رغيد الصلح... العذب الذي لبنانُه العروبة العلمانية الخلاقة

كان رغيد الصلح مناضلاً شريفاً وعروبياً شريفاً. آمن بالعروبة شعاراً حضاريا علمانياً، ورسالة انفتاح وتسامح، وهوية مجردة من ألوان العصبيات الهدامة، بخلاف آخرين من أهل السياسة والعقائد والتنظير، وما أكثرهم في دنيانا العربية، الذين أساؤوا إلى هذه الهوية، وجعلوها "مسخرة" حيناً و"بعبعاً" حيناً آخر. أستخدمُ هنا صفة "المناضل" ومفردة "العروبة" من دون تحفظ، لأني أتحدث عن رجل كان جميلاً ونظيفاً، وكان فوق ذلك كله خلوقاً مهذباً، وصاحب سيرة من أبهى السير التي نجلّها عن مهاجرين منا، يتركون بلادهم بحثاً عن العلم والمعرفة، في بلاد العلوم والمعارف، حتى إذا ما اكتسبوا من ذلك بمقدار، وظّفوا ما اكتسبوه في خدمة شعوبهم وبلادهم.

ليست سيرة رغيد الصلح، وفكره ونضاله، ما يدفعني إلى الكتابة عنه فحسب، بل شيء آخر، هو رغيد الإنسان، الذي أحب الناس وأحبه الناس، لأنه كان وفياً لما آمن به في الحياة والعمل. قابلته للمرة الأولى في منتصف السبعينات. كنت يومها طالباً في إحدى الكليات في لندن، وكان هو جامعياً في أوكسفورد، وقد أتى إليها من لبنان الحرب الأهلية. لم يكن رغيد الصلح من عشرائي الدائمين، بسبب المسافة بين لندن حيث كنت أقيم، ومقر إقامته في أوكسفورد، لكني كنت ألقاه في مناسبات عامة كلما وفد إلى العاصمة. كان بشوشاً مهذباً عذب الحديث، وكان أنيقاً في ملبسه. لا أذكر أني رأيته يوماً إلا وهو مرتد بدلة من الصوف، تليق به وتطبع في ذهن من يراه، صورة تقليدية لطالب مجتهد من طلاب جامعة تلك المدينة العريقة، يدرسون على مصنّفين وباحثين كبار، ويكتسبون الكثير من خصالهم في التفكير والمظهر. بقيت هذه الصورة في ذهني عنه، منذ المرة الأولى التي تقابلنا فيها، إلى آخر يوم شاهدته فيه قبل شهرين تقريباً، وكان ذلك في "دار الندوة" بمنطقة الحمراء في بيروت.

كان رغيد يأتي إلى لندن من أوكسفورد بين حين وآخر، ليقابل أصدقاء وأقارب، أو يشارك في ندوة أو مؤتمر، من ندوات ومؤتمرات العمل العربي المشترك، أو لزيارة مكاتب صحيفة "الحياة" التي كنت أعمل فيها، وكان هو يكتب فيها مقالاته السياسية والاجتماعية. في مكاتب تلك الصحيفة كنت أراه، كما في الندوات والمؤتمرات، ومناسبات عيد الإستقلال السنوية التي كانت تحييها السفارة اللبنانية. كان رغيد حزبياً وناشطاً سياسياً، وقد أخبرني شقيقه خلدون قبل أيام أنه، أي رغيد، لم يترك تظاهرة في بيروت ترفع شعارات حقوق وطنية وتربوية واجتماعية إلا شارك فيها. كان ذلك بالطبع، زمن النضال والأحلام العذاب، بين مطلع الستينات، إلى اليوم الذي اندلعت فيه حرب الجنون سنة 1975. بعدها سافر الشاب الطموح إلى إنكلترا ليلتحق بجامعتها الشهيرة في أوكسفورد، ويدرس على أساتذتها الكبار، ومنهم الأكاديمي البريطاني اللبناني المعروف ألبرت حوراني.

كان رغيد الصلح رجلاً في غاية التواضع. لم يعرف الإدعاء، ولم تفتنه المظاهر، وبقيت لهجته بيروتية صرفة فيها غنّة دمشقية، وذلك على رغم السنوات الطويلة التي عاشها في إنكلترا. كانت منطقة رأس بيروت، مهد تلك اللهجة، وأحب مناطق لبنان إليه وآثرها عنده، شأنه في ذلك شأن ابن عمه الراحل منح الصلح، الذي كان هو الآخر، من سكان تلك المنطقة الدائمين، ومن ندامى مقاهيها المعروفة. ربما تكون هذه المنطقة في لبنان، بما تتميز به من مناخ حر إنساني فريد من نوعه في لبنان والشرق، هي التي كوّنت خصال رغيد الصلح وطبيعته، ودقائق شخصيته، وروح التسامح التي بقي متحلياً بها كل حياته. يكفي التدليل، قول المؤرخ الراحل كمال الصليبي في حوار شائق كان الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر أجراه معه، ونشره في كتاب عنوانه "الهرطوقي الحكيم". في الكتاب يقول الصليبي: "عندما كنت أعلّم في أوكسفورد، كان هناك شاب لطيف اسمه رغيد الصلح. قلت له مرة: أمضيت حياتي وأنا أتكلم على الموارنة ومسيحيي الشرق، لكن هذه المرة سأذهب إلى مؤتمر في جامعة فيلادلفيا وأتحدث عن البروتستانت، فضحك. قلت له: لماذا تضحك؟ أجاب: ليس عليّ أن أضحك، بل يجب أن تتناولهم بالحديث بالتأكيد. قلت له: لماذا؟ قال: لأن العالم العربي من دون بيروت ما قيمته؟ وبيروت من دون رأس بيروت لا قيمة لها، ورأس بيروت من دون البروتستانت، والجامعة الأميركية لا تساوي شيئاً"!

قد يُستحسن التذكير هنا أن رغيد الصلح، الذي ولد في دمشق في العام 1942، كان من أشد المؤمنين بلبنان وطناً عربياً، وقد جسّد ذلك في كتابه "لبنان والعروبة: الهوية اللبنانية وتكوين الدولة". لم يرد أن تكون العروبة التي عشقها قاتلة للتعدد، بل استشرفها هوية حاضنة لكل المكوّنات الثقافية والروحية في لبنان وغير لبنان من أقطار العالم العربي. أراد أن يكون لبنان بما له من مكوّنات، رافداً يغذّي العروبة العلمانية، وكان رغيد خير ممثل ورسول لذلك، بحكم ما كان له من موقع مميز، في الندوات الفكرية والقومية والوطنية، وكتاباته الغزيرة في كثير من الصحف، ومنها "الحياة"، التي بقي يكتب فيها حتى آخر أيامه. لم تكن كتاباته سهلة. كانت من النوع الذي يغلب عليه التأني والبحث، والذين قرأوه، ولا يزالون يقرأونه، يدركون كم من الجهد كان ينفق، لتكون المقالة أو الدراسة، غنية بالمعلومات التي يحتاجها القارئ، والكاتب والسياسي، وطلاب العلوم السياسية.

لكلٍّ منا رأي قد يكون مخالفاً لرأي الأقلية أو الغالبية، بسبب تغاير خلفية كلٍّ منا، واختلاف البيت الأول والمدرسة الأولى، ومدرسة الحياة في ما بعد. وقد لا يتفق أحدنا مع رغيد الصلح، في مسائل وطنية وقومية كتبها في غير صحيفة وكتاب، وقالها على غير منبر، لكن لا أحد منا، لم يحب رغيد الصلح، ويعترف له بالنباهة، ويقر بأنه كان كاتباً سياسياً رصيناً، وباحثاً مرموقاً. ولا شك في أن الذين عرفوا رغيد الصلح، والذين قرأوا له من الكتب والمقالات وهي كثيرة، سيفتقدونه كثيراً، كما أهله والمقربون، لأنه كان مثقفاً ومجتهداً، وكاتباً جريئا على اختلاف رأينا في ما كتب، ذلك لأن العاملين في ميادين الفكر والسياسة، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يرضوا الناس كافة، وهم مهما جهدوا في ذلك، لا بد أن يخرج من الجموع من يخالفهم الرأي والقول. تلك هي سنّة الحياة، سواء شاء البشر أم أبوا. ما يشفع للراحل رغيد، أنه كان فاعلاً في شؤون العمل العربي المشترك، ومؤمناً بقضايا بلاده وأمته، إيماناً صافياً لا تشوبه شائبة. عمل لها بشرف وثبات وأمانة، وكان رجلاًَ باسماً لا تفارق الابتسامة وجهه، وإنساناً نبيلاً بكل معنى الكلمة.

تعليقات: