جمهور رفيق الحريري يبايع جعجع حكيماً لهم

لقاء عاصف ومشحون بالإعجاب والافتتان، بين مواطنين مسلمين جاؤوا من أرياف عكار والبقاع وطرابلس، وقائد سياسي ماروني (المدن)
لقاء عاصف ومشحون بالإعجاب والافتتان، بين مواطنين مسلمين جاؤوا من أرياف عكار والبقاع وطرابلس، وقائد سياسي ماروني (المدن)


للذين صعقتهم أو أبهرتهم صور هذا العناق العاطفي والحارق (راجعوا الصور المرفة) بين جمهور مهرجان 14 شباط ورئيس حزب القوات اللبنانية، عليهم أن يعوا تماماً ما الذي حدث. أن يدركوا "الذكاء" في التعبير السياسي لدى الناس. أن يتوقفوا ملياَ أمام "حيلة" الجمهور في التعبير عن موقفه السياسي التلقائي والعفوي، بلا "تكتيك" ولا احتساب.

التصدي للإحباط

هذا اللقاء العاصف والمشحون بالإعجاب والافتتان، بين مواطنين مسلمين جاؤوا من أرياف عكار والبقاع وطرابلس، وقائد سياسي ماروني، لم يكن الأول، إن تذكرنا المناسبات الكبرى في ساحة الشهداء. لكنه بالغ الاستثنائية في معانيه اليوم. ببساطة: جمهور رفيق الحريري، محازبو "تيار المستقبل"، أهل السنّة (بلا تحفظ) يبايعون جعجع، لا كمنافس أو نقيض أو بديل لسعد الحريري، لكن كمكلّف بما لا طاقة للحريري عليه: التصدي للإحباط.

وأصل هذه الفتنة "السنّية" بجعجع، مردها تلك الصلابة التي يظهرها، حين يحل الضعف بزعاماتهم، عدا عن لومهم العميق لافتراءات "تيار الوطني الحرّ" ومحاولات شيطنتهم على مدى سنوات. أصل الفتنة أيضاً مبتدئ في الانتخابات، على مثال وقوف الحريري عشية الاقتراع في البترون داعياً جمهوره للتصويت إلى "صديقي جبران". وها هم اليوم يقولون له بأن عنوان تصويتهم معروف.

أصل "العلاقة" الخاصة بين سنّة لبنان و"الحكيم"، والمرشحة للمزيد من التواشج السياسي، يعود إلى حقبة من المعاشرة والتجربة. لا هو وليد انتخابات ولا مجرد رد فعل على خيارات سياسية لسعد الحريري، ولا هو نكاية موقتة أو انفعال عابر.

الأساس الوجداني

بالأساس، لا تُنتسى جملة سمير جعجع، الأكثر استجابة للهفة مليونيّ لبناني (على الأقل)، حين قال أنه لو خُيّر بين "حزب القوات اللبنانية" و"حركة 14 آذار" فإنه سيختار 14 آذار.

هذا بالضبط ما أخرجه من أسار حزبه وأنصاره، وجعله غير مقيد بمنطقة أو طائفة، حاملاً خطاباً سياسياً، جاذباً لغير "القواتيين"، ويخاطب في غير المسيحيين ميولهم ومصالحهم، وطموحهم في لبنان - الفكرة، لبنان المتخيل دوماً.

وإذا كان رفيق الحريري قد تبنى ذاك اللبنان تحديداً، وقام عليه كل مشروعه، أي حسب تلك الصيغة التاريخية التي حملها الموارنة تحديداً، وعمل على إحيائها مجدداً: لبنان التعدد والتنوع والتوازن والميثاق، بنظام ديموقراطي واقتصاد حر وانحياز واضح للحداثة الغربية، ولقيم ليبرالية، والإعلاء من شأن التعليم والمبادرة الفردية والحريات العامة.. فهذا، هو الأساس الوجداني والسياسي، الذي وضع جمهور السنّة عموماً، وجمهور "تيار المستقبل" خصوصاً في الجوار اللصيق بسمير جعجع.

وعلى عكس الأغلبية الساحقة من سنّة الشرق الأوسط والمشرق العربي، فإن سنّة لبنان اختاروا تمثيلهم السياسي، في حركة مدنية ليبرالية. ورغم كل "الخبث" والدعايات الماكرة والادعاءات الدنيئة، بل ورغم كل محاولات الدفع المتعمد، تحريضاً واستفزازاً وصدامات إلى حد استخدام العنف، من أجل أن ينقلب سنّة لبنان إلى "داعش" أو "القاعدة" أو أي مظهر تطرف.. جميعها باءت بالفشل.

وإذا كان جعجع قد قال مرة أن فؤاد السنيورة السنّي يمثلني أكثر من رئيس ماروني كإميل لحود، فإن السنيورة قال عن هويته: أن أهل الأشرفية أقرب إلي بكثير ممن يرفع راية ولاية الفقيه، أو الخليفة الحاكم في الموصل وفي الرقة.

تعبيرات "الطائف"

وقبل كل هذا، سمير جعجع هو الذي دفع في "حرب الإلغاء"، ومعه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، ثمن الوقوف إلى جانب اتفاق الطائف. ولم يتزحزح عن موقفه هذا. بل، ومن أجل الطائف، وضد إرادة الوصاية السورية رفض المشاركة في الحكومة الأولى بعد الحرب.

في المقلب الآخر، كان المفتي الشيخ حسن خالد، يدفع حياته ثمناً، لملاقاة مطلب التحرر من الاحتلال السوري وتجاوز الحرب الأهلية وتحقيق الوفاق الوطني. كل الزعامات السنّية في لبنان، من صائب سلام إلى شفيق الوزان وتقي الدين الصلح..وغيرهم من شخصيات دينية وثقافية، كان مصيرهم بسبب ذاك الموقف "الاستقلالي" والوفاقي، إما المنفى أو الانزواء والانطفاء.

من هذه الإرادة المشتركة، المسيحية والإسلامية، كان "الطائف" الإنجاز، الذي لرفيق الحريري السهم الأكبر في تدبيره، حين لاحت الفرصة الإقليمية والدولية.

وبعده، مساء 14 شباط 2005، في قصر قريطم، حقق رفيق الحريري بدمه واحدة من أصعب مهماته على الإطلاق: القطيعة الفعلية مع انقسامات الحرب. كان دوام "الوصاية"، وشاغلها الأول، إبقاء تلك الانقسامات وتربيتها. ففي ذاك المساء، في قلب "بيروت الغربية" اشتعلت شرارة انتفاضة الاستقلال. الحلم "المسيحي" الذي كانوا يظنونه مستحيلاً: أن يهب المسلمون معهم ضد "الاحتلال السوري"، تحقق في تلك الليلة الفجائعية.

أبعد من ذلك، شجاعة جعجع الأخلاقية التي تجسدت بالوقوف من غير تردد إلى جانب الشعب السوري في ثورته، وحض جمهوره على ترك ثقافة شعبية مليئة برواسب اليمين العنصري، كما في تنبيه جمهوره إلى تجاوز كل الحساسيات التاريخية وذاكرة الحرب، أتاحت له حضوراً بين الجمهور السوري والعربي. هذا أيضاً لعب دوراً مؤثراً في وجدان السنّة اللبنانيين خصوصاً.

الصورة المشتهاة

ما بين 2005 و2019، ظل سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، أكثرهم عناداً وانحيازاً لساحة 14 آذار ومنطلقاتها. ولتلك الساحة شعب كامل. شعب يروح ويجيء، ينقص ويزيد، يضيع ويهتدي، يصيبه الشك والإحباط، تأخذه مصالح عابرة، توهنه لحظات التعب، تلاعبه أهواء انتخابات وأحزاب، تحيره معاركات السياسة.. لكن، من عاش ذاك اليوم، انتمى إلى مشترك وجداني، سيظل هو أصل هويته السياسية. على هذا الأصل، يقيم سمير جعجع ويستمر.

ربما ليس من "السياسة" بشيء الإقامة في الماضي، الجمود في ذاك اليوم الربيعي قبل 14 عاماً، ولا في المناسبات الشبيهة التي تلتها. لكن، ما لا يمكن إنكاره، أن الرغبة اليومية عند مئات الألوف من اللبنانيين، هي بقاء صورة وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع وأمين الجميل وداني شمعون.. معاً، بل وصورة ميشال عون عائداً من المنفى، واقفاً عند ضريح رفيق الحريري.

هي الصورة التي تجعل لبنان استثناء عربياً وإسلامياً، يشبه ما تمناه "السينودوس" من أجل لبنان، ورسالة بابا الفاتيكان المطوّب يوحنا بولس الثاني.

ساعة ونصف حتى استطاع الخروج من القاعة (المدن)
ساعة ونصف حتى استطاع الخروج من القاعة (المدن)






تعليقات: