الليرة اللبنانية تتعرّض لضغوط، ولكن..


دفعت المخاوف من العقوبات الأميركية والخوف على الليرة اللبنانية، مع إستمرار الخلاف السياسي على قانون الإنتخاب، إلى تجديد ولاية حاكم مصرف لبنان. هذا الأمرّ مُبرّر بالضغوطات على الليرة اللبنانية والعقوبات لكن بعوامل أخرى منها عدوان إسرائيلي على لبنان.

ظهر إلى العلن شبه إجماع على أن المخاوف من فرض عقوبات مصرفية أميركية على لبنان وإهتزاز سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي هي التي دفعت بالتجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لولاية جديدة. فالإلتزام بالمعايير الدولية المُتعلّقة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب كما والتطبيق "الناعم" للعقوبات الأميركية على حزب الله هي الدوافع التقنية التي إقتنعت بها الحكومة للتجّديد للحاكم لولاية جديدة.

إلا أن هناك دوافع أخرى كانت لتؤدّي إلى كوارث لو لم يتمّ التجديد لسلامة نذكر منها:

أولًا – تعيش الليرة اللبنانية تحت ضغوطات جمّة نتيجة إرتفاع الطلب الداخلي على الدولار الأميركي. هذا الإرتفاع سببه الوضع السياسي المُتأزّم وحالة الغموض التي واكبت مرحلة البحث بالتجديد للحاكم.

وتُظهرّ البيانات التاريخية أن مُتوسّط سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي على الفترة المُمّتدّة من 26 أيلول 2016 إلى 25 أيار 2017 هو 1510 ل.ل للدولار الواحد أي أعلى من المُعدّل الوسطي الذي وضعه مصرف لبنان وهو 1507.5 ل.ل للدولار الواحد. وتُشير هذه البيانات أيضًا إلى أن مصرف لبنان تدّخل بشكل تلقائي في كل مرّة وصل سعر صرف الليرة ما بين 1512 و1514 ل.ل للدولار الواحد.

وتُقدّر كلفة التدخلّ الشهري لمصرف لبنان بنحو 180 مليون دولار أميركي منذ أيلول 2016 وحتى اليوم أي بكلفة إجمالية 1.44 مليار دولار أميركي سببها الرئيسي التخبّط السياسي الذي سبق إنتخاب رئيس الجمهورية والفترة التي سبقت تشكيل الحكومة أضف إلى ذلك الخلاف المُحتدم حول قانون الإنتخاب والذي أثر على سعر صرف الليرة منذ أذار 2017 وحتّى اليوم.

وزاد الوضع بلبلة الغموض الذي لفّ نيّة الحكومة التجديد لرياض سلامة لما لشخصه من إرتباط بثبات سعر صرف الليرة اللبنانية. وعدم التجديد لسلامة كان ليزيد من الخسائر ويبدأ بأكل الإحتياط بشكل أوتوماتيكي شبيه بالسيناريو المصري.

من هنا نرى أن التجديد لرياض سلامة لولاية جديدة سيُشكّل عامل ضغط مُعاكس على الليرة اللبنانية التي من المُتوقّع أن يزيد الطلب عليها من قبل المُستثمرين بحكم سعر الفائدة المُرتفع وثبات سلامة في موقعه.

ثانيًا – المخاوف من تداعيات العقوبات الأميركية على لبنان وعلى قطاعه المصرفي كبيرة وجدّية. وحزم الإدارة الأميركية في هذا الموضع واضح وجدّي بدليل أن الوفد اللبناني إلى الولايات المُتحدة الأميركية لم يتوصّل حتى الساعة إلى أي نتائج ملموسة من ناحية تخفيف هذه التداعيات.

من هنا يأتي دور رياض سلامة الذي أثبت للأميركين أنه قادر على تطبيق العقوبات (بإعتراف الكونغرس الأميركي) وأثبت داخليًا أنه قادر على تفادي المواجهات الداخلية الناتجة عن التطبيق العنيف للعقوبات. وبالتالي وعلى الرغم من خطورة آلية تطبيق العقوبات المُتوقّعة في العقوبات الأميركية وشمول أسماء جديدة لها رمزيتها في المشهد السياسي اللبناني، فإن رياض سلامة قادر على تطبيق العقوبات مع إحتفاظه بهامش تحرّك سيستحصل عليه من الأميركيين نظرًا لثقتهم به وهذا الهامش لن يستحصل عليه إلا شخص تثق الإدارة الأميركية بأنه يلتزم بما يقول.

ثالثًا – المخاوف من عدوان إسرائيلي جديد على لبنان شبيه بعدوان 2006 مما يعني أن الإقتصاد اللبناني سيتعرّض لركود بأحسن الأحوال وإنكماش في أسوأ الأحوال. ومع هذا التطور سيتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية بحكم أنها تعكس حجم الإقتصاد اللبناني. لذا من كان أفضل من رياض سلامة الذي خاض حرب المحافظة على سعر صرف الليرة اللبنانية في العام 2006 ليعاود الكرّة خصوصًا أن هندساته المالية رفعت إحتياط المركزي إلى أكثر من 40 مليار دولار أميركي من العملات الأجنبية.

رابعًا – لا تُعطي الصحافة القطاع العقاري حقه وهو الذي يعيش في حالة ركود بدأت بالتأثير الجدّي على الملاءة المالية للعديد من المُطوّرين العقاريين والمُستثمرين. والقطاع المصرفي مُتعرّض بشكل كبير للقطاع العقاري (17% من القروض للقطاع الخاص تطال العقارات) مما يعني أن أي هزّة في القطاع العقاري ستنسحب تلقائيًا على القطاع المصرفي. من هنا نرى أن رياض سلامة الضالع بهذه العلاقة منذ أكثر من عقدين يعي تمامًا هذه المُشكلة ويُتقن تقنيات حماية القطاع العقاري من أية فقاعات.

خامسًا – من المعروف أن الأسواق المالية والقطاع المصرفي يحكمون على المصارف المركزية بحسب مصداقيتهم. وكلمة مصداقية تعني أن الحاكم المركزي يُعلن عما سيفعله ويُنفذّ ما أعلن عنه. وأي تمايز بين ما يقوله الحاكم وما يُنفذّه يؤدّي إلى فقدان الثقة بالمصرف المركزي وبالليرة اللبنانية. اليوم ومع حالة عدم الثبات السياسي التي يعيشها لبنان والمخاطر التي تعصف بالليرة اللبنانية والقطاع المصرفي ككلّ، فإن تغيير شخص حاكم مصرف لبنان كان ليؤدي إلى عدم تناغم بين المصرف المركزي والمصارف التجارية لما لهذا التناغم من أهمية في الحفاظ على الليرة اللبنانية. وبالتالي فإن إستمرارية الحاكم تعفي من خطر عدم ثقة الأسواق بالمصرف المركزي (وهذا الأمر يصح كائنًا من كان حاكم المصرف المركزي).

إننا إذ نرى في التجديد لحاكم مصرف لبنان تأكيد على حكمة فخامة رئيس الجمهورية وصوابية قرارات الحكومة مُجتمعة، نؤكد على أن عدم الإتفاق السياسي على قانون إنتخاب جديد وعلى إستراتيجية إقتصادية تبقى الخطر الأول على الكيان اللبناني وعلى المهمات التي سيقودها سلامة في ولايته الجديدة.


البروفسور جاسم عجاقة- خبير اقتصادي واستراتيجي
البروفسور جاسم عجاقة- خبير اقتصادي واستراتيجي


تعليقات: