ريما خشيش.. عصرنة الموشح


«وشوشني» والحاجة إلى التقاط نبض الجيل

قد لا يهم أن تحمل الأعمال الغنائية الجادة في جديدها أجوبة مثالية جاهزة للإجابة على سؤال الإبداع، بقدر ما يكفيها أن تبدع في طرح ما تجود به من مضامين لتخوض بها جديد تجاربها، مؤسلبة بدواعي الأصالة، أو الكلاسيكي منها، تزدهي بمرونة القدرة على التجدد متصالحة مع متطلبات العصر وأذن الجيل الجديد المتطلبة لخصوصيتها، ولكن دون ادعاء وفذلكة وتصنّع!

أعتقد أن هذه الهموم حاضرة بقوة لامعة في أغاني عمل «وشوشني» الذي يرتكز على ثقل موسيقي نوعي وألق غنائي لامع، يتناسبان معاً على مستوى التأليف والتلحين والكلام والتوزيع والغناء والأداء العام، الموزعة جميعها على نسيج خمس عشرة أغنية، منها ثلاثة موشحات للفنان المصري الكبير الراحل الموسيقي فؤاد عبد المجيد. واثنتا عشرة أغنية أخرى لربيع مروة وريما خشيش لحناً وكلاماً وغناءً. إذا كانت العلاقة بين العام بأجوائه من جهة والخاص بظروفهم (الفنانين الثلاثة أعلاه) من جهة أخرى، يتقاطعان بكثير من الملابسات والتعقيدات والخصوصية التي تتوزّع بين الزمان العربي العام، المزمن هبوطاً وتراجعاً، وبين المكان اللبناني الخارج من حرب أهلية التي أعادت خلط العناوين والمفاهيم الفنية لتفرز واقعاً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً دينياً جديداً لا يمكن الهروب من قراءته بذكاء لإعادة تدوير نتائجه بأقصى ما يمكن من الفهم والمرونة.

نتائج الحرب

لذلك فإن أهم ما يجب التنويه به في هذا العمل، فهو تأخر صدوره بناء على الإشكاليات أعلاه وانعكاس نتائج هذه الحرب على لغته ومفرداته وزمنه وتطلعاته للخروج منها بسلام. كما أن الكلام عن هذه التفاصيل وانعكاسها على مروة وخشيش، لا يمكن له إلا المرور على بعض الحقائق المعجونة بكثير من التفاهم والصداقة والزمالة والمحبة والرؤى الفنية التي ربطتهما ببعضهما من جهة وبفهمهما لموقعهما كفنانين واجها ويواجهان نتائج تلك الصراعات والحروب على وعي الناس الذين أصابتهم في صميم وعيهم الجمعي العام. لذلك ربما تأخر صدور العمل لسنوات ليست قليلة، وبما أن الكلام بين العام والخاص يطول لنتركه اذن يطفو بما تسمح به هذه المقالة التي ستخوض في بعض تفاصيل كل أغنية.

في العمل اذن ثلاثة موشحات للفنان الراحل فؤاد عبد المجيد وهو الحاضر المغيّب في مصر (بلده) أولاً، والعالم العربي ثانياً. حول هذه الموشحات الجميلة، يجب التنويه بقوة إلى أن الجهود القليلة المبذولة لإعادة إحياء تراث هذا الفنان الجليل وإعطائه حجمه كموسيقي مقتدر في كتابة وعصرنة فن الموشح، يعود في مصر تحديداً إلى فنانين قلائل جداً أهمهم المايسترو اللبناني المرموق في الحياة الموسيقية المصرية سليم سحاب الذي لا يترك مناسبة لاستعادة أعماله والإضاءة عليها، إلا وينتهزها ويبرزها بإكبار. أما في لبنان، فيعود الفضل في هذا إلى الفنانة ريما خشيش التي لا تترك أي إنتاج لها إلا وتكحّله بموشحين له أو ثلاثة كهذا العمل «وشوشني» الذي يحمل له ثلاثة من أجمل موشحاته التي لن أستعرضها في المقالة هذه، نظراً لإيماني بأهميته الاستثنائية وكوني على قناعة بأنه يستحق مني ومن غيري دراسة كبيرة شاملة معمّقة وتحليل أكاديمي لصياغاته وابتكاراته وإبداعاته لإعادة العمل والتأليف على فن «الموشح» كقالب موسيقي غنائي مهم. لقد تفرّد الرجل بين أقرانه المصريين والعرب كما تفرّد المؤلف اللبناني المقتدر والمرموق توفيق الباشا ومثله الأخوين رحباني بصياغات خاصة خاضت وأبدعت في الموشح. لذلك سأنأى في هذا المقال عن الخوض في موشحاته الثلاثة لأجمعهم لاحقاً مع موشحاته الأخرى في دراسة منفصلة. سوف أركّز في هذه العجالة على أغاني ربيع مروة وريما خشيش في «وشوشني» فقط، كونهما ولأول مرة يضعان تجربتهما الجديدة بثقلها أمامنا.

يتميّز النسيج العام لأغنيات مروة وخشيش بديناميكية الحركة التي تربط الألحان ببعضها، سواء لناحية الإيقاع أو المقام أو التوزيع. فالإيقاع أولاً نراه دائم التحرك، فإذا دخل بالفالس فهو واضح وجريء لكنه يعود لينكسر ويخرج إلى مشتقات الإيقاعات المركّبة بأنواعها، كإيقاع السبعة على ثمانية في أغنية «عندي إحساس» مثلاً، أو كما ينحو في أغنية «وين ما كان» بتوسّله القوة عندما يسعى لمزج الإيقاع على تقنيات الـ Riff، لينبض ستة على ثمانية، ستة على ثمانية ثم تسعة على ثمانية ليعود لاحقاً إلى الأربعة على أربعة. أما في ما يخصّ اللحن والمقام ثانياً. نراه يتحرك بأسلوب النقل المقامي ليستمر بمفاجأة المستمع. فما أن يدخل إلى مقام المأجور حتى ينتقل إلى المينور ليفاجئنا بمروره المدهش على مقام الراست كما في فالس أغنية «وشوشني» أو ليأخذنا من المينور إلى جمال مقام البيّات كما في أغنية «وأنا ناطرة» التي سرعان ما يتركه ليقفز على مينور السي بيمول عند كلمة «انفجر»، ويعود مجدداً إلى الصول مينور المقام الرئيس، عند «صابتني شظايا الحب»، ولا يهدأ إذ عند «أه عالحب» تغمز ريما باتجاه الفنان الكبير الراحل محمد عبد الوهاب لتقلب المقام بتصميم منها إلى الماجور. وقبل النهاية نسمع عُرباً صوتية من ريما لها علاقة بالكنسي وتحديداً عند غنائها «شو شيطان» للمرة الثانية، بانطباع محيّر بين الماجور والمينور، فلا يدري المستمع على ماذا سترسو الجملة الموسيقية، هل على الماجور أو المينور؟ لتقفل الأغنية عند أجواء البداية في المينور. أما ثالثاً فيُبهرنا التوزيع وحركة الألحان حيث جرأة العمل على الهارموني من دون أن يخشى الخوض بحكمة في تنافر الأصوات بوليفونيا، بل يستخدم أحياناً أسلوب الديسينانت لتخوض بشجاعة أجواء الكونتومبرين أو الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. فما يلفت في هذا العمل هو قدرة الموزعين الثلاثة: Marten Ornstein و Tony Overwater وMaarten Van Der Grinten الذين استطاعوا بخبراتهم الموسيقية العالية بالتوزيع والعزف أن يقدّموا للسامع انطباعاً بأن أوركسترا كبيرة تؤدي العمل، مما رفع شأن العمل ككل إلى مستوى رفيع يضاهي أعمالاً عالمية ذات شأن، كما في أغنية «وقتي قصير» و «اجاني اتصال» و «كتاب» وغيرها.

في الختام، يمكن القول إن عمل «وشوشني» يفتح الباب، أمام مروّة وخشيش (مع غيرهم من الفنانين)، على مصراعيه لمتابعة الخوض في هذا المناخ الفني الجديد على مستوى الأغنية الشبابية الجادّة والواعدة التي تخاطب جيل اليوم لتسد فراغاً ملحوظاً في وعيه الفني السياسي الاجتماعي الذي تعاني منه أغنية اليوم على مستوى لبنان والعالم العربي. هذا الفراغ الذي بات التصدي لمواجهته حاجة ضرورية تحتفل بحيوية القدرة والمرونة على تسمية الأشياء والظواهر بأسمائها وأبعادها مستخدمة مفردات لغة فنية معاصرة لا تخشى المواجهة وإن أضفت عليها روح الفكاهة الإيجابية الساخرة. هذا ما سيمكّن الأغنية من استعادة دورها كسلاح فني إيجابي للمواجهة، بعدما وللأسف نجحت أموال دول النفط العربية في شراء فناني التغيير الذين تركوا خلفهم جمهوراً بدأ ينأى عنهم بعد أن لمعوا خلال الحرب الأهلية تحت شعارات وعنـــاوين فرزتها تلك الحرب، ليبحث هذا الجيل عن بدائل تتحـــدّث بلغته ومفرداته الجديدة وتتبــــنّى طموحاته وتلتقط إيقـــاعه التي لا علاقة له برنين الدينــــار الروتاني وفتاويه.

 

تعليقات: