اللواء فرنسوا الحاج يجمع لبنان ويمضي إلى ثرى الجنوب شهيداً

حزن في رميش
حزن في رميش


حشود شعبية عفوية في وداع «القائد» والجيش يدعو إلى «مصالحة من دون شـروط»

قبل أن تمضي ثماني وأربعين ساعة على جريمة بعبدا، تبلّغ مدير العمليات في الجيش فرنسوا الحاج أمر اليوم، لبس البذلة المرقطة ومضى لينجز آخر مهماته.

باكراً، قرابة السابعة صباحاً، تأهّب الجيش وتماسك العسكريون رغم الانكسار الذي كشفته عيونهم المغرورقة بالدموع، ليودعوا عميداً عرفه معظمهم عن قرب وخبروا حلو الحياة العسكرية ومرها برفقته.

ومع إطلالة الحاج ومرافقه خير الله هدوان من على مدخل المستشفى العسكري علت الصرخة، التي تحولت عنواناً ليوم أمس. «الله معك يا بطل» قالها أحد العسكريين، وتبعه جمع المحتشدين شمال المستشفى، الذي لفه الجيش بحنان غاضب، كأن كل عسكري يشعر بأن من يسجّى في النعش يعنيه كثيراً بطريقة أو أخرى. وأطلت عروق الجنود تشي بشدة غضبهم من اغتيال زميلهم، وسرعان ما خبطت أرجلهم الأرض وقفزت أياديهم إلى يمين جباههم تؤدي تحية الوداع لسيّد المغاوير. وتثاقلت السيوف في أيادي الرجال فرفعها زملاء «ابن رميش» ببطء كأن أياديهم الخارجة صوب السماء تعبر قلوبهم وتتلمّس أصابعهم الجروح البالغة.

ومن المستشفى العسكري، حيث خطف محمد ابن الرقيب الأول الشهيد خير الله هدوان بانكساره أمام نعش والده كل الأضواء وزاد من قساوة الاغتيال، توجّه موكب الحاج إلى منزله في بعبدا حيث كان زملاء الضابط الودود وجيرانه وأقرباؤه ينتظرونه ليسرّوا له كل على حدة بما استصعبوا قوله سابقاً أو عجزوا عنه. وقبل أن ينهي جمع بعبدا وقفته مع العميد الذي نزل عليه الأرزّ من كل حدب وصوب حتّى بدا الأرزّ أكثر من الأمطار الغزيرة، اتجه أهل البذلات المرقطة صوب ساحة الجريمة حيث هرع محبو العماد المنتظر ليأخذوا النعش الملفوف بالعلم اللبناني والورود والأمطار عن سواعد رفاقهم ويرقصوا به مردّدين «ولا يهمك يا بطل». وفي غمرة الحزن، كانت نظرات العسكريين تتنقّل بين النعش والحفرة التي خلّفها الانفجار كأنهم يريدون إشباع الغضب الساكن داخلهم.

ومن بعبدا إلى حريصا، فتح الأوتوستراد الشمالي مداه ليخرق الحاج السيول وسط اللافتات والأيادي التي هرعت إلى طرف الطريق تلوّح له بالعلم اللبناني والفولارات البرتقالية. وتكامل صوت الرعد مع قرع الأجراس ودوي القذائف المدفعية، كما تكاملت صورة الأرز والأمطار عند مدخل جونية، بلدة فؤاد شهاب القائد الأول للجيش.

اليرزة في حريصا

في الطريق إلى حريصا، بدا أن التظاهرة عسكرية هذه المرة، والجيش الذي اعتاد مراقبة الحدث عن بعد طوال السنتين الماضيتين كان هو الحدث أمس. فنزل بمعظم عديده يملأ الطرق المؤدية إلى حريصا، وعلى عكس جنازات السياسيين أخيراً، ألبس الحزن طباع العسكريين فكان جدياً جداً. وتداخل قرع أجراس بازيليك سيدة لبنان بموسيقى ترانيم الوداع التي عزفتها فرقة الموسيقى في الجيش في باحة الكنيسة رغم التساقط الغزير للأمطار. وفيما الكل ينتظر قائد الجيش المنتظر دخل قائد الجيش السابق العماد ميشال عون فوقف له طلاب من المدرسة الحربية، وجنود وضباط تفاعلوا مع التصفيق الذي ملأ القاعة المرقطة، وبدا العماد وسط العسكر ضعيفاً، يشاركهم مر فقدان العميد الذي كثيراً ما جاهر بإعجابه بمواصفات عون العسكرية. وبعد دقائق دخلت أرملة الحاج ليتبعها «الزوج الحنون» بعد ثلاث دقائق في دخول اهتزت له القاعة ودفع بأهل النجوم إلى وضع التقاليد جانباً والهتاف لبطل المعارك في القليعات ونهر البارد والجنوب. وإذ بدا من النعش الذي سجي في وسط الكنيسة أن أوسمة الحاج الستة عشر ازدادت واحداً هو وسام الشهادة، عاد أبناء اليرزة ليقاطعوا ترانيم جوقة سيدة لبنان بتصفيق حزين لقائد الجيش الداخل هذه المرة إلى الكنيسة والقلق يغطي محياه، وخصوصاً أن الشهيد كان من أعز الأصدقاء وأكثرهم شراكة في الأسرار والتخطيط وصناعة القرار العسكري. وأمام الغياب القسري الأول من نوعه لكرسي ممثل رئيس الجمهورية وحضور وزير الدفاع الياس المر ممثلاً الرئيس فؤاد السنيورة، والنائب علي بزي ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، أسف البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير لفجيعة الوطن الذي تتلاعب فيه الأهواء. وفي رسالة تليت خلال القداس طلب البابا بنديكتوس السادس عشر «من الرب ان يمنح المسؤولين السياسيين والشعب اللبناني القوة والشجاعة لإيجاد طريق الوحدة والمصالحة بعيدا عن المصالح الخاصة».

أمّا قيادة الجيش، فدعت على لسان رئيس الأركان اللواء الركن شوقي المصري الجميع إلى اتخاذ موقف تاريخي شجاع «يفضي بنا الى جسور الثقة والتوافق بين الأطراف، والمسارعة الى تحقيق المصالحة والوفاق من دون شروط او مساومات وقيود». وأكدت أن «المصالحة والوفاق لا يتوقفان عند موازين القوى والتجاذبات السياسية، وأن سيل دماء الشهداء يستحق منا التضحية والتنازل، على أن تكون الثقة المتبادلة هي الضمانة الأساسية والوحيدة لجميع الأفرقاء». وكان لافتاً غياب رئيس الغالبية النيابية النائب سعد الحريري، وحضور رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع رغم جلوسهما في زوايا الصفوف الأمامية. فيما جلس الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون شمال قائد الجيش في صف الكنيسة الأول. وبعد ساعة ونصف ساعة، انتهى القداس ليقف الجنود ويلحقوا نعش العميد الذي يحبون يتحرك بخفته المعتادة صوب المدخل الشمالي للقاعة. وتحوّل الغضب دموعاً بينت انكسار أهل المؤسسة الذين وعوا فجأة على أنفسهم يودّعون بطلاً جعلهم يثقون بقدرته على القفز فوق الموت والاستهزاء به. ورغم عصف الأمطار لحق «أهل النجوم المتلألئة فوق الأكتف» بزميلهم ليلقوا على نعشه نظرة أخيرة قبل توجهه صوب بلدته رميش التي اعتاد في طفولته مساعدة والده على قطف الدخان من بساتينها.

رحلة طويلة إلى جوار فلسطين

ورغم أن طريق الشهيد الحاج كانت طويلة إلى جوار فلسطين، إلا أن الحشود التي انتظرت مرور جثمانه على امتدادها لساعات تحت المطر من مدينة صيدا حتى رميش مروراً بقرى أقضية الزهراني وصور وبنت جبيل جعلت الموكب الكبير المرافق له يتضخّم أكثر فأكثر بملايين حبات الأرز والورد والتحيات لبطولته وجيشه ووطنه.

أما إشارات النصر التي رفعها عناصر الجيش اللبناني المرافقين للموكب، فجعلت المشهد لا يختلف كثيراً عن موكب النصر للواء الثاني الذي تم استقباله رسمياً وشعبياً في صور فور انتهاء معركة نهر البارد.

عند نقطة الأولي وعلى وقع «بيي راح مع العسكر» وصوت جوليا «منرفض نحنا نموت» عبر الشهيد فرنسوا الحاج للمرة الأخيرة بوابة الجنوب إلى بلدته رميش دون أن يتوقف كما عادته لأخذ الحلويات من المحال الصيداوية التي عادة ما كان يهديها إلى أصدقائه وفقراء بلدته، كما تقول واحدة من أبناء البلدة كانت تنتظر مع المنتظرين الذين لم يحل تساقط المطر الغزير دون حضورهم لاستقبال العائد.

القادة الصيداويون ومن قرى المنطقة بمختلف أطيافهم السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية كانوا هناك ولم يتخلّفوا، يتقدمهم النائبان أسامة سعد وميشال موسى وممثل النائبة بهية الحريري، نجلها أحمد الحريري.

وحملت فادية خريش ابنة رميش المقيمة منذ زمن في صيدا إكليلاً أبيض عربون وفاء لـ«الآدمي» و«المتواضع»، وعيونها تجمرت من كثرة ما فاضت دمعاً، أعلام الناصري والقومي السوري وحزب الله وتيار المستقبل فضلاً عن الأعلام اللبنانية وعلم الجيش حضرت جنباً إلى جنب.

وصاحب وصول الجثمان إلى صيدا رفع آذان المساجد، وانهال وابل الزهور وأكاليل الورود على النعش، ومرة جديدة فادية خريش تخترق جدار الأمنيين والعسكريين لتخاطب الجثمان المسجّى في نعش «قوم يا بطل وصلت على الجنوب».

وعلا الهتاف والتصفيق عندما ترجل نجل الشهيد إيلي من سيارة الرانج المصاحبة للنعش، صافح المستقبلين «غمرتونا بلطفكم ومحبتكم... ونحنا وإياكم حنكمل مشوار الوالد بصون لبنان وحمايته ولن نبخل بالدم من أجله». كلمات كانت كافية لإلهاب المشاعر ولرفع وتيرة التصفيق وعناقه ويتقدم رجل سبعيني ليقول له «رفاع رأسك بالعالي ما إنتي ابن البطل».

ولدى مرور الموكب على الأوتوستراد الرئيسي بين صيدا وصور، تجمّع أهالي القرى المجاورة وعناصر الأحزاب على الجانبين لتحية موكب الشهيد الحاج حاملين الأعلام اللبنانية. وقد تمهّل الموكب مرات عدة لاختراق الحشود وخصوصاً في بلدات الغازية والعدوسية وشبريحا والعباسية ودوّار البص والبرج الشمالي وتبنين وعند نقاط الجيش اللبناني في أبو الأسود والقاسمية.

وفي وسط الظلام، كما اللبّاس الذي اتّشح به أهالي بلدة رميش والمنطقة المجاورة، دفن الشهيد الحاج في مدافن بلدة رميش، بعد ساعات طويلة من الترقب والانتظار. وقبل أن يصل موكب التشييع إلى منطقة صف الهوا في بنت جبيل، تجمع المئات من المواطنين من أبناء بنت جبيل والقرى المجاورة، تحت المطر الشديد، وهم يحملون الأعلام اللبنانية وأعلام الجيش اللبناني إلى جانب أعلام حزب الله. وفي بلدة عين إبل أيضاً، حيث بلدة زوجة الشهيد، احتشد الأهالي قرب الكنيسة على الشارع العام مطلقين أناشيد الحزن والغضب. وفي تمام الساعة 4.45 وصل الجثمان إلى بلدة رميش، حيث كان في انتظاره على مدخل البلدة آلاف المواطنين من رميش وجميع القرى والبلدات المجاورة والبعيدة، فلوحظ قدوم حشود كبيرة من حاصبيا ومرجعيون وحولا وشقر وعيثرون وعيناثا وعيتا الشعب، التي زحف أغلب أهاليها إلى رميش معلنين الوفاء والمواساة على ما أصاب جارتهم رميش. لم تكن كثرة هطل المطر عائقاً أمام استقبال الحشود لجثمان الشهيد، فكان الصغار والكبار، منظّمين ومتماسكين، يتقدمهم الجيش اللبناني والجمعيات الكشفية، فتم تشييع الجثمان سيراً على الأقدام الى منزل ذوي الشهيد، بعدما ارتفعت الأسهم النارية وموسيقى الجيش اللبناني، وقدمت سريتان من اللواء السادس التحية للشهيد أمام منزل ذوي الشهيد، ومن ثم أمام مدخل الكنيسة حيث كانت مراسيم الوداع الأخيرة التي حضرها حشد رسمي وشعبي وأقيمت الصلاة، قبل أن يوارى في الثرى في مدافن البلدة.

وحيا رئيس بلدة رميش اسكندر الحاج الجيش اللبناني وأبناء القرى المجاورة على مواساتهم، وقال: «لا يخيفنا إلا رجال السياسة الذين لا يجمعهم الحزن ولا الفرح»، منتقداً إرجاء «إعلان الحداد الوطني إلى ما بعد المطالبة بذلك من جانب نجل الشهيد». وأعلن الحاج نية المجلس البلدي تسمية أحد شوارع البلدة باسم الشهيد وإقامة تمثال له وسط البلدة.

(شارك في التغطية رندلى جبور

ــ خالد الغربي ــ آمال خليل ــ داني الأمين)

تعليقات: