فرنسوا الحاج \"إسرائيل حاولت اغتياله وجعجع طلب إبعاده والعبسي فرّ من بين يديه\"


بين 13/11/1972 تاريخ دخوله المدرسة الحربية و12/12/2007 موعد استشهاده، تحفل مسيرة العميد فرنسوا الحاج بالعبوات التي لم تؤثّر في تمسّكه بواجباته. وطيلة حياته العسكريّة، لم يتردد ابن مزارع التبغ الجنوبي، الذي صار المرشح الأول لقيادة الجيش، في خوض الحروب بأقل الإمكانات، مخلّفاً وراءه حسابات مفتوحة مع إسرائيل، القوات اللبنانية، وحركات أصولية إسلامية

في إحدى الزوايا القريبة من بلدية بعبدا، كان أحد العسكريين يروي لزميله، والرجفة تمسك بشفتيه، كيف كان العميد فرنسوا الحاج يحافظ، رغم كل ما لحق بجثّته، على ابتسامته الساحرة «العصية على الفهم». تلك الابتسامة التي كانت ترتسم بعفوية على محيّا «اللواء الركن» كلّما أغضبه أمر ما. وعلى بعد أمتار قليلة، انشغل بعض الضباط في استعادة لحظات حرجة جمعتهم برجل «كان يثق بالقدرة الاستثنائية على القفز فوق الموت». ومن زاوية إلى أخرى، كان العسكريّون المثقلون بمصابهم يندبون مصير بطلهم الذي عوّدهم العودة من المعارك مزهواً بنياشين النصر، التي غالباً ما وفّرت له الترقّي في التراتبية العسكرية. وكان ابن رميش يستعد ليزيّن كتفيه برتبة قائد الجيش بعد أدائه المميز، وفق المعايير العسكرية، في معركة نهر البارد، بعد ترقيته إلى موقع مدير العمليات (اعتباراً من 25/2/2002) إثر قيادته المواجهة بين الجيش والإسلاميين المتشددين في جرود الضنية.

قائد البارد

آخر المعارك التي أدارها الحاج كانت في مواجهة «فتح الإسلام» في مخيّم نهر البارد. و«هو كان من أكثر الضباط حماسةً لخوضها، بعدما استفزّته الأنباء عن نحر الإسلاميين المتشددين لعناصر الجيش». وفي نقاش له مع قائد الجيش العماد ميشال سليمان، صباح اليوم الأول من معارك البارد، شرح الأول أن ثمة خيارين أمام الجيش: إما افساح المجال أمام الفصائل الفلسطينية للقبض على مقاتلي فتح الإسلام وتسليمهم إلى القضاء، وإما الحصول عل ضوء أخضر من الطبقة السياسية لاقتحام المخيم، مشيراً إلى ارتياحه للخيار الأول، رغم تفضيله الخيار الثاني كدرس لكل من يتطاول على المؤسسة العسكرية.

ولاحقاً، أخذ المساعد السابق لقائد لواء المشاة الثاني عشر (2000 ـــــ 2001) على عاتقه «إعادة هيبة المؤسسة العسكرية»، فانتقل إلى الشمال ليدير العمليات عن قرب. وكان الحاج يصرّ على التوجه إلى الضباط في الجبهات الحامية للاطلاع عن كثب على أوضاعهم، قبل إعطاء التعليمات. وخلال هذه المواجهات، كثيراً ما طلب الحاج من قائد الجيش، بحسب مقرّبين منه، زيادة الضغط على الطبقة السياسية لتغطية عملية عسكرية واسعة تضع حداً لاستنزاف الجيش. وقد سمع الضباط، في غرفة العمليات قبالة المدخل الجنوبي لمخيم البارد، صوت مدير عملياتهم يصرخ بوجه أحد كبار المسؤولين، طالباً منه الكف عن المراوغة وإصدار أمر واضح لاجتياح المخيم. كما اعترض الحاج بقوة على المدّة الطويلة للهدنات التي أعلنت بين الجيش وفتح الإسلام، والتي تسمح لمقاتلي التنظيم السلفي بإعادة تنظيم صفوفه. وقد «جنّ جنونه»، بحسب وصف أحد أصدقائه، من قرار القيادة السماح بإدخال المؤن إلى داخل المخيم. وبعد فرار مقاتلي فتح الإسلام وسيطرة الجيش على المخيم، شعر الحاج، وفق أصدقائه، أن النصر ناقص قبل القبض على زعيم فتح الإسلام شاكر العبسي. وكاد يكون الضابط الميداني الوحيد المتابع لتفاصيل محاكمة العناصر السلفية ـــــ الجهادية التي أوقفت. وهو أبلغ المعنيين اعتراضه الشديد على عدم محاكمة المسؤولين عن التفرد بقرار إطلاق النار على مقاتلي فتح الإسلام، ودون مراجعة قيادة الجيش. ويرى بعض زملاء الحاج رابطاً بين دوره في البارد واحتمال وقوف مقاتلين من فتح الإسلام وراء اغتياله، رغم تخفيف بعض المسؤولين العسكريين من جدية هذا الاحتمال، لقناعتهم بأن استراتيجية التنظيمات الشبيهة بفتح الإسلام تفضل، عسكرياً، اغتيال أكبر عدد ممكن من الجنود، وتشتهي، سياسياً، مباغتة قائد الجيش بمثل هذا الاغتيال، لكونه يمثّل عنواناً لمعركة البارد.

جعجع ومجموعة الضنيّة

وكان الحاج قد أدار قبل سبعة أعوام المعركة بين الجيش و«مجموعة الضنّية». وسجّل يومها، وفق الخبراء العسكريين، انتصاراً باهراً، رغم الصعوبات الجغرافية واللوجستية. ويقول أصدقاؤه إن الحاج عاد من تلك المعارك، مختلفاً عمّا كان عليه قبلها. فازداد حدّة وصلابة وجهراً بمواقفه السياسية، وأسرّ خلال تلك المرحلة لكثير من زملائه بقلقه من تغلغل الإسلاميين المتشددين في الأحياء الشمالية الفقيرة. ودعا أكثر من مرة إلى تسهيل انتساب الشماليين إلى المؤسسة العسكرية لإبعادهم عن المجموعات الأصولية. وكان يروي للمحيطين به أن ما شاهده خلال أيام الضنية القليلة، فاق في بشاعته كل ما شاهده أثناء الحرب اللبنانية، وخصوصاً لجهة حماسة الإسلاميين المتشددين للاستشهاد. ويؤكد أحد زملائه أن الحاج فاتحهم أكثر من مرة بقلقه من مشاريع بعض زعماء السياسة التي ستعرّض الوضع الأمني برمته للخطر لاحقاً. ويقول أحد زملاء الحاج في إدارة العمليات إن «أبو إيلي» تعرّض لضربة معنوية كبيرة عند إطلاق إسلاميي الضنية مقابل الإفراج عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. فالمرحلة المفصلية الثالثة في حياة الحاج كانت قبالة القواتيين، وبمواجهة سمير جعجع نفسه. ويروي أحد زملاء الحاج المتقاعدين أن قائد فوج المغاوير السابق، كان يكرر على مسمعهم تجربته المُرّة مع القوات (عام 1989)، ويبدأ من تأكيد جعجع من على درج بكركي أن الحرب بين الجيش والقوات انتهت، قبل أن يفاجَأوا بعد وقت قليل بهجوم قواتي كبير لاقتحام مناطق نفوذ العماد ميشال عون، انطلاقاً من بلدة القليعات، حيث كُلّف الحاج في اللحظة الأخيرة الدفاع عن الجبهة. فصدَّ الهجوم وكبّد المهاجمين خسائر فادحة. ولم يقبل ترك الجبهة إلا إلى نهر الموت، حيث كانت المواجهة قد اندلعت بين الجيش والقوات أيضاً. ولاحقاً، بعد فرض الطائف، اشترط جعجع، بحسب أصدقاء الحاج، لسحب قواته العسكرية من بيروت الكبرى نقل الحاج من الضبية، وعدم إشرافه على هذا الانسحاب. ويؤكد أصدقاؤه أن بين الحاج وجعجع كثيراً من المشاكل العالقة. فالثاني لم ينسَ مآثر الأول، والأول كان يجاهر بقلقه على الجيش والوطن من «مآثر» الثاني.

إسرائيل ومحاولة الاغتيال الفاشلة

أما المحطة الرابعة في حياة القائد السابق لفوج التدخل الثالث (بين عامي 1992 و1996)، فعنوانها مقاومة إسرائيل ورفض أي شكل من أشكال التعاون معها. إذ يؤكد زملاؤه أن الملازم الأول، المولود عام 1953، قصد بلدته الجنوبية رميش عام 1976 للاطمئنان إلى عائلته، وقرر الاستقرار هناك بضعة أشهر، فسارعت الجبهة اللبنانية بإيعاز من الرئيس بشير الجميل إلى إيفاد أحد الوسطاء ليطلب منه التعاون مع إسرائيل لإنشاء حزام أمني يحمي حدودها. وتعرّض الحاج، الذي يُتقن الفرنسية، الإنكليزية، والإيطالية إثر رفضه التعاون مع إسرائيل، لعدة تهديدات، انتهت بتفجير سيارته في رميش.

تعليقات: