عرس السفير في بعلبك


..ولقد تسنى لي أن اخترق السور الذي احيطت به بعلبك واهلها، في داخلها كما في محيطها، بلاد بعلبك.. وهو سور مصنوع بالقصد، يقدم عنها صورة مشوهة لتاريخها كما لواقعها.

صورة تنقلب فيها الرجولة بالشهامة والطيبة والمسارعة إلى النجدة إلى وحشية القتل والقسوة في التعامل.

لكن هذه الصور المشوهة تسقط تحت اقدام الرجال وهم يتكاتفون تحت سقف الحداء قبل أن يتقدموا بإيقاع الدبكة لينشروا الفرح.

..ولقد تربيت على الزهو ببعلبكيتي، بلاد الشهامة والنخوة ونجدة المظلوم، ارض الكرم بتقديم الرغيف الاخير إلى الضيف، ولو نام اهل البيت جياعاً.

لم اعرف بعلبك صغيراً، الا كهوية لي في “غربتي”، انا ابن الدركي الممنوع عليه أن يخدم في منطقته، بما يفرض على ابنائه أن يعيشوا في محيط مختلف يسمع السوء عن البعلبكيين من قبل أن يعرفهم فيخشاهم ويتحاشاهم ويصبح من الصعب كسر حاجز الوهم المبني بالخرافات والحكايات واخبار الحوادث التي تركز على جرائم الثأر والحشيشة والطفار وتنسى كل ما عدا ذلك.

عشت بعلبكيا في قفص الاتهام، وانا لم اعرف مدينة الشمس، مما زادني عشقاً لها واعتزازاً بهويتي وفخراً بحكايات الرجولة والنخوة وسائر مواصفات الفروسية، وان خالطتها روايات الثأر وجرائم الدفاع عن الشرف التي لا يمكن تبريرها الا إذا كنت منهم.

كنت اطرب للعتابا والفراقيات واغاني الفخر يترنم بها والدي، وقد يعقد جلسات السماع، داعياً بعض اصدقائه من الشعراء الشعبيين، فتنطلق آهات الاعجاب من الجمهور المعدود، وقد يأتي بعض الجيران للاستماع والاستمتاع..

لكن بعلبك تبقى بعيدة عن ابن الدركي، لا يصلنا عنها الا اخبار الجريمة والحشيش وحكايات المطلوبين، ووقف الأباء اذلاء امام بيوت الزعماء والنافذين بطلب الوساطة لتعيين ابنائهم في الدولة، دركيين او متطوعين في الجيش أو مأموري احراش او حرساً على ابواب المؤسسات الرسمية.

كانت المدارس الرسمية أقل من حاجة الاهلين، وهي تتوقف، في الغالب الاعم، عند المستوى التكميلي، ويكون على الناجحين من الطلاب أن يقصدوا المدن البعيدة، ولا وسائل مواصلات، وان يسكنوا فيها مكبدين اهلهم فوق ما يطيقون.. او أن ينتظروا دورة درك او جيش او أي سلك عسكري مثل الامن العام او الجمارك، او أي عمل في شركة او مؤسسة، ليتمكنوا من اكمال الدراسة، بكلفة يمكن احتمالها، او الرضا بما قدر لهم والاستسلام للمكتوب.

لقد حفر اجيال ثلاثة او اربعة في الصخر ليتمكنوا من اتمام الدراسات العليا.. ولولا الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية اساسا، بعد غياب جمال عبد الناصر واقفال ابواب الجامعات المصرية امام قاصديها، ثم دمشق وشهادة الموحدة، لما نالت اجيال من البعلبكيين فرصة التعليم الجامعي..

يمكن أن نضيف هنا المنح الدراسية التي قدمتها مؤسسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، خصوصاً وأنها فتحت ابواب المؤسسات التعليمية الكبرى في الغرب، فرنسا والولايات المتحدة الاميركية، امام الطلاب الفقراء الوافدين من انحاء لبنان جميعاً، بيروت والجبل والجنوب والبقاع عموماً ومن ضمنه بعلبك.

*****

نشأت غريبا، وانا يافع. تعرفت إلى جبل لبنان، الشوف بعنوان رشميا وبعقلين ودير القمر والمختارة، ثم بحمدون وصوفر، قبل الوصول إلى المتين… ومن بعدها كان على الرقيب في الدرك أن ينتقل إلى طرابلس والدعتور فالمنية فالعبده، فتصير بعلبك ابعد فأبعد حتى تستقر في الاحلام.

..ومن ثم اخذتني الصحافة في احضانها، فأوصلتني إلى اطراف الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، فعرفت مصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب، ثم عرفت اليمن والسعودية وانحاء الخليج كافة، والعراق وسوريا..

وظلت بعلبك، المدينة واهلها فيها ومن حولها حتى الهرمل مروراً باللبوة، وفوقها عرسال وبعدها راس بعلبك والقاع، وفي الجهة الاخرة شليفا ودير الاحمر، وصولاً إلى بشري، تسكن الخيال.. ازورها خطفاً، وما انا بسائح، واتجول فيها غريباً وانا ابنها، تكاد تنكرني واخجل من جهلي بجغرافيتها وطبائع اهلها..

وحتى عندما كلفت، كصحافي، بالتجول فيها، فإنما كانت المهمة اجراء تحقيقات عن الطفار، ابطال جرائم القتل الهاربين من وجه العدالة إلى الجرود.. في انتظار الشفاعات السياسية وتدخل رجال الدين.

*****

ذات مساء شتوي من العام 1982 زارني في مكتبي في “السفير” الفنان علي العبدالله ومعه شاب وسيم ينبض حيوية وفرحاً. قال لي: هذا من تبحث عنه، انه عنوان بعلبك، الرجولة والفرح، الفروسية والدبكة الاصيلة. انه علي حليحل.

سهرنا في غرفة النوم الاحتياطية، فوق مكتبي مباشرة.

ليلتها بدأت اعرف بعلبك في اصالتها وشموخها.

غنى علي حليحل، الذي كان في أول الطريق الشهرة، بعض أغانيه المختلفة بالسبك والمعنى.. ودبك كأمير الفوارس فأخذنا إلى ذرى النشوة، بشبابه وحيويته وابتساماته المشعة وخطواته الرشيقة، والتفافه من حول رفيقه، برشاقة تخطف الآه من صدرك مضمخة بالنشوة.

كانت تلك هي البداية والخطوة الاولى في الدخول إلى حرم بعلبك، الاصالة والفن والرجولة، الشعر الشعبي، عتابا وميجانا وقصيدا وحداء، والدبكة بما هي خطى ملكية، وحركة التفاف تعكس ليونة الجسد المتناغم مع الموسيقى، أما الحركة فبالكتف اساساً، وأما خبطة القدم فهي في خدمة الايقاع وليست الاساس. واللباس صايات تكمل التشكيل بتمايلها مع الخطوات، وهكذا تكتمل لوحة الابداع بالمنجيرة والايقاع بالطبلة الذي يجسم الحركة ولا يشاغب عليها بقرع الطبول الذي يغطي على الصوت.

وتقضي الامانة أن نشير إلى اننا حضرنا الحفلة البعلبكية الأولى لفرسان آل صلح بدعوة من الصديق نضال صلح، وكنت برفقة الصديق ملك دبيكة اهل الخيام الدكتور كامل مهنا..

على امتداد عمر، شرفت بصداقة إلى حد الاخوة مع اركان فرقة هياكل بعلبك، الذين كانوا مجموعة من الكهول الاكثر شباباً من الفتية، ابو يحيى، ملك الخطوة المنشية والكتفين اللذين إذا ما اهتزا اهتز القوم جميعاً، وعيني النسر في الوجه العريض بالشنبين الغليظين، تغمزان كنجمتين، وتلتفان فاذا النساء يغرقن في النشوة ويندفعن اليه وهو يعرض عنهن فيجذبهن اليه أكثر فأكثر.

إلى جانب ابي يحيى ابو ماجد الذي تظنه عجوزاً فاذا هو أكثر حيوية منك في شبابك، ثم ابو صالح، الذي لا يتعب، والذي يغتنم فرصة ابتعاد ابي يحيى متجولاً بين “عشيقاته” ليتولى “الحاشية” مبرهنا انه “الاول”. وسط الجميع يتحرك ابو رشيد بمنجارته التي تحول الشجن إلى طرب يجعلك تتمايل نشوة فوق مقعدك/ يغمرك شيء من الغيظ بانك لم تتعلم الدبكة في سنواتك الأولى لتكون مثلهم ومعهم.. وتخجل حين يأتونك طالبين أن تتولى الحاشية، فتغرق في حيائك مرتين: لأنك لا تعرف الدبكة وهي شرط الهوية البعلبكية، وتخجل من أن ترفع صوتك بغناء الرجولة الشجي، لأنك عشت عمرك في “الغربة” عن موطن غناء الفرح الذي يبكي الارامل والايامى واليتامى.

*****

كان هذا قبل أن يطل عمر حماده، كوريث مثقل بتراث الكبار، ليحول الهواة من ابناء الفلاحين الصناديد، إلى فرقة مميزة بأدائها الراقي اصالة واحترافاً وثقة بالتراث التاريخي الذي يستندون اليه وبآبائهم الميامين الذين اعادوا الاعتبار إلى الاصالة، وجعلوا الدبكة بخطواتها وتشكيلاتها فنا رفيعاً يستولد الحماسة ويذكرك بانك لست طارئاً على دنيا الفن والابداع.. ولو كنت من أفقر الفقراء معاشاً.

ولقد وجد عمر حماده والفرقة من يرعى هذا الجيل الجديد من المبدعين المستندين إلى كنز التراث وحفظته من “الختيارية” الذين كتبوا سطورا مضيئة في تاريخ مجدها ليعطوا الفرصة لأبنائهم من شباب بعلبك لكي يكملوا المشوار: الدكتور عبدالله الشل ومعه السيدة عقيلته.

وهكذا تحولت فرقة هياكل بعلبك إلى “مؤسسة” لها من يديرها، وينظم برنامج حفلاتها في الداخل والخارج.. والمؤسسة عبارة عن معهد تعليم وتدريب للراغبين في الانتماء إلى مدرسة صنع الفرح وابتداع النشوة بالأقدام الفتية والاجساد التي من موسيقى يرفدها خزين الرجولة بالزخم مستولد الفرح من قلب هموم التردي السياسي.

فرقة هياكل بعلبك اليوم أحد العناوين المضيئة للبنان بفن الفرح، والاعتزاز بالرجولة، وحفظ التراث الفني للآباء والاجداد، لباساً وقيافة وايقاعا وملامح الفروسية.

والفرقة المميزة بأصالتها تجوب انحاء الوطن العربي، والغرب، وقد بات لها مركز او معهد للتدريب في دبي… وتوفر لها علاقات الدكتور الشل فرصاً ممتازة لعرض ابداعاتها في بعض عواصم الغرب.

حيا الله بعلبك والبعلبكيين الذين يعطون ولا يأخذون وينشرون الفرح وهم غارقون في هموم عيشهم الثقيلة.

شكراً للدكتور عبدالله الشل وقرينته الاميرة على جهدهما الطيب لرفع الركام عن صورة الفن الاصيل والعطاء بلا منة وبلا طلب مكافأة او شكر، وتقديم بعلبك، بمواهبها وقدراتها الثقافية والفنية.

فبعلبك ليست الهياكل التي يزورها السواح، او الاهل من اللبنانيين، مرة في العام، ليسهروا مع المطربين الوافدين والراقصين الاجانب، ثم يغادروها مسرعين، ليعودوا إلى مدنهم وقراهم، فرحين بانهم لم يتوقفوا امام حاجز خطف مقابل الخوة، ولم يغرقوا في طوفان الحشيشة، ولم يتعرض لهم احد من اهلها بغير الترحيب والاكرام.

بعلبك قبل القلعة وبعدها بلد العلماء والشعراء والفنانين الكبار، رسماً ونحتاً، بعنوان رفيق شرف، وخليل مطران وسليم حيدر.. ويمكن أن نضيف وفرقة هياكل بعلبك، وامير شعرائها علي حليحل الذي لو تفرغ للفن لكان اروع من دبك واطرب من غنى..

حمى الله بعلبك من مشوهي سمعتها ورميها بالخبيث من الالقاب، وهي منبع الاصالة في الشعر والشعر الشعبي ودبكة الفرح، ومرتع الرجولة في مقاومة المستعمر والغلط بعد الاستقلال… وان بقيت ترتع في فقرها والاهمال الرسمي وتجاهل مطالبها في كل الازمنة، على تقلب الحكام والمسؤولين وزراء ونواباً قد يخجلون بانتسابهم اليها.

ولعل مدينة بعلبك قد وفقت، اخيراً برئيس بلديتها ـ العميد حسين اللقيس، الذي جاءها بعد خدمة العلم، حيث أمضى زهرة شبابه في الجيش، مثالاً للتفاني والاخلاص وصدق المعاملة.

وهو اليوم يسعى بكامل طاقته لإنعاش بعلبك واسقاط الحرم الذي منع عنها الامكانات للتقدم بها نحو المكانة اللائقة بها، وهي بين امهات التاريخ وموائل المجد وحواضر التقدم والفروسية.

مدينة الشمس هي.

مدينة الشعر والحداء ودبكة الرجولة،

مدينة الفرح، برغم البؤس المفروض والاهمال المقصود..

ولسوف تنهض بعلبك، مجدداً، إلى دورها في صنع فرح الرجولة والاعتزاز بالأصل والمنبت والوطن الذي ينكرها فلا يستذكرها الا في مناسبات الاعتزاز بتاريخ غيره.

وينسى من ماتوا تحت اعمدتها ليرفعوها، ومن احتفظوا بروح الفرح ليمكنهم أن يكملوا حياتهم في الدولة التي تنساهم دهراً ثم تستذكرهم لتتباهى بالأعمدة الشاهقة متناسية من بناها بلحم اكتافهم ورفعها اعمدة للسماء حتى لا يسقط القمر ارضا وهو يشارك شبابها وشبانها الدبكة على وقع “يا مية هلا، طلوا من الجردين سمر المى، مبرشمين الخيل، يا مية هلا”..

* طلال سلمان في تكريم "السفير"

تعليقات: