لبنان أرض مستباحة للجاسوسية ـ«الشريفة» وفق القانون الدولي

اصغر طائرة تجسس
اصغر طائرة تجسس


ما هي القواعد التي تحكم عمل السفراء والدبلوماسيين في العالم؟

زادت الازمة السياسية الحالية إلى ثقافة النخب السياسية اللبنانية ثقافة سياسية جديدة يطلق عليها تسمية ثقافة «السفراء والقناصل» التي استمدت من نهج التدخل الدولي في لبنان، وتتألف بشكل أساسي من التبادل النشيط للوشوشات والثرثرات والشائعات بين رجال السلك الدبلوماسي وهذه النخب.

ما يحصل الآن في لبنان لا يختلف في جوهره وشكله عما كان يحصل في الماضي من أزمات منذ نظام القائمقاميتين إلى نظام المتصرفية مرورا بالانتداب الفرنسي وصولا إلى عهد الميثاق الوطني وانتهاء باتفاق الطائف وحتى الآن. كان سفراء الدول الكبرى يشكلون دائما محور الحياة السياسية، فأسهموا في زيادة التوتر بين الطوائف عن طريق تدخلاتهم المستمرة ومساعدتهم لنصرة قضايا متضاربة، الأمر الذي أساء إلى سمعة الدبلوماسي ونشر أجواء ضبابية مرفقة بكمّ من الشك والريبة حول مهمته التي اتسمت بالنفاق والجاسوسية والتآمر، كما يقول أحد كبار رجال السياسة والدبلوماسية في بريطانيا السير هنري ووتون، معرفا السفير بقوله بأنه «رجل شريف تبعث به دولته، ليمتهن الكذب خارج بلاده، في سبيل مصلحتها». كما ان فولتير أطلق على هذه المهنة في القرن الثامن عشر لقب «الجاسوسية الشريفة».

ولشدة نظرة الريبة تجاه السفراء والدبلوماسيين، عمدت الدول والحكومات منذ القرون الماضية إلى اتخاذ خطوات وقائية، فأصدرت قوانين ومراسيم وسنت تشريعات تحظر الاتصال بهم من قبل غير المسؤولين المعنيين، منها المرسوم الذي صدر في العام 1482 في البندقية والذي قضى بنفي أي مواطن يتحدث إلى الدبلوماسيين الأجانب في الشؤون العامة للدولة وبإلزامه بدفع غرامة مالية معينة.

أما انكلترا فكانت أكثر تشددا، إذ انه حتى العام 1635 كان محرما على عضو البرلمان أن يتحدث إلى السفراء الأجانب، وإلا تعرض لفقدان منصبه. كما أن حكومة موسكو في ذلك العهد عاملت السفراء معاملة أسرى الحرب، في حين أن بولونيا أرادت في القرن الثامن عشر طرد جميع الدبلوماسيين المعتمدين لديها.

هذه المزايا التي اتسم بها السفراء في الماضي لم تتلاش وظلت ملازمة لهم، بالرغم من تطور العمل الدبلوماسي بين الدول والأمم وتنظيمه في قواعد وقوانين تحدد حقوقه والتزاماته انطلاقا من احترام مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، لا سيما مبدأ المساواة في السيادة وتنمية العلاقات الودية بينها. وقد تجسد هذا الأمر في عدد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية وفي مقدمتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية ,1961 والتي تعتبر المصدر الأول والأساسي للقانون الدبلوماسي حيث دخلت حيز التطبيق في العام 1964 بعدما وقعتها 71 دولة، لينضم لبنان إليها في 26/11/.1970

اتفاقية فيينا

أولت اتفاقية «فيينا» لمفهوم السيادة أهمية خاصة، وألزمت الدول «الكبرى» ضرورة احترامه والكف عن التدخل في شؤون غيرها، إلا ان تعارض هذا المفهوم مع مصالح هذه الدول وأهدافها السياسية والاستراتيجية جعل منه مجرد مادة مدونة في دساتير الدول، أو شعارا يطلق في المناسبات الوطنية، نتيجة عدم الامتثال للاتفاقات المبينة أعلاه.

تنبثق هذه القاعدة (عدم التدخل) من مبدأ سيادة الدول على أقاليمها، وكذلك من مبدأ المساواة القانونية بين الدول. فالمساواة تعني عدم تمتع أي طرف بحق التدخل، لان هذا يتعارض مع الحصانات والامتيازات التي يتمتع بها الموظفون الدبلوماسيون، وقد أكدت على هذا المبدأ اتفاقية هافانا 1928 الموقعة بين الدول الاميركية واتفاقية فيينا. كما نصت عليه المادة 16 من مشروع معهد القانون الدولي الأميركي ,1925 المادة 16 من مشروع اللجنة الدولية للفقهاء الاميركيين عام ,1927 بالإضافة إلى المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الثانية ـ الفقرة الأولى التي نصت على أن «تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها»، والفقرة السابعة من الميثاق.

شواهد لبنانية

لكن وضوح هذا المبدأ وسلامته من الناحية النظرية لا يعني انه يطبق تلقائيا، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في لبنان حيث أمسى التدخل الدولي من قبل السفراء والموفدين مسلكا ونهجا ثابتا، لدرجة أن رجال السياسة يستمدون الآن جزءاً من سلطتهم من هذه السفارة أو تلك، أو من رئيس هذه الدولة أو تلك، سواء كان عربيا أو أجنبيا. فنصوص فيينا وسلوك السفراء ومواقفهم تبين ذلك من خلال الوقائع التالية:

تنص المادة 41 من اتفاقية فيينا في فقرتها الأولى على الآتي: «على جميع المتمتعين بالحصانات والامتيازات مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدولة المضيفة وأنظمتها وكذلك يجب عليهم عدم التدخل في شؤونها» (استغرب السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان في حديث لموقع ليبانون فايلز الالكتروني نشرته «السفير» في 20 تموز الماضي، طرح سؤال حول اكتمال النصاب لجلسة انتخاب الرئيس، متسائلا إذا ما كان هناك أكثر أهمية للنائب من انتخاب الرئيس، ولماذا قد يمتنع أحد النواب عن الحضور، معتبرا أن ترك مسؤولية من هذا النوع هو إهمال واجب أساسي، مضيفا أن الانتخاب بالأكثرية أفضل من الفراغ، مشيرا الى أن الدستور اللبناني لم يشرع لمكافأة محبذي الفراغ).

يتفرع عن هذه المادة بندان ينص الأول: «انه من غير الجائز لرئيس البعثة أن ينحاز إلى جانب حزب من الأحزاب أثناء الحملات الانتخابية التي تجرى في الدولة المضيفة» (السفير فيلتمان يتهم في حديث نشرته «النهار» في الأول من الشهر الجاري «أمل وحزب الله والنائب ميشال عون بخلق الفراغ الرئاسي»، مشيرا إلى رفض بري عقد جلسة لانتخاب الرئيس، مضيفا ان عون يستخدم الفراغ لتأجيج الاستياء الشعبي ضد الحكومة و14 آذار).

(السفير الفرنسي السابق برنار إيمييه في كلمة ألقاها في 9 تموز الماضي في حفل تكريمه في المختارة يقول مخاطبا النائب وليد جنبلاط: انظروا شرعية حكومتكم الشرعية والدستورية. مضيفا نحن معكم مع الحكومة مع 14 آذار والأكثرية الشجاعة).

ويجزم البند الثاني «بعدم جواز تعكير العلاقات بين الدولة المضيفة ودولة ثالثة» (فيلتمان تمنى في 20 تموز أيضا على سوريا سحب دعمها للقواعد الفلسطينية في الناعمة وقوسايا والتزام القرارات الدولية وضبط الحدود ومراقبتها لمنع تهريب الأسلحة ودخول الإرهابيين إلى لبنان).

اتفاقية هافانا

ولتجنب هذه المشاكل في العلاقات بين الدول، نصت الفقرة الثانية من المادة 41 على انه «يجب التعامل مع الدولة المضيفة بشأن الأعمال الرسمية التي تسندها الدولة الموفدة إلى البعثة، ان يجري مع وزارة خارجية الدولة المضيفة أو عن طريقها أو مع أي وزارة أخرى قد يتفق عليها». كما أكدت على ذلك المادة 13 من اتفاقية هافانا التي نصت على انه «يترتب على الموظفين الدبلوماسيين أن يوجهوا مراسلاتهم الرسمية مع وزارة أخرى أو سكرتير الدولة في البلد المعتمدين لديه».

هذه القاعدة تأخذ في اعتبارها ما يجري على أرض الواقع، وهو ان الملحقين المتخصصين في البعثة يتصلون مباشرة مع الوزارة المختصة، فلا يحق لبعثة وبمبادرة منها وبدون إذن من الهيئات المختصة أن تقوم في حالة الأزمات والحروب بتوزيع مساعدات على المواطنين في الدولة المضيفة (وزير الخارجية والمغتربين فوزي صلوخ يذكّر في تصريح له لـ«السفير» يوم الاثنين 3 كانون الأول البعثات الدبلوماسية بالأصول والأعراف الدبلوماسية، ويعتبر أن النهج الذي تتبعه غير مقبول، وينم عنه انتهاك لسيادة لبنان واحترام خصوصياته).

يذكر أن القاعدة المتعلقة بهذا الشأن والتي يجرى العمل بها في أميركا تقضي «بأن البعثات الدبلوماسية لا يحق لها الاتصال بأي من سلطات الدولة الداخلية عدا وزارة الخارجية».

إن مثل هذه التصرفات تعتبر انتهاكا صريحا واستباحة لسيادة الدولة المضيفة. وإذا ما انتهك أحد الموظفين هذه المبادئ فإن لهذا الأمر نتائج منها اعتبار الموظف المسؤول شخصا غير مرغوب فيه وحتى طرده من البلاد. ومن السوابق في هذا المجال طرد السفير البريطاني في واشنطن سنة 1888 لأنه بعث برسالة إلى حكومته يعلمها فيها عن المرشح للرئاسة الذي يعتبر انتخابه الأكثر ملاءمة لإقامة علاقات دبلوماسية طيبة بين بريطانيا وأميركا. فلو أرادت الحكومة اللبنانية أن تطبق هذا المبدأ لكان عليها أن تطرد غالبية السفراء من لبنان.

وفي ما يتعلق بالقوانين والأنظمة الداخلية المتعلقة بأنظمة الشرطة والأمن والنظام العام والأحكام المتعلقة بالسير وقيادة السيارات والمرور، أوجبت المادة 41 أيضا ضرورة احترامها والتقيد بها. (يتسنى دائما للمواطن في لبنان رؤية موكب أحد السفراء نظرا لسرعته وتخطيه إشارات المرور ومخالفته أحكام السير، إضافة إلى إثارة الهلع والرعب في نفوس المواطنين عند رؤيتهم أسلحة مرافقيهم توجه إليهم على مرأى أجهزة الامن التي لا حول لها ولا قوة).

في المقابل، تحرص الدول على احترام قوانينها وسلامة أرواح مواطنيها، وذلك ما حدث عام 1935 عندما قبضت السلطات الأميركية على السفير الإيراني لقيادته السيارة بسرعة جنونية، وكذلك القبض على سفير ألمانيا في واشنطن عام 1923 لانتهاكه قوانين المرور.

إن الدبلوماسي شخصية سياسية تتميز أو يجب أن تتميز بعدة مواهب منها: حدة الذكاء والقدرة الخارقة على الفهم والاستيعاب وسرعة الخاطر والبديهة وحسن التصرف والتعامل مع الغير في أوقات المآزق والأزمات. فهو في الخارج مرآة تعكس صورة الدولة التي يمثلها. إن إحدى أهم وظائفه هي تنمية العلاقات الودية بين الدولتين. وفي هذا الإطار يقارن نيكولسون (فقيه دبلوماسي) بين الدبلوماسيين والهواة بالقول «انه من المستحب أن يصّرف السياسة الخارجية لأي دولة كبيرة محترفون على دراية ومران في عملهم... وان الهواة كثيرا ما يثبتون أنهم غير أهل للاعتماد عليهم. لا يعزى الأمر الى مجرد افتقارهم إلى المعرفة والخبرة التي قد تؤذي حكوماتهم، بل إن الدبلوماسي الهاوي للغرور بسبب قصر مدة عمله هو عرضة للسعي وراء النصر السريع، ويميل بسبب عدم ثقته بنفسه إلى الشك العنيف والى التحمس بإفراط».

تعليقات: