ما يحق ولا يحق للنازح.. وللبناني


إنها ظاهرة النزوح السوري في لبنان، لم تعد تشبه أمسها. ولعلّ تراكم الأيام وطيها من دون بروز أي عنصرٍ جديد ينبئ بعودةٍ قريبة الى الديار، هو الشوكة الواخزة التي تنخر جلد اللبنانيين والسوريين على حدٍّ سواء، وقد باتوا جميعهم في موقع غير القادر على تحمّل أعباءٍ اضافية تثقل كاهلهم. يحصل ذلك في ظلّ تطوّر المشهدية العامة المحيطة بالملف السوري، بدءا بانحسار المواجهات العسكرية ميدانياً، وضخّ نبض الحياة في شوارع سوريا وتشييد الحفلات الفنية والمعارض الثقافية على خشبة مسارحها. هذه الأجواء الايجابية لم تصرف لبنانياً، حيث يسير كلّ شيءٍ وكأن النزوح تحوّل أمراً واقعاً. بطبيعة الحال، النازحون لا يرغبون في العودة نتيجة تراكم عوامل تحضّهم على القطون في لبنان. أوّلها سياسي، يتمثّل بعدم رغبةٍ في تعامل المعارضين منهم مع النظام. وثانيها اجتماعي، يتجسد في انسجام عددٍ من النازحين مع الواقع اللبناني وفق منطق الأخوة بين الشعبين اللبناني والسوري. وثالثها اقتصادي، مع ارتباط البعض بأعمال او مهن حرّة يعملون فيها منذ أكثر من 5 سنوات.

اللبناني ينظر الى هذه المعادلة من منطلق أن النازح لن يعود. وهو يعلم في قرارة نفسه ان مليونا ونصف مليون شخص لا يتحمّلون مسؤولية فعلٍ اجرامي ارتكبه أحدٌ منهم. رغم ان ظاهرة النزوح ترتبط بشكلٍ او بآخر بالخروقات الأمنية نتيجة ظروف الفقر والعوز والتشرّد والضياع الكامل الذي قد يعانيه انسان على أرضٍ غريبة. لكن ذلك لا يعني ان كلّ نازح مجرم، ولا ان اللبناني أشبه بملاك. فيما التفريق بين ظاهرة النزوح وفعل الجريمة أولوية لم تتقنها بعد فئة من اللبنانيين. رغم ان ذلك لا يلغي امكان اتخاذ آراء سلبية من المفترقين. ويمكن القول انه يحقّ للبناني ان يعترض على استمرار واقع النزوح السوري غير المنظم، ويحقّ له أن يقرر ما اذا كان يرغب في استضافة نازحين في قريته أو لا، وأن يتساءل عن موعد عودة النازحين الى بلادهم في ظلّ حديثٍ عن وصول الحرب السورية الى خواتيمها. لكن لا يحق له ان يطلق نعت "مجرم" على كلّ "نازح".

ويحقّ للنازح أن يسعى الى العيش الكريم حتى عودته الى بلده. ويحق له ان يحمي أطفاله من العوز والفقر، وتالياً العمل وفق الأطر القانونية المسموح بها. لكن لا يحقّ له ان يتعامل وكأنه يعيش في بلده الأم، ولا ان يفكّر في ان وجوده في لبنان مسألة طبيعية مستدامة.

تزامناً مع الواقع الحاضر، بدأت بلديات لبنانية اتخاذ اجراءات لاعادة تنظيم الوجود السوري في مناطقها، كان أبرزها في الأيام القليلة الماضية، تحضيرات اتخدتها كلّ من جونيه والبترون وبشري لـ"وضع النقاط على الحروف" في ظلّ تجاوزات أمنية، بدءاً من جريمة مزيارة وانتهاءً بانتهاكات أمنية في اكثر من منطقة.

وفي السياق، يقول نائب رئيس بلدية جونيه روجيه عضيمي لـ"النهار" ان "الوجود السوري في منطقة جونيه محصور في 4 مناطق، هي صربا وحارة صخر وساحل علما وغزير، ويبلغ أعداد المقيمين الدائمين 13 ألف نازح، 60% منهم يصنفون في خانة الميسورين. فيما لم تتخذ البلدية اي اجراءات لتنظيم اقامة النازحين فيها حتى اليوم". ولكن ما تعانيه جونيه، ويسلّط عضيمي الضوء عليه، هو "استئجار الشقق السكنية من عدد كبير من الأشخاص. اذ تقطن في الشقة الواحدة عائلتان او ثلاث عائلات. هذا ما يدفع البلدية الى مراقبة الشقق وافراغها إذا تبيّن عدم مراعاتها الشروط، فضلاً عن بعض الخروق الأمنية التي تتظهّر من حين الى آخر، تمثّلَ آخرُها بمحاولة الاعتداء على ممثلة لبنانية بعد السطو على شقتها".

في موازاة ذلك، أصدرت بلدية البترون، وفق ما يقول نائب رئيسها انطون طانيوس لـ"النهار"، مرسوماً يقضي بـ"اقفال المحال السورية مع عقد جلسة في اليومين المقبلين لاتخاذ اجراءات مناسبة. فيما الأسباب تتمثل بالأعداد الكبيرة للنازحين، وهو ما يعني ان استمرارهم بهذه الطريقة يشرّع وجودهم، فضلاً عن أنهم ينافسون سوق العمالة المحلية". لا إحصاءات تقدّر أعداد المقيمين من السوريين في البترون، لكن الأرقام التي يرجّحها طانيوس تبلغ 1500 شخص في ظلّ استباب الأمن في المنطقة. فيما تتمثل الخروق في ازعاج البترونيين نتيجة بعض الممارسات المتفلتة كالبقاء في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل.

سياسياً

من وجهة نظر خبير السياسات العامة واللجوء زياد الصائغ ان "تزايد التوترات يعود الى سببين اساسيين. الأول طول أزمة النزوح الذي ينعكس عبئاً على المجتمعات المضيفة، فيما يتمثل السبب الثاني بالاستغلال الشعبوي والسياسوي لهذه الأزمة بما معناه ان افرقاء في الطبقة السياسية أسهموا في سوء ادارة هذه الأزمة، وهم الآن يحاولون معالجتها بشعارات شعبوية. فيما تدفع المجتمعات المضيفة ومجتمعات النازحين الثمن".

ويشير الصائغ في حديث لـ"النهار" الى ان "عملية تصوير بعض المناطق التي تطردُ النازحين بصبغة طائفية معينة هو جزء من الماكينة الديماغوجية والشعبوية لتسويق أجندة سياسية لا علاقة لها بعودة النازحين او حماية المجتمعات المضيفة. وقد انطلقت هذه الماكينة بقراءة مغلوطة لخطاب الرئيس الاميركي دونالد ترامب وعادت لتترجم حملة طويلة عليه. ثم أتت الجرائم المدانة والتي يجب ان يعاقب عليها بأقصى درجات العقوبة، ولكن التعامل مع الجرائم المدانة لم يأتِ من منطلق مقاصصة المرتكب، والا فلنذهب الى انزال عقوبة الاعدام بالمرتكب. ولكن يجب وقف الاستغلال السياسي لهذه الجرائم لتسويق أجندة سياسية. كلّ اللبنانيين يريدون عودة النازحين الى سوريا، ولكن يجب اعتماد منهج علمي ديبلوماسي لذلك، وليس من طريق استخدام الشعارات الشعبوية لزيادة التوترات". وعن الحل الذي كان لا بد من الاحتكام اليه يقول: "لو اننا قبلنا وضع النازحين السوريين في مراكز ايواء موقتة على الحدود، لما كنا عايشنا هذه التوترات".

لا شك في أن مرحلة جديدة في حكاية النزوح السوري تظهّرت في غضون الأسابيع الأخيرة تحت عنوان "صفر نازحون سوريون". لعلّها رجاء اللبنانيين والسوريين على حدٍّ سواء. واذا كانت الملفات اللبنانية الخلافية مؤجلة الى ما بعد أيار 2018، تاريخ الاستحقاق الانتخابي، كيف يمكن لعنوانٍ كهذا أن يطبّق مع اخراجٍ متوازنٍ واقعيٍّ وحقيقي؟

تعليقات: