... ويحاضرون بالعفّة


يروي السفير الأديب، والأديب الظريف فؤاد الترك، أنّـه يوم مات والد أحد أصدقائه المحامين، راح المطران يؤبّـنه في مأتم حافل، وبعد مراسم الدفن اختلى المحامي بالمطران عاتباً عليه بالقول: لأنّ مَـنْ مدَحَك بما ليس فيك فقد ذمّـك، فأنتَ قلت إن والدي توفي متمماً واجباته الدينية، وهو لم يدخل الكنيسة إلا يوم عمَّدتموه ويوم زوّجتموه ويوم جنَّـزتموه، وقلت إنّ زوجته خسرت بفقده الزوج المخلص والوفي، والحقيقة أن بعض عشيقاته كـنّ حاضرات في مأتـمه..

تذكّرني هذه الرواية بما أسمعُهُ من روايات مشابهة على ألسنة رؤساء الأحزاب وزعماء اللوائح الإنتخابية وهم يطرحون البرامج المعسولة كأنها مراثـي التأبين، ويُمطرون المواطنين بوابلٍ من الوعود التي تنهمر دفّاقـة بالسعادة والعز والرفاه والبنين، ومنتهى الكرامة ورفعة الجبين.

قد يصـحّ في المآتم تحريف الحقائق بما هو كذبة بيضاء، إذا كان الخطيب مطراناً والموضوع رثـاءً والمقصود هو الميت.

أما والخطيب زعيم سياسي، والموضوع إنساني ووطنيّ، والمقصود هو الشعب، فالمسألةُ لا تحتمل الكذبة البيضاء، إلا إذا كان أصحاب الخطاب يعتبرون أن الشعب قد مات.

مع انطلاق تشكيل اللوائح، إرتفعت الرايات والأصوات وانطلقت المبارزات بالبرامج والمناهج والبيانات، نقرأها فتُضْحِكنا وتبكينا، تُطربنا لما فيها من وعود برّاقة، وتؤلمنا لما فيها من كذب وتدجيل، وإننا لفرط تكرار الروايات الكاذبة أصبحنا من المدمنين عليها، نصدّق الكذْبة وننـتخب الكذَبَة.

مهلاً... لعل البرنامج الإنتخابي الذي أعلنه السيد حسن نصرالله باسم «حزب الله»، وبالرغم من أن بنوده تكررت إجتـراراً على مـرِّ الأيام وعلى غير لسان، إلا أن ما يوحيه من تفاؤل يعود الى ما يتميز به «حزب الله» من أخلاقية الإلتزام والقدرة على التنفيذ، فلننتظر ونحكم.

ننتخب الرؤساء والزعماء والأحزاب والنواب والوزراء، وكأننا ننسى أنهْـم: هُـم الذين حكموا وظلموا، وفسدوا وأفسدوا، وتاجروا وسمسروا، واغتـنوا، وأفقروا البلاد والعباد بالتخلّف والحرمان وتمريغ الجبين بالتراب.

منذ سنين وهم يتلاعبون بمشاعرنا وأعصابنا، بما هو كذبة فاضحة سوداء إسمها القانون الإنتخابي، وانتهينا معهم بقانون لقيط مشوّه بالطائفي والمذهبي والإقطاعي والمناطقي، لنظلّ معهم محكومين بهذا الهاجس الإنتخابي، والتصارع الإنتخابي، والإنقسام الإنتخابي، كلوا واشربوا الإنتخابي وأنتم بفعل هذا الإنتخابي لم تأكلوا ولم تشربوا.

سمعتهم ولا يخجلون، يحاضرون بالعفّة ومحاربة الفساد، وهم الذين سلبوا الثروات بالدعارة الميليشياوية... يسترون رؤوسهم في الرمال كأنما الرمال تستر تاريخهم الأحمر وتمحو ذلك السؤال: من أين لك هذا يا هذا؟

وهي الكذبة ذاتها التي تجعل الأبطال الوهميين يقرعون طبول المواجهة مع العجَم لابتزاز مال النفط من العرب، رحم الله نـزار قباني الذي قال:

هَجَمَ النِفْـطُ مثلَ ذئـبٍ علينا فارتمَيْنا قتلى على نعلَيْهِ

من خرابِ الخرابِ جاءَ إليكمْ حاملاً موتَهُ على كتفَـيْهِ

ألاَ ... طال عمرك يا مال النفط وطالت أعمارهم الإنتخابية.

تعليقات: