لا تدخلوا مصر.. فلستم آمنين


الرسالة واضحة، لا تأتوا إلى بلادنا، فلستم آمنين، منى المذبوح، مواطنة لبنانية جاءت إلى مصر للسياحة، تعرضت للإهانة والتحرش فخرجت على صفحتها وسمحت لنفسها ببعض الفضفضة والشتيمة وطول اللسان، طبيعي، امرأة جرى التحرش بها في بلد يتعاطف أهله مع المتحرش ولا يلتفت القانون كثيرا، صرخت في مساحتها الخاصة، ولم تتوقع أن ينتشر الفيديو، لكنه انتشر، فاعتذرت، واعتذر أبوها عنها، واعتذر كثيرون من اللبنانيين على مواقع التواصل، رغم أن المسألة برمتها لا تستحق، ولا قيمة لها، فلن تهتز مكانة مصر أو قيمتها أو تاريخها من أجل فيديو خاص على صفحة خاصة أو عامة، إلا أن السلطات المصرية ألقت القبض على السائحة، التي جاءتنا ضيفة للفسحة وحكمت عليها ب 11 سنة سجن ... أنت تقرأ الرقم بشكل صحيح، 11 عاما خلف القضبان بتهمة إهانة الذات الوطنية المتضخمة!

ما حدث حدث مثله وأكثر، ألف مرة، دون مبالغة، في مباراتنا مع الجزائر في تصفيات كأس العالم 2010، التي انتهت بخسارة منتخب مصر، وفوز الجزائر، ووصولها المستحق لكأس العالم، شتمنا الجزائريون، وردينا عليهم سبابا بسباب، تجاوزات وإهانات وبذاءات وحماس شباب، وخيبة شيوخ، بل وصل الأمر إلى درجة تورط رياضيين وإعلاميين مصريين مسؤولين بالتحريض على الجزائريين في مصر، بل إلى التحريض على قتلهم وسحلهم في الشوارع، والفيديوهات موجودة وتشهد على كم السفه الذي مارسه الطرفان وقتها، لا مصر تأثرت ولا الجزائر، ومرت بسلام.

أيامها كانت مصر مبارك، ضعيفة ومهترئة، و"عضم في قفة"، كما يقول المصريون، لكنها تتمتع بالحد الأدنى من تعريفات الدولة، رجل الدولة، العقل، الفهم، السياسة، أما الآن فلا هي دولة - باعتراف من يحكمونها - ولا هم رجال دولة لهم أدنى علاقة بالسياسة - باعتراف السيسي نفسه، ولذلك يقبض على سائحة، لبنانية، عربية، جاءت للفسحة لتجد نفسها في زنزانة لأنها تجاوزت بالألفاظ في حق من تجاوزوا معها باللفظ والفعل!

الشاشات المصرية تحمل طوال اليوم وسم استثمر في مصر، وفي الوقت نفسه كل ما هو مقروء أو مسموع أو مرئي، يحمل وسم مصر بتحارب داعش، الرسالة واضحة، استثمروا عندنا، فعندنا داعش، وعندنا حرب، وهي ظروف مناسبة للاستثمار كما ترى، كما أنها فرصة ذهبية لأي مستثمر أن يضع ملايينه في بلاد يقول إعلامها الرسمي عنها أنها في حالة حرب، وتسجن أجهزتها الأمنية السياح الأجانب إذا ما تجرأوا وأعربوا عن رأي سلبي... والحق أن أي سائح راشد يختار بلداً يحكمه السيسي وجهة لزيارة سياحية فهو يستحق السجن والحجر عليه لسوء اختياراته!

الزميل الصحافي والباحث عبد الرحمن عياش نشر على صفحته ترجمة لتدوينة الصحافية الفرنسية نينا أوبيني التي حاولت زيارة مصر للسياحة في 25 مايو الماضي فما كان من السلطات المصرية إلا أن احتجزتها في مطار القاهرة، وحققت معها وأوشكت أن تعتقلها لولا أنها تواصلت مع السفارة الفرنسية في القاهرة في غفلة من الأمن المصري الذي ننسى أنه يصادر هاتفها المحمول كما هي العادة، واستطاعت السفارة أن توفر لها "ترحيلا" محترما، دون محاكمة قد تفضي إلى سجن بتهمة محاولة دخول مصر للسياحة!

تفاصيل التحقيق مع أوبيني، كما روتها، تكشف عن أن سبب توقيفها ووضعها على "البلاك ليست" كما أخبرها موظف الاستقبال بعد أن ختم لها جواز سفرها، هي أنها كانت تعيش في مصر وقت اندلاع ثورة يناير، وحضرت الثورة، وغطت الأحداث كصحافية، وتعرفت على بعض الشباب، ومن المحتمل أن تعاود اللقاء بهم في زيارتها التي كانت محددة بخمسة أيام، وفقا لحجز الفندق، وتذكرة العودة، ومن يدري ربما أسفر لقاء الصحافية الشابة بأصدقائها الشباب علي مقهى البورصة الذي أغلقوه، عن ثورة أخرى يسقط على أثرها النظام، وتهتز أركان الدولة، وينهار الأمن القومي، ثم نصبح مثل العراق وسوريا!

أوبيني استهلت تدوينتها الفرنسية التي كتبتها لمواطنيها بأنها عاشت في مصر خمس سنوات وأحبتها رغم كل ما فيها من أسباب الكراهية، وتأثرت بها، وصارت جزءا من تكوينها، وعبرت أوبيني عن أسفها لعدم قدرتها على دخول مصر، وقالت أنها لا تتوقع أن تستطيع أن تدخل مصر في القريب بسبب هوس النظام المصري ورعبه الشديد من أي شيء يحمل ذكرى الثورة، وتمنت الحرية لبلد أحبته فلفظها...

مصر سجنت اللبنانية وطردت الفرنسية، من أحبها ومن كرهها، من آمن بها ومن كفر بسببها، مصر، أو بالأحرى النظام المصري المرعوب، لم يكتف بإهدار معنى الدولة إنما تجاوز إلى إهدار المعنى، أي معنى، والانتصار للعبث وحده كقيمة تحكم استمرار سلطة لا يعنيها سوى الاستمرار ولو علي جثة الماضي، ونفقة المستقبل!

تعليقات: