّم وديع الصافي مغناة “نهر الوفا” مع نجاح سلام، وكان أحد أفراد الأوركسترا عازف كمان نمسوي، أن ذلك العازف في مقطع ما توقف عن العزف لحظات طويلة. وبعد انتهاء العرض استفسر منه وليد غلمية عن سبب التوقف، فقال العازف: “هذا الرجل صوته هزم الآلة”!

وديع الصافي كان المثل الأعلى لمعظم المطربين الشباب. كلٌّ منهم حلم بأن يتمكن من الأداء مثله. لكنه لم ينجح في أن يكون مطرب الشباب. جمهوره كبير إلا أن فئة الشباب فيه كانت الأقلية. ربما اعتبروه مطرب الجبل وليس مغني المدينة. وكنت واحداً منهم. كنت في عمر المراهقة عندما سمعته لأول مرة في مدينة الإسكندرية سنة 1961. كان نجم العرض المسرحي الغنائي الذي قدمته “فرقة الأنوار”. يومها كنت برفقة أهلي الذين انتشوا طربا، أما أنا فأعجبتني الأغنيات التي رافقتها رقصة الدبكة، ومنها “سهرنا سهرنا وما نمنا” و”ليلتنا من ليالي العمر”. (هي من ألحان زكي ناصيف أما الدبكة فمن تصميم مروان وبديعة جرّار). خرجت بانطباع إيجابي، لكن إعجابي بوديع الصافي لم يبلغ حد إعجابي آنذاك بنجم جيلنا المفضل: عبد الحليم حافظ. (ولاحقا اكتشفت جماليات صوت وديع الصافي وأدمنت الاستماع إليه).

وكان محمد عبد الوهاب المثل الأعلى لوديع الصافي منذ بداياته وحتى نهاية حياته. وهو التقى به في القاهرة سنة 1945، وكان قد زار العاصمة المصرية بتشجيع من نقولا بدران والد المطربة نور الهدى وأقام فيها سنة ونيف. استمع إليه عبد الوهاب وأذهله صوته. وظل معجبا به حتى آخر أيامه هو الآخر. كان يطرب في ليالي الصيف في لبنان حين ينطلق أبو فادي منشدا أغاني عبد الوهاب في مجلس الموسيقار الخاص. ورغم الإعجاب التام المتبادل لم يلحن عبد الوهاب لوديع الصافي سوى أغنية وحيدة “عندك بحرية يا ريس”. وقال عنه مرة: “مش ضروري حدّ يلحن له. ده لو قرا الجرنال بصوته ح يطرب”!

عن وديع الصافي كُتب الكثير. لكنني سألقي الضوء على جوانب غير معروفة كفاية، أو غير متداولة، من سيرة المطرب الكبير. ومنها أنه تعرّف على المطربة صباح سنة 1940 وكانا يغنيّان في مقهى في حيّ الدورة (بيروت). وأنه كان في سنة 1946 يغني في مطعم بشارع بشارة الخوري وفيه يعزف الأخوان رحباني. ومنها أنه اشترك لمدة نصف دقيقة في فيلم “الخمسة جنيه” أثناء إقامته في القاهرة سنة 1945. اشترك بالغناء فقط في أوبريت بالفيلم عن الجامعة العربية (وكانت نشأت حديثا) وفيه مطربة تمثل مصر تستقبل وفود الدول العربية المؤسسة، ومنها لبنان. والتحية اللبنانية أداها وديع الصافي بصوته. وليس صحيحا أنه اشترك في فيلم “غزل البنات” مع ليلى مراد ونجيب الريحاني كما يذكر بعض المواقع الإلكترونية، لأن تصوير الفيلم وعرضه (1949) تمّ فيما كان وديع الصافي مهاجراً إلى البرازيل التي أقام فيها ثلاث سنوات من 1947 إلى 1950.

والآن أنتقل إلى تفاصيل ليلتين غنائيتين في دمشق كان نجمهما وديع الصافي وكنت شاهداً على تفاصيل ما جرى خلالهما. الليلة الثانية هي الأهم، وهي تفرّعت من الأولى. كان ذلك في الأسبوع الأول من سنة 1978.

دعاني الفنان الكبير دريد لحام إلى العشاء في كازينو دمشق الدولي حيث يغني وديع الصافي. رافقته عقيلته السيدة هالة البيطار والمنتج السينمائي سمير عنيني وقرينته. كان المطعم الكبير الذي يتسع لنحو ستمائة متفرج شبه خال، لا يزيد عدد الحاضرين فيه عن الأربعين! ومعظمهم من الوسط الفني: نحن الخمسة، وطاولة ضمت شارل كريمونا (أخو سميرة توفيق) وأخرى جلس عندها المطرب الشهير فهد بلان والملحن الموهوب سهيل عرفة. وهمس في أذني دريد لحام يقول “مش حرام! هالجمهور القليل عند وديع، والقاعات التي يغني فيها من هم أدنى منه فنيا بكثير تغص بالحضور؟!!”. المهم أن وديع الصافي غنى ليلتها بغزارة ومزاج لمدة ثلاث ساعات. والواقع أن وديع يسلطن ويبدع في حال وجود “سمّيعة أو دفّيعة”! ًأي من يقدّر عطاءه الفني أو من يجزل له العطاء المادي. وفي تلك الليلة توفّر السميّعة وصفقنا له بحرارة.

قال دريد لحام لصاحب المطعم: “غدا عندي دعوة للعشاء لثلاثين شخصا. أرجو أن تحجز لنا طاولة هنا”. قال صاحب المطعم: “لكن غدا لن يكون وديع الصافي موجودا. كانت الليلة آخر ليلة في حفلاته”. فكرر دريد لحام القول إنه يدعو ثلاثين، وتحمس شارل كريمونا وقال إنه يدعو عشرين، وقال فهد بلان إنه يدعو عشرة وربما أكثر! وجد صاحب المطعم أن الحضور غداً سيكون بحد أدنى قوامه ستون مستمعا فقال: “ماشي الحال. تعالوا بكره. أهلا وسهلا”. وأخبرني دريد لحام أنني مدعو أيضا.

في الليلة التالية وصلتُ قبل منتصف الليل بدقيقتين. وبصعوبة بلغت طاولة دريد لحام ومدعويه. بصدفة غريبة لا تُفسَّر غصّ المطعم عن آخره بالحضور! جلستُ على طرف الطاولة. وفي الثانية عشرة تماما أطل وديع الصافي، وحده ومعه العود. كان مبتسما سعيدا بهذا الحضور الغفير. بعد عبارات الترحيب الطيبة، قال وديع الصافي: “بصراحة هذه الليلة لم تكن محسوبة، ولولا همّة أخي الفنان الكبير دريد لحام وتشجيع الأخوة شارل وفهد وسهيل ما كنت لأغني هنا الليلة. دعوني أحيي فنان الشعب دريد لحام”. صفق جمهور الحاضرين ونهض دريد لحام يرد التحية، ونهض أمامه صديقه خلدون الأتاسي. وكان هناك اتفاق ما لم أدرِ به لوصولي متأخرا. هتف دريد ومعه خلدون “والله العز بيلبق لك” وردّ مدعووه من الرجال والنساء “يا بو فادي”.. وتكرر الهتاف مرتين وفي الثالثة ضجت أركان المطعم إذ ردّ الحضور جميعا “يا بو فادي”. وأصبحنا أمام مظاهرة فنية يقودها دريد لحام ويشارك بها ستمائة مستمع”.

بكى وديع الصافي بحرارة. واستغرق الأمر برهة حتى استجمع صوته وشكر الجميع بنبرة منفعلة، وقال “اعذروني.. لا فرقة موسيقية معي لأن العقد انتهى أمس” فسمع أصواتا من القاعة “يكفي أنت ويكفي العود”.. وحين قال “وما عندي كورس” سمع الجواب من الرواد “نحن كورس”!

وانطلق وديع الصافي بالغناء. وبدا واضحا أنه يريد أن يطرب الحاضرين. وهو قادر على ذلك حتى من دون فرقة موسيقية، بمصاحبة العود فقط. غنّي معظم أغانيه. وعندما أنشد “عندك بحرية” كان الجمهور يغني في القاعة “يا ريّس”. وبعدما أنشد أغانيه انطلق يغني “الأطلال” ومنها إلى “النهر الخالد” مرورا بـ”يا وابور قل لي رايح على فين” و”أحب أشوفك كل يوم” والعديد من أشهر أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم. يغني مقاطع من أغنية وينتقل إلى أخرى. وبين هذه وتلك ميجانا وعتابا ومواويل. وغني اللوحة الغنائية الرحبانية “سهرة حب” كاملة مرددا ما غناه هو وما غنته فيروز! وكلما أبدع وديع الصافي في التطريب قوي تصفيق الجمهور، وكلما اشتد التصفيق تضاعف عطاء المطرب!

وعند الساعة الثالثة والنصف ختم وديع الوصلة الطويلة بقصيدة “الليل يا ليلى يعاتبني”. ونهض لكي يودّع الجمهور، وتوجّه إلى الكواليس.

لكن دريد لحام قاد المظاهرة مجددا مطالبا بعودة وديع الصافي. فلبّى المطرب النداء وعاد إلى المنصة والعود في يده. الناس تصفق وهو يكرر عبارات الشكر. وبدا أنه سيغني بضع أغنيات لمدة قصيرة. إذ بدأ يداعب أوتار العود وهو واقف فهتف دريد لحام “والله تغني ع القاعد” وردّ الجمهور “يا بو فادي”.. وأضاف دريد: “الله يخللي لك فادي”.. وردد الحاضرون “يا بو فادي”!.. فجلس وديع الصافي وقال: “مش تربيح جميلة.. رح غنّي لأشبع”!

ومجددا انطلق وديع الصافي في وصلة طرب جديدة. وكانت الجولة الثانية ممتعة كالأولى. وقد مزج فيها العديد من ألوان الغناء، وتنقل من الطبقة العالية فبلغ صوته حدود الغيوم وهو يغني “لبنان يا قطعة سما” وهبط به إلى سفح الوادي وهو يغني “ولو… هيك بتطلعوا منّا”.. وبين سحبة أغاني وسحبة أخرى لحظات استراحة، يروي فيها وديع نكتة. وفي إحدى الاستراحات خاطب وديع الصافي دريد لحام قائلاً: “أنا بعرفك فنان كبير.. وبعرف اسمك دريد… بس انت أبو مين اسم الله؟” فأجاب دريد: “أبو ثائر” فغنّى وديع “والله العز بيلبق لك يا بو ثائر”!

قبيل الساعة السادسة، وكان الفجر قد طلع، انتهت ليلة الطرب الاستثنائية. وصار وقت الفول والسحلب. وخرج الرواد من المطعم وأصداء أنغام الطرب ترنّ في آذانهم.

وعلى سيرة الطعام أذكر أيضا ما كنت عليه شاهداً. كنت في سنوات إقامتي الباريسية في ثمانينات القرن الماضي، أسكن في حي “لا ديفانس” وكذلك وديع الصافي. وكنت ألتقي به أحيانا ونترافق في رحلة مشي على الأقدام في الساحة الكبيرة الممتدة أمام قوس النصر الجديد. وكان يغني في مطاعم عربية في باريس بين فترة وأخرى. ودعاني ذات ليلة إلى المربع الذي يغني فيه. وقبل أن نصل قال لي “أنا جائع” فتوجهنا إلى مطعم لبناني في شارع متفرع من الشانزيليزه، وتناول وديع الصافي وجبة دسمة من المآكل بشهية طيبة، مازات مختلفة وتشكيلة مشاوي، ومن بعدها وجبة أدسم من الحلويات من بينها كنافة، وقال لي “منيح اللي أم فادي مش معنا.. ما كانت خلّتني آكل الحلو”.. المهمّ أنه بعد هذه الوجبة انتقلنا إلى حيث سيغني بعد أقل من نصف ساعة. وغنّى وصلة طويلة. وفي طريق العودة قلت له: “اسم الله يا بو فادي.. أنا لو أكلت الأكل ذاته لا أقوى حتى على الكلام! وأنت بسم الله ما شاء الله غنّيت”!

عاش وديع الصافي اثنين وتسعين عاما (توفي 2013) وأمتع السامعين حتى السنوات الأخيرة من عمره. ومن الطبيعي أن يصاب صوته بوهنٍ ما عندما دنا من التسعين، لكنه ظل قادرا على الأداء الجميل.

* المصدر: على الطريق - طلال سلمان

تعليقات: