فرسان القمر في لبنان بعد قطر ... عبد الحليم كركلا فنان المسرح الشامل

فرسان القمر
فرسان القمر


بيروت –

يسعى عبدالحليم كركلا في أعماله الأخيرة الى ما يُسمى «المسرح الشامل» رقصاً وغناءً وكوريغرافيا وتمثيلاً وسينوغرافيا، لكنّ مسرحه يظل أولاً وأخيراً مسرحاً راقصاً، ليس لأنه جاء العالم المشهدي من الرقص فحسب، بل لأن الرقص هو الأبجدية التي لا تمكن قراءة العرض الشامل إلا من خلالها. الرقص، أجل، هو الذي يطغى والراقصون بأجسادهم وحركتهم التعبيرية هم الذين يروون «الحكاية» ويكتبون التفاصيل والأبعاد والمعاني.

في «فرسان القمر» (مسرح كازينو لبنان) يجدد عبدالحليم كركلا لغته الراقصة ويمعن في بلورتها. هذا العرض الذي شاءه عربياً بل بدوياً بجوّه، وذا منحى فولكلوري خليجي تمثل خصوصاً في الصحراء وصيد اللؤلؤ، يجسد صورة متطورة لمسرح كركلا ولغته التي باتت تميّزه في عالم الرقص. لوحات كوريغرافية جميلة تتوالى بحسب الأفكار التي تحملها ضمن سياق «الحكاية». رقصات متتالية عمادها الحركة المتنامية، ترسمها أجساد الراقصات والراقصين على ايقاع الموسقى وعلى وقع الخطى المرسومة ببراعة وشفافية. راقصات وراقصون جدد في معظمهم، يمضي كركلا معهم في لعبة التحديث والابداع مستفيداً من نضارتهم واندفاعهم.

واللافت أن التجديد الذي سعى اليه كركلا لم يقتصر فقط على الرقص والكوريغرافيا (اليسار كركلا) والاخراج المسرحي (ايفان كركلا) بل شمل أيضاً السينوغرافيا (أوزيو فريجيديو) والسينوغرافيا الافتراضية (ايديوغاما). عالم باهر بعناصره كلها وقد تداخلت بعضها ببعض لتشكل لوحات متعاقبة لا تعرف التكرار لحظة ولا الرتابة. وكم بدت «الجدارية» المتحركة التي احتلت خلفية العرض الراقص بديعة بما مثلت من صور وأبعاد. انها السينوغرافيا الافتراضية التي تمنح مدى شاسعاً للمسرح وعليها تجسدت الصحراء بكثبانها ورمالها حيناً وبالقمر والسماء حيناً آخر وكذلك بالبحر والمراكب. وكم بدت رائعة لوحة صيادي اللؤلؤ والبحارة وقد تداخلت فيها أبعاد السينوغرافيا المسرحية والسينوغرافيا الافتراضية فبدا المسرح كأنه على شاطئ البحر. والسينوغرافيا أصلاً بدت جميلة وتمّ توظيفها لمصلحة العرض المسرحي الراقص، بين عالم داخلي وآخر خارجي مفتوح على السماء والصحراء... قناطر وأسوار تتحول دارة أو قصراً ثم سجناً. إنه التوظيف الجمالي لعناصر «الديكور» يحوّلها عناصر لأمكنة تتبدل وفق «الحكاية».

مسرحية راقصة وغنائية حافلة بالألوان والملابس البديعة التي وحده كركلا قادر على جعلها أجساداً فوق أجساد الراقصين. الملابس والأزياء المصممة بجمالية لا يشاءها كركلا بمثابة «ستار» يخفي حركة الراقصين، بل امتداداً لتلك الحركة وتلك الأجساد. إنها جزء من الحركة نفسها، بمداها البصري وألوانها الزاهية التي تضفي مساحة جمالية على العرض، مثلها مثل الأضواء الباهرة.

اعتمد عبدالحليم كركلا كعادته في بناء عروضه «حكاية» كتبها الشاعر طلال حيدر. والحكاية بدت هذه المرة «مبتدعة» لئلا أقول «مفتعلة»، حكاية ملك وولديه الأميرين وغجرية تُتّهم باغواء أحد الأميرين فيمرض ويختفي فتحاكم وتقتل. ثم تأتي ابنتها «سمر الليل» لتنتقم لها... ومن جهة أخرى تقوم قصة حب بين نور (هدى حداد) والأمير (ايلي شويري) والفارس (سيمون عبيد) ويظهر في الختام أن الأمير والفارس المتنافسين على حب نور هما شقيقان، وتنتهي الحكاية نهاية سعيدة. لعل الهنة الوحيدة في هذا العرض هو النص الدراماتورجي الذي كان يحتاج الى المزيد من النسج والبناء والتخييل فلا يبدو خفيفاً الى هذا الحد. حكاية تكاد تكون ساذجة ومكررة، مع أن طلال حيدر كتب قصائد جميلة بالعربية البدوية وقد أدتها هدى وايلي شويري وسيمون عبيد بمتانة وجمالية. أما الألحان والموسيقى فوضعها محمد رضا عليقولي وبدت جميلة وطالعة من روح التراث ولكن في طريقة محدثة. إلا أن عبدالحليم كركلا لا يحتاج الى عنصر «الحكاية» كثيراً ليبني عرضه الراقص.

إنه يجعل من «الحكاية» خيطاً داخلياً أو ذريعة سردية لينطلق في نسج الرقصات واللوحات الراقصة. وقد عرف هذا الفنان الرائد كيف يتخطى ضعف النص خالقاً ما يشبه الاحتفال الباهر. ولعل ضعف «الحكاية» أدى بدوره الى ضعف الشخصيات والمواقف الدرامية. وقد حاول ايفان كركلا انقاذ ما يمكن انقاذه معتمداً مخيّلته وعينه النفاذة كمخرج معني بالجماليات مقدار ما هو معنيّ بالبعد الدرامي.

قدّم عبدالحليم كركلا هذا العرض الجميل والصارخ في جماليته في الدوحة قبل أشهر، وانتجته «مؤسسة قطر» ولقي نجاحاً خليجياً كبيراً. ولم يشأ أن يحرم جمهوره اللبناني منه على رغم طابعه البدوي و «الخليجي» حكاية وأغاني وحوارات ومشـــاهد. وبدا العرض فعلاً يحمل ملامح جديدة ســواء من ناحية اللوحات الراقصة أم البعد المـــشهدي والبصري. وقد دمج كركلا ببراعته المعهودة بين اللحظة الراقصة المتفجرة حركة وعلامات واللحظة الغنائية – الدرامية ساعياً الى ترسيخ «المــسرح الشامل».

تعليقات: