أبو هزار قيمة اجتماعية، إنسانيّة وفكريّة

الدكتور يوسف غزاوي: أبو هزار كان إنساناً نهماً للفن والثقافة والأدب والتاريخ
الدكتور يوسف غزاوي: أبو هزار كان إنساناً نهماً للفن والثقافة والأدب والتاريخ


مهما قِيل عن أبي هزار يبقى ناقصاً؛ في كل مرّة كنتُ أذهب فيها إلى الخيام أحسّ أنني وحيد، لا أصدقاء لي؛ فمن جايلني لم يعد موجوداً سواء بسبب تقادم الزمن والنسيان، أو بسبب اختلاف الاهتمامات، أو بسبب سفر البعض إلى بلاد الله الواسعة للاستقرار فيها، ولا يعود إلا غريباً أو محمولاً، أو بسبب سفر البعض الآخر المقيم في البلدة إلى العالم الآخر حيث السكينة والهدوء والعدم..

وحده، أبو هزار كنتُ على موعد شبه دائم معه. أزوره جالساً على بلكون منزله في الحارة الشرقيّة متأبطاً أفكاره وهمومه مرتشفاً القهوة وحيداً، أو مع أصدقاء له، أو مع رفيقة دربه أم هزار كعصفورين جميلين. يراني فتهتز أطرافه فرحاً مومِئاً لي بالحضور لأشاركه رؤية حركة الناس في الشارع، رافعاً يديه بشكل دائم لمن يمرّ، فهو يعرف الجميع، ويحبّ الجميع، ويمارس عادات أهل القرى بالترحاب والسلام والدعوة إلى المجالسة وشرب القهوة..

كنا نتبادل الأحاديث المختلفة بعد أن يسألني عن جديدي الفني والبحثي والتعليمي والوظيفي، وأسأل، بدوري، عن صحته، فيجيب شاكياً بعض الآلام والمشاكل الصحيّة العارضة، فكنا نتهمه بالمبالغة في ذلك. أسأله عن جديده، فيقرأ لي ما كتبه في صحيفة السفير في زاوية "نحن معك" أو خواطر أخرى. يحلّل الأحداث، ويذكر الخيام ومشاكلها وما تعانيه، وما يجب عمله لحلّ تلك المشاكل، يأتي على رأسها الصرف الصحّيّ التي تعاني منه الخيام صيفاً بوجود البرغش المؤرّق لليالي المواطنين..

عند إقامتي لمعرض فرديّ أقصده، فهو يعرف الجميع. نبدأ بكتابة الدعوات للافتتاح، فلأهل الخيام حصّة الأسد في الحضور. يأخذ الدعوات ويتعهّد بتوزيعها، وهذا ما كان يحصل، فرحاً مندفعاً كوالد يدعو إلى زفاف ابنه..

قرأ كتابي "غرنيكا الخيام.." كلمة كلمة. أبدى إعجابه الشديد به، ودوّن لي بعض الملاحضات التي لم أستلمها منه، ولم أطّلع عليها لتخاذل منّي..

لم يكن فارق السنّ عائقاً أمام تواصلنا الفكري والاجتماعي. كان بمثابة الأخ الأكبر والوالد والصديق المحبّ الحنون...

كان يفيض حياة وأملاً وسعادة وحركة دائمة لا تستكين. إذا لم تجده في منزله الخياميّ يكن في زيارة لصديق له، أو يمارس رياضة المشي، أو محتضناً كتاباً أو مجلة في "مكتبة البركة"، التي أصرّ على تسميتها "مكتبة المربّي أبي هزار"، في المدرسة الرسميّة القريبة لمنزله مطالعاً ومتزوّداً بالأخبار والأحداث والقصص وكل ما هو جديد على الصعيد السياسي والاجتماعي والوطني والعلمي...

عندما ألتقيه يخبرني بأنه حصل على منشور فنيّ لعمل فنان عالميّ حديث، وقام بتعليقه في منزله في حارة حريك بعد أن وضع إطاراً جميلاً له.. تعرّف إلى أعمال الفنانين العالميين: بوللوك، روتكو، كاندنسكي، كلي، شاغال، وميرو... وغيرهم الكثير.

إنسان نهم للفن والثقافة والأدب والتاريخ... لكنّه الموت يأبى إلا أن ينغص علينا عشق هذه الحياة لسرّ إلهيّ لا نعلمه، ولن نعلمه..

في أحد الأفلام الأجنبيّة التاريخيّة المشهورة "طروادة" يخاطب البطل "آخيل" أسيرته "براسيس" قائلاً: "سأفشي لك سرّاً لا يعرفه الآخرون، وهو أنّ الآلهة تحسدنا نحن البشر... لأننا نموت"..

الموت جزء من هذه الحياة يا أبو هزار، وأعتقد أنك تدرك جيّداً ما أعنيه، وقد توافقني عليه في هذا العالم المجنون والوطن القاتل..

أ.د. يوس غزاوي

أبو هزار عبد الأمير مهنا.. قيمة اجتماعية، إنسانيّة وفكريّة
أبو هزار عبد الأمير مهنا.. قيمة اجتماعية، إنسانيّة وفكريّة


تعليقات: