فيروز تختتم «صح النوم» وانحناءتها الأطول لجمهور الأولاد


دمشق :

بحفلة استثنائية الحضور حدست نجمتها استثنائيتها و..خطورتها، متمنية للفرقة، ببعض قلق قبل العرض، «حفلة حلوة انشالله يا رب»، إختتمت السيدة فيروز ليل امس الأول في دار الاوبرا، آخر حفلاتها الدمشقية امام جمهور تراوحت اعماره بين الخامسة والعشرين و...الثمانية اعوام، تخوّف الكثيرون من صعوبة إرضائه او ردود فعل الأحدث سناً بينه، ما قد ينعكس سلباً وفوضى على جو العرض.

فبعد أن مددت العروض ليومين نظراً لإقبال السوريين الهائل على حضور مسرحية «صح النوم»، في اول لقاء مع فيروز بعد 30عاماً من الغياب عن دمشق، و...غضبهم لقلة الأماكن وارتفاع أسعار بعضها بالنسبة لإمكانيات الطبقة المتوسطة وما دون، مددت عروض «صح النوم» حفلة إضافية خصصت للشباب و...الأولاد من عمر الثمانية الى الخامسة والعشرين، بسعر موحد هو ألف ليرة سورية لكل الاماكن (ما يعادل عشرين دولاراً أميركياً)، في حين نام البعض قبل الحفل بأربع وعشرين ساعة عند شباك التذاكر ليكونوا اول الواقفين في صف شراء البطاقات.

وحوالى الخامسة من بعد ظهر امس الاول، اي قبل بدء الحفل بثلاث ساعات ونصف الساعة، بدأت تظاهرة صغيرة من الشباب والأهالي المصطحبين لأولادهم، بالتجمع أمام البوابة الخارجية لدار الأوبرا في ساحة الامويين. حتى اذا حلت السادسة وبدأ الحراس بإدخال الناس من باب صغير، تعاظم الحشد وضغطه على البوابة في محاولة للجميع للدخول أولاً والحصول تالياً على افضل المقاعد نظراً لسعر البطاقة الموّحد. وقد كاد البعض يصاب بالإغماء وحاول الأهل إحاطة أولادهم ليمنعوا عنهم أذى الوقوع ارضاً تحت الأرجل، ما استلزم استدعاء الشرطة لدعم الحراس في تشكيل سد بشري. هكذا ارتفع الصراخ من الجانبين: الضابط يطلب اليهم التراجع والوقوف بالصف، وأولئك يصرخون وقد رفعوا هوياتهم بأيديهم، إنهم لا يستطيعون التراجع لأن الضغط يأتي من الخلف. وباءت كل المحاولات، لإقناعهم، بالفشل. وفي النهاية رضخ الحراس لضغط الحشد الهائل لئلا يصاب احد بسوء، ففتحوا الباب الحديدي ليتدفق الناس الى داخل حرم الاوبرا حيث عادوا فكرروا المشهد امام المدخل الرئيسي.

ولقد كان مدهشاً ومؤثراً، رؤية مئات الأولاد الممسكين بأيدي أهاليهم متوجهين الى مدخل الدار، حيث توجب أن يتركوهم لوحدهم. لكن التنظيم كان قد تحسب لكل هذه الأمور، فأعطي الأهل الآتون بأولادهم أولوية عبر تخصيص صف خاص لدخولهم، حيث كانت سيدة تأخذ أسماءهم وأرقام هواتف اهلهم وتكتبها على «بادج» تلصقه على ملابسهم. وفي الداخل خصصت لهم منطقة من المقاعد المتقدمة نسبياً، وأجلس مرافقون من التنظيم الى جانبهم لتلبية حاجاتهم.

وفي حين تخوف البعض من ردة فعل الأولاد في بعض مشاهد المسرحية، كما لدى صراخ الممثل المخضرم أنطوان كرباج في دور الوالي مثلا، ما قد يؤدي الى بكاء بعضهم طلباً لأهاليهم والتشويش على العرض، تبين ان كل تلك المخاوف كانت في غير محلها. فإن كان صحيحاً ان جمهوراً ربعه من الأولاد هو الأصعب إرضاءً، كونه لن يتقيد بآداب اللياقة إذا ما ملّ المشاهدة أو لم يفهم المسرحية، تبين ان «صح النوم» نجحت في الامتحان مثبتة بالفعل أنها مسرحية بسيطة، مسلية، وممتعة، تنتمي الى نوادر السهل الممتنع.

لكن، ربما كانت تجب الاشارة الى ان تمتع الاولاد بالعرض لم يأت من فراغ، أو «يفقس بهالجرد» كما تقول الأغنية في فيلم «سفر برلك». فقد تبين انه جمهور يعرف فيروز جيداً، على الأرجح من الأهل. هكذا، قال لنا عطا نويصر وهو ولد في العاشرة من عمره كان يجلس الى جانب أخته ريتا، البالغة من العمر ثماني سنوات، إنه يعرف «كل شي عن فيروز» ويأخذ بالتعداد وهو ممسك بجاكيتته لكي لا تزحط عن ركبتيه «بعرف «صح النوم» و«بنت الحارس» و«نسّم علينا الهوا» و«لولو» كمان». اما اكثر ما يحب فهو فيلم «سفر برلك». والسبب؟ فلأنه «فيها حرب»، مشيراً الى مشهد تبادل إطلاق الرصاص بين المقاوم اللبناني أبو احمد (عاصي الرحباني في الفيلم) والعسكر التركي المحتل.

اما محمد طالب (تسع سنوات) فقد أكد لنا بكل جدية انه «ما في مسرحية لفيروز إلا ما بحضرها»! ويتابع «حافظ كل شي لفيروز. بحب «ع هدير البوسطة» و«ستي يا ستي» و«أنا وشادي» . يريد نعيم الخوري (تسع سنوات) ان يدلي بدلوه ايضاً، فيقول إنه يعرف مسرحية «ليلو». تصحح له ريتا «لولو»، فيسأل بلهجته السورية «خالة؟ فيروز بتغني إنكليزي؟»، ليعود ويطلب منا ان نكتب الى جانب اسمه انه يعرف ايضاً «سفر برلك» لأننا لم نكتب امام اسمه في الدفتر إلا «ليلو»!

وتمام الثامنة والنصف، وبعد الإشارات الموسيقية الثلاث، التي كان يتوجب شرح مهمتها للأولاد كونهم ظنوا ان «الغنية بتبلش وعم تقطع»، ارتفعت الستارة مترافقة مع المقدمة الموسيقية، وسط عاصفة من التصفيق طالت لتتحوّل الى مرافقة للموسيقى تماماً حسب الإيقاع. وما ان انكشف المسرح والفرقة عليه، حتى هتفت ميرا (8 سنوات) مشيرة بإصبعها الصغيرة الى فيروز الواقفة تحت شمسيتها مديرة ظهرها للجمهور « ليكها ليكها... ليك فيروز... وهادا البير»! أما الأصعب على التصديق؟ فقد كان سماعك الولد الجالس الى جانبك وهو يسألك «هادا اللي لابس اسود هوي المستشار؟هوي اللي إجا محل نصري شمس الدين؟».

لكن أغلب الجمهور لم يكن بالطبع من الأولاد. فقد ازدحمت المقاعد بالشباب والصبايا، ومنهم «الحبّيبة» الممسكين بأيدي بعضهم بقوة من يعلم انه سيتذكر هذه اللحظة طوال عمره . لا بل إنه تم «غض النظر» رسمياً عن إدخال حوالى مئتي شخص... ملأوا أي فسحة فراغ في القاعة وقوفاً أو جالسين على المدرجات وحتى على الارض نفسها. وما ان استدارت فيروز بكلمتها الشهيرة «تركيييبة» حتى كان التصفيق يتبارى مع التصفير المتعالي من كل الشرفات والقاعة الرئيسية.

لكن، وإن لم يكونوا أغلب الموجودين، فإن حضور الأولاد كان الأقوى على ما يبدو في ذهن فيروز الممثلة. هكذا غيّرت قليلاً في أسلوب تمثيلها، فزادت من إيماءاتها وحركتها على المسرح إضافة الى تعابير وجهها. كان الفارق بين ما كانت تفعله وبين الليلة، تماماً كالفارق بين التمثيل لجمهور بالغ والتمثيل لأولاد. شيء من السعادة الممتزجة بالتسلية كان ينضح من أدائها، مذكّراً بتمثيلها في فيلم «بنت الحارس» وغنائها «يللا تنام ريما» لأختها الصغيرة في الفيلم. ولم يتأخر وصول الأغنية الأخيرة ولو ضمن مشهد سرقة الختم، هكذا تمايل الأولاد على وقع ما بدا انهم يعرفونه جيداً، وكان مذهلاً ان تسمع جوزف دولباني (11 عاما) يدندن صماً... موسيقى المشاهد! إلا ان ضحك الأولاد لمشاهد فيروز وأنطوان كرباج الكوميدية، فاق «طربهم» للأغنية. تماماً كما ضحكوا للمشاهد الكاريكاتورية كما في حركة اهالي الضيعة المترقبة للختم الثالث. ولأنهم أولاد، لم يتوقف سيل اسئلتهم طوال العرض. هكذا سأل نوار ما معنى كلمة «روبص»، وبلغ التشويق من ريتا مبلغه لحيرة «قرنفل» اين ستخبئ الختم، فسألتنا في عتمة العرض وبصوت منخفض إن كانت ستستطيع ان ترجعه الى مكانه قبل ان يعرف الوالي؟ اما مايا يازجي (تسع سنوات) فقد سألتنا ان ندلها على «بيت فيروز» في ديكور الضيعة على المسرح. ولكن عطا سأل سؤالاً حسبناه الاول الذي لم يفهم شيئاً. فقد قال «خالة؟ مين حبيب فيروز؟». وحين أجبناه انه ما من حبيب لها في هذه المسرحية، ما كان منه إلا ان سأل بكل بديهية «وليش بتقول على البير المهجور نطرتك يا حبيبي؟».

وفي نهاية العرض، وحين كان المنظمون يطلبون الى الأطفال، الذين لم يعد باستطاعتهم ان يروا شيئاً من المسرح نظراً لوقوف الكبار مصفقين، أن يقفوا ويلبسوا جاكيتاتهم لأخراجهم، كانت انحناءة «الست» لجمهورها الطفل، هي الأطول والأكثر حرارة بين كل الأيام السابقة.

تعليقات: