لبنان يكرّم الاديبة أملي نصرلله


بيروت:

في جوّ عابق بما اتسعت الأرض من حب، لم تستطع الأديبة الكبيرة الروائية املي نصرالله حبس دموع الفرح والحنين، خصوصاً عندما سافرت على بساط الكلمات التي ظلت عاجزة عن تكريمها، برغم بلاغتها وفحواها وما حملته من صور شعرية، إلى الجذور، إلى كوكبا والكفير (حاصبيا) حيث ولدات منذ 86 عاماً وترعرعت في كنف الفلاحين ودفئهم…

دموع املي أبكت بدورها الأصدقاء والأحبة الذين تقاطروا من كل حدب وصوب لتحيتها وتكريمها، لما نسجته من روايات وقصص وكتب شكلت منذ كتابها الأول، “طيور أيلول” (1962) وتكراراً مع سبحة من 50 حبة، هدي حوار ولغة خطاب إنساني طاول مختلف فئات المجتمع والناس، لا سيما أولئك الذين حملتهم رياح الاغتراب إلى أقاصي الدنيا، وعاد بعضهم، ولم يرجع البعض الكبير… ولم تنس الأطفال والدفاع عن المرأة وحقوقها، وعن الحق والمسامحة، وعن الوطن، والأرض والجذور…

كثيرون حضروا من الجنوب والبقاع وبيروت، وحضر الأصدقاء وفي مقدمتهم المفكر والكاتب كريم مروة والإعلامي الكاتب طلال سلمان والشاعر شوقي بزيع وحشد كبير من الفاعليات الثقافية والسياسية والاجتماعية والتربوية، ومن رفاق الدرب… بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والمنبر الثقافي لجمعية التخصُّص والتوجيه العلمي، وجمعية بيت المصور في لبنان، ومؤسسة نجوى القلعاني، وجمعية تقدم المرأة في النبطية.

وبعد توزيع ثلاث بطاقات بريدية تحمل إحداها صورة الكاتبة بالأبيض والأسود في مرحلة السبعينيات وأخرى لغلاف كتاب طيور أيلول، أما الثالثة فللوحة من رسم الفنانة خولة الطفيلي، التي قامت بدورها بتقديم اللوحة الأساس إلى الأديبة نصرالله. وحملت البطاقات التي أصدرها “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” و”جمعية بيت المصور في لبنان” و”معرض خليل برجاوي لطوابع البريد” خصيصاً لمناسبة التكريم نبذة عن نصرالله باللغتين العربية والإنكليزية وتوقيع اسمها بخط يدها وعبارة “مع محبتي… املي نصرالله 30/11/2017”.

ولأهمية ما قيل وما حملته الكلمات، سنقوم بنشرها كاملة وتباعاً…


كانت استهلالاً كلمة لعضو الهيئة الإدارية في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي المحامية وداد يونس، فقالت:

حين وُلِدَت مع أوائل الثلاثينيَّات لم يدُرْ ببالِ أحدٍ من عائلتها أو من قريتيها الجنوبيَّتَين، كوكبا والكفير، إنَّ تلك الطفلة المُسمَّاة “أميلي”، المولودة آنذاك في ظلِّ تقاليد وعادات وخرافات متحكِّمة بعقل مجتمعنا اللبناني بعامة ومنه الرِّيفي بخاصة، كحرمان المرأة من التعليم واقتصار هذه الميزة على الذكور فقط، وزواج الفتاة في سِنٍّ مُبكرة، على سبيل المثال، سوف يكون قلمُها، فيما بعدُ بقليل، كما الضوء.

ضوءٌ ستُسلِّطُه “أميلي” على تلك العادات والتقاليد والخرافات لتكشف أثرها السلبي على نفسية وشخصية المرأة الرِّيفية في القرى، وعلى المجتمع ككل. فإدراكها الباكر لأهمية دور المرأة في تربية الأطفال، والذي يُعَدُّ بالنسبة لها الأقوى والأبرز لجهة التأثير على شخصيتهم، جعلها ترفض بقاء المرأة رهينة لضغوط تلك العادات والتقاليد التي كانت تحول دون امتلاكها للمقومات التي من شأنها أن تؤهلها لتربية أطفال أسوياء.

لتكشف أثر تلك الضغوط السلبي على الرجل الريفي بدوره، ذلك الأثر الذي رأيناه ونراه متجسِّداً بهجرة الرجال من القرية إلى المدينة أو الخارج، وبتحوُّل القرية، بفعل تلك الهجرة، إلى محطة صيفية للمهاجرين كما هي محطة صيفية لطيور أيلول.

مؤلَّفات الأديبة والصحافية “أميلي نصرالله” تزيد عن الثلاثين.

عن روايتها الأولى “طيور أيلول” قال ميخائيل نعيمة: “طيور أيلول معرض فني للقرية اللبنانية في شتَّى مظاهرها، إنه لكسب للقصة في لبنان“.

تُرْجِمت أعمالها إلى عدة لغات أذكر منها: الألمانية، الإنجليزية، الدانماركية، الفنلندية، التايلاندية والإيرانية. هذا فضلاً عن “قيام الهيئة الوطنية للأونيسكو” بإطلاق رواية “طيور

أيلول” مطبوعة بصيغة “البرايل” للمكفوفين.

نالت العديد من الجوائز نذكر منها:

“جائزة الشّاعر سعيد عقل”، “جائزة مجلّة فيروز”، “جائزة جبران خليل جبران” من رابطة التّراث العربيّ في أوستراليا و”جائزة مؤسّسة:(IBBY)” العالميّة.


ثم كانت كلمة رئيس المنبر الثقافي الاستاذ واصف شرارة

وكلمة الشاعرة نجوى القلعاني: “ دقّت السّاعة 12 … والبنت اللي كانت سهراني أخدها الوقت وركضت مع العتمة معمْشقا بفستانها، عينا ع شلوح الزّيتون العتيقا، ما عر فت إنو السّكربيني البيضا ضلّت ع دراج ضيعتنا ، تخبّر قصّة البنت اللي وجّا بيحمل ضو بدر وادي التّيم، وعيونا لمعة السّيف وشهوة الصّيف .

ما فتّشو عن الأميرة اللي هربت قبل ما السّاعة تخبّر إنّو بنص الليل بْتِدْفا الأحلام جوّات حرام الرّوح..

الأمير اللي تركتو لحالو ب هديك السّهرة، ضل واقف متل الشّربين، يخبّر قصّة البنت اللي عربشت ع حيطان القدر وفلّت مع سكوت العاصفة.

– شو اسمها يا بيي ؟ -إميلي أبي راشد نصرالله ..

– ييي هيدي اللي بتحكي بالقاف ؟

– هيدي اللي سكنت اللغة وما هَرَّبِت منها ولا حرف !

إميلي أبي راشد نصرالله !

أنا جايي من كوكبا مطرح ما فتّحتِ عيونِك ، وحاملي معي نبيد مش من عنب ..نبيد من محبّة النّاس اللي عتّقو صورتك بخوابي قلبن، وبعدن بيشربو كاسِك مقفّا…

جايي وحاملي معي من زيتون الهوى، زيت انعصر بمعاصر العمر، وميرون من كنيسة بابها ما انغلق، قدّمن لقديسة الأدب اللي ما بعمرا نعست، ولا خربطت زيح ، ولا دعست برّات قصر الحكي ..

جايي وحاملي معي من معجن الأمّات خبز الكرامة، ومن إيدين البيّات ندر الأرض، قدمن كمشة وفا لنجمة الصّبح اللي بعدا بسما كوكبا، نْدِل عليها كبار وزغار ونقول : ” هيدي الأميرة اللي فلت وتركت دعساتا هون ”

جايي وحاملي معي كرجة نهر الحاصباني.. نقاقيط الرّمان.. تِنهيدة التّلجات.. وبساتين البركة.. وصلا الزّيتون .. كلن باقات لعيونِك باقات ما بتدبل ولا بتنبدل …

وإنتو اللي جيتو ضلكن تعو ، الشّعب اللي ما بيعرف يكون حد الشّعرا والكتّاب والفنانين فوق التّراب شعب خرجو إطار و صورة ويتعلّق ع حيط” …


وكانت كلمة : الاعلامي الكاتب طلال سلمان قال فيها :

اميلي نصرالله ..شرف لي أن أعتلي منبر هذه المؤسسة المتميزة بعطاءاتها، جمعية التخصص والتوجيه العلمي، لأشارك مع بُناتها وروادها الميامين في من يعتبر تكريمها شرفاً للمساهمين فيه. لقد أكدت اميلي نصرالله بإبداعها المتنوع والغزير والمتميز بالرقي، كما بخلقها الرفيع واصالتها التي ثبتت دائماً، رفعة ورقة على مر الازمنة التي كانت شاهدة عليها،

لست محايداً.. وأكره البرودة في الحديث عن الابداع، وما أقل المبدعين. ثم انني متعصب لأصولي البعلبكية الريفية بقدر تعصب صديقة العمر، بنت الكفير التي تمسكت بلهجتها الاصيلة، والقاف فيها ومنها، حتى وهي تبدع أروع الروايات وأرقها بالمشاعر الانسانية من دون أن تغادر اصولها وبيئتها وأهلها الذين يعتزون بتكريمها، كما تكرمون، ويجعلون من بيتها متحفاً بسيطاً ولكنه غني بالحب والتقدير والاعتزاز بهذه المبدعة التي حولت منطقتهم من نكرة إلى مصدر للإشعاع والفخر.

والبيت بخغرافيته هوية كاملة: فأمامه فلسطين، وظهره إلى حرمون والشام من بعدها، أما الغرب ففيه ينداح سهل البقاع لتعبر منه عبر جبل لبنان إلى بيروت عاصمة الكتاب والقلم.

لقد ارتقت اميلي نصرالله إلى العالمية، ولكنها ظلت هي، ببساطتها ومشاعرها الانسانية، واخلاصها لأهلها، وبالذات لأسرتها المبعثرة بين القارات، وبيتها العابق بالمحبة والحنان، ما أجمل تاج الشيب وهو يكلل الإبداع ..ما أبدع الذاكرة وهي تحفظ في الشيخوخة تاريخ الصبا، فلا تنسى صديقاً ولا تهمل واقعة تجمل الحياة باستعادة رفاق العمر والكتابات الأولى التي تبقى محفورة في الوجدان حتى لو نسيها الآخرون.

ما أبهى اميلي نصر الله وهي تتخطى ثمانينها بسنوات ويبقى قلبها نابضاً بحب الناس، كل من صادفتهم فصادقوها وتقربوا منها معجبين بشخصيتها التي أضاف اليها قلمها ألق المحبة والإيمان بالإنسان.

أميرة الكلمة، خط النور الذي يغمر بلاد الشام، بسوريا وفلسطين ولبنان، وعلى خط التواصل بين الأديان والطوائف والمذاهب .. وربما لهذا لم تعرف الطائفية، ولا هي عرفت التعصب الجهوي.

هي جنوبية – بقاعية – “بيروتية” بمعظم عمرها في عاصمة الكلمة. وهي “مصرية” عبر التحاقها برفيق عمرها فيليب الذي سيغير كنيتها من أبي راشد الى نصر الله، وأبنائها الذين انبتوا الصحراء ورداً وزيتوناً وعنباً وخمراً وديوكاً زاهية بألوان أعرافها فوق ريشها المزركش ورؤوسها المرفوعة افتخاراً أمام جواريها اللواتي يتزاحمن عليها ..

وهي “كندية” بعد استقرار معظم أهلها فيها وإنشائهم “الكفور” الثانية، اميلي نصر الله عرفتها أول مرة، محررة في مجلة “الصياد” في الحازمية تخضع لرعاية سعيد فريحة المباشرة، وتعمل بدأب بحيث تكاد لا ترفع رأسها عن أوراقها، حتى إذا ما انتهت من تحرير “بابها” في المجلة، انطلقت الى الجامعة الأميركية في بيروت بغير أن تتلفت حولها حتى لا تخدش حياءها الريفي الذي سبقها الى العاصمة.

وبرغم حيائها الصامت، وخجلي من احراجها اذا ما أضفت كلمة الى تحية الصباح، فقد غدونا – بشكل ما – اصدقاء .. ربما لأنها أحست انني أقدر دأبها وسلوكها “المحافظ”، وربما لأنها كانت تنتبه الى انني أعمل – منفرداً، تقريباً، لإصدار المجلة، وبمرتب يدفع أقساطاً بحيث يصل الشهر التالي قبل أن يكتمل حصولي على راتب الشهر الماضي.

بعد ذلك ستتباعد المسافات بيننا بعدما تركت “الصياد”. ولكنني حين عدت اليها، بعد سنتين إلا قليلاً، وجدت الآنسة اميلي أبي راشد قد باتت السيدة اميلي نصر الله بعد زواجها من المهندس ولاّد المشروعات فيليب نصر الله، الزحلاوي حتى العظم.

وتجددت اواصر الصداقة واتخذت بعداً عائلياً مع العائلة، “الصهر” – كما كنت أناديه – والسيدة والدته اضافة الى الزميلة التي غدت روائية مع إصدارها روايتها الأولى “طيور أيلول”.

نجحت الرواية نجاحاً ملحوظاً، ووجدت من يترجمها الى أكثر من “لغة حية”، وغدت الريفية القادمة من الكفير مثالاً مميزاً للأديبة التي ساوت بين إنجاب الأطفال وإنجاب القصص والروايات.

بعد ذلك ستتوالى الروايات … ثم ستنتبه اميلي نصر الله الى الأطفال فتنتج لهم مكتبة كاملة، والى النساء فتشارك في ما يتناسب مع قيمتها من انشطة. ولقد ترجمت مؤلفات اميلي نصر الله الى بضع لغات، بينها الفرنسية والانكليزية والإيرانية ومن ثم الألمانية.

آخر حفلات التكريم أقامها معهد غوته الألماني حيث دعاها الى مقره، في مدينة فايمار على مبعدة خمس ساعات تقريباً من فرانكفورت. ولقد صحبتها عائلتها جميعاً:

الأبناء والبنات والأحفاد بحيث شكلوا قافلة من الفرح والحب الصافي والتقدير الى حد الفخر بهذه الأم المبدعة والجدة التي قهرت السنين بالصمود واستمرت تنتج وتفرح بالطبعات الجديدة لإبداعاتها القديمة ومحاولة إبداع الجديد .. ولو شفهياً.

اميلي نصرالله: الراوية – القديسة- الشاعرة

كانت الرواية الأولى “طيور ايلول”حدثاً أدبيا، بل يمكن القول أنها شكلت اختراقاً للمفاهيم السائدة. لم يكن السبب في ذلك ان كاتبتها امرأة، وان هذه الكاتبة ابنة قرية تائهة في بعض المناطق المنسية، تلتحف جبل الشيخ الذي يربطها بفلسطين وسوريا، وهي جنوبية وان أطلت على البقاع الغربي وعينها على دمشق.

…كان السبب الفعلي ان الرواية كانت فتحا في عالم ما يسمى تضليلاً ” الأدب النسائي”، وأنها قدمت اميلي نصرالله ككاتبة تملك أسلوبها الخاص، لها رؤيتها التي تبشر بولادة روائية مؤهلة لان تحتل مكانة مميزة في هذا العالم الذي كان – الى حد كبير- حكراً على الكتاب، وندر ان اخترقته أديبة فكيف اذا كانت وافدة من الأطراف وطارئة على المدينة وليس لها من يسوق نتاجها ويقدمها الى الناس بما يليق بموهبتها؟

اخترقت ” طيور أيلول” الحواجز، وفرضت الاهتمام بها على المعنيين بالثقافة، فقدمها كبارهم على أنها تمثل فتحاً في عالم الرواية، وتسقط الحواجز الوهمية بين أدب الرجال والأدب النسائي، ان صح مثل هذا التصنيف على الإبداع.

تلك كانت البداية، ثم توالت إبداعات اميلي نصرالله في الرواية والقصة القصيرة والسيرة وصولاً الى الشعر ولو عبر ” همسات”.

فأما الروايات فهي: الرهينة، تلك الذكريات، الإقلاع عكس الزمن، الجمر الغافي، ما حدث في جزر تامايا،

ثم اندفعت الى مجال الكتابة للفتيان، فأصدرت ” الباهرة” و ” يوميات هر”، “على بساط الثلج، ” أوراق منسية” و” روت لي الأيام”.

أما في المجموعات القصصية فقد أبدعت الكثير: جزيرة الوهم، الينبوع، المرأة في 17 قصة، الطاحونة ، الضائعة، خبزنا اليومي، محطات الرحيل، الليالي الغجرية ، اسود وابيض، رياح جنوبية، وخطوط الوهم الرائعة.

وأما في السيرة فقد كتبت اميلي نصرالله ستة أجزاء عن نساء رائدات من الشرق والغرب ثم أضافت اليها ” في البال”.

اية مقدرة عند هذه ” القديسة” التي لا يتعب قلمها وهي تستكبه انطباعاتها التي تعود بها من كل رحلة من رحلات تجوالها المتواصل الذي كاد يشمل القارات جميعاً؟! وكيف لذاكرتها أن تستوعب كل ما تشاهد وتسمع وتقرأ عن البلاد وناسها، في لبنان ومصر وفي اميركا وكندا وفي بعض اسيا ، وأوروبا؟ وما هو السر في ان من يراها لأول مرة يحس بجاذب قوي إليها يدفعه دفعاً الى ائتمانها على أسرار حياته… ثم ما هذه القدرة على تقديم الشخصيات بالتفاصيل الدقيقة التي تمتد من ملامح الوجوه الى العادات والتقاليد الى العواطف ورقتها التي تأخذ الى الشعر وعواصفها الكاسحة التي قد تدمر الهيكل؟.

وما هذه الذاكرة الهائلة التي لا تنسى تفصيلاً في بيت فلاح ولا تهمل نبرة غضب في لهجة مفجوع او رنة فرح في همسات حبيبين يلتقيان خلسة أول مرة.. ثم ما هذه القدرة على استنطاق الهر” زيكو” ليقول ما لا يجرؤ البشر على الاعتراف به او إعلانه.. ولو من باب خدمة الحقيقة؟ هي مزيج من القديسة والشاعرة والروائية.

قصيدتها الأرض وديوانها الناس بعواطفهم وقصص حبهم المجللة بالشجن، ثم انها شاهدتهم وهم يجيئون لزيارة ملاعب صباهم فإذا بهم يستعيدون سيرتهم الأولى فيها، بعواطفهم البكر، حباً وحسداً وحقداً، بتعلقهم ببيوت لم تعد تعرفهم وأهل سقطوا من ذاكرتهم.

هي راوية مبدعة لحقبة هائلة الغنى في تاريخ لبنان، بأبنائه المقيمين والمغتربين، تستعيدهم وتعود اليهم، تستكمل حكاياتهم المبتورة، وتعيد وصل ما انقطع او ما قطعوه عمداً مع بيئاتهم الأولى ليصيروا غير من كانوا فيها، ثم إذا بهم – في لحظة – يعودون هم، في حضور ” الشاهدة” التي تعيدهم إلى حقائقهم الأولى بالصح والغلط، بالمكر والمخادعة، بالطمع والترفع وقصص الحب المبتورة.

لقد غزلت اميلي نصرالله من حكايات الضيعة روايات، وزرعت أولئك الريفيين البسطاء في وجدان قرائها الكثر وتشعرك متابعة النتاج المميز لهذه المبدعة وكأنها هي من ولدت، او أنها أعادت خلق أبناء قريتها، وواكبتهم في مسارات حيواتهم مسجلة يومياتهم بقصص الحب والغيرة، بحكايات النجاح والفشل، مستعيدة مواكب الذين هاجروا في أوائل القرن الى حيث تأخذهم “البوابير” عبر البحار، هرباً من الفقر والظلم والموت جوعاً.

واميلي نصرالله تجيد الرسم بالقلم: فهي تجعل من الطبيعة بعض أبطالها، ثم أنها تتوغل في غابات المشاعر الإنسانية فتنقلها الى الورق حارة، بالحقد والكراهية فيها، بالحب والرغبة والشوق، بالأنانية والحسد والغيرة، بالطمع ونزعة الاستئثار وإلغاء الآخرين.

ولكن، ولان اميلي نصرالله مرهفة المشاعر، فهي تعف عن التوغل داخل الشخصيات التي تتملكها النزعة الى السيطرة والى احتكار الثروة والنفوذ وإلغاء الآخرين، وتكتفي بان تنبهك الى مساوئهم عن طريق التركيز على أثارها المدمرة للآخرين.

ولقد سرى الحب رقيقاً بإميلي نصرالله الى الشعر فإذا حبيبها هو الديوان مرصوفة كلماته وهمساته ولمساته ولفتاته قصائد تجري في كيانك مجرى النفس وتمنحك الشغف بالحياة وقد اكتمل فيها المعنى.

لم تكن المفاجأة في قدرة اميلي نصرالله على التدفق شعراً، بل في اطلاقها هذا النهر” ديواناً” أعطته عنوان ” همسات ” ربما للتوكيد على الرقة فيه او على تجاوز الخجل وإطلاق عواطفها جياشة تفيض على الأوزان لحبيبها الذي جعل العمر جنة وجعل الحياة مهرجاناً للفرح.

ثم انها وببساطة المتمكن من فنه كتبت جوانب من دراما الحرب الأهلية في لبنان على لسان فصيح، برغم خرسه الأبدي: هرها ” زيكو”

ولقد استفادت اميلي من خرس الهر لكي تقول لفتيتنا وصغارنا عموماً، “بالرموز” والتعابير ” المشفرة” ما كانوا يعجزون عن قراءته في عيون أهلهم المسحوقين بالخوف، أو الفاقدين القدرة على التمييز ورؤية الحقائق نتيجة التعصب لفريق، او الانحياز لهذه او تلك من بنادق المحاربين.

كان لا بد من الهر لتجاوز المسميات، سواء أكانت قوى دولية، او أطرافا “إقليميين ” او أحزابا محلية، واستطراداً: طوائف او مذاهب تنتج بلا انقطاع عصبيات جاهزة للاقتتال او للقتل المجاني.

على ان ” زيكو” الذي نطق بقلم اميلي نصرالله لم يغفل عن تقديم نصيحة أخيرة هي خلاصة تجربته” إذا وقعت الحرب فاقفز من النافذة واهرب ولو إلى أقصى الأرض… اهرب من أبيك ومن أمك ومن الناس كلهم، واهرب من نفسك حتى لا تذروك الحرب رماداً”.

ولان الحرب قد أصبحت اليوم ” جرحاً” بليغاً في الذاكرة، فقد أمكن لزيكو أن يستعيدها وان يرويها مستعيراً الكثير من تجاربنا جميعاً، واميلي نصرالله واحدة من أعظمنا تجربة.

لك العمر، أيتها الصديقة التي أفخر انني قد زاملتها، ورافقت مسيرة “فيليب”، زوجها الراحل، وعرفت أبناءها وبناتها ثم أحفادها وهم اطفال، ثم وهم يتقدمون ويحققون نجاحاً باهراً في مختلف ميادين الانتاج.

عذراً أن كنت قد أطلت. لكنني احاول التعويض عن جبني يوم تركت فيليب نصرالله يختطف هذه المبدعة مني، لكن علّي أن اعترف أن ذلك كان من حظها وحظ الناس الذي تمتعوا بإبداعها، وحظي بأن صارت لي صديقة أباهي بها الامم.


وفي الختام

كانت كلمة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ألقاها الدكتور شفيق البقاعي





















































































































تعليقات: