الحمل الاصطناعي: الإشكالات والموانع


أثارت مسألة الحمل الاصطناعي العديد من التساؤلات، وانقسمت الآراء الفقهية حولها، بين مؤيد ومعارض، وذلك تبعاً للحالات قيد المناقشة، وكذلك في موارد منع الحمل. ولأهمية الموضوع المثار، ونظراً إلى التداعيات الأخلاقية والاجتماعية التي تترتب عليه، رأينا أن نسلط الضوء على هذه الإشكالية، لإيضاح ما التبس منها، ومن منظور فقهي مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، والاستفادة من تعليلاته وأدلته حول هذه القضية.

رأى سماحته أن الحمل الاصطناعي الذي يتمّ أحياناً عن طريق متطوّعين مجهولين من غير الأزواج، في حال انعدام وجود البذرة من الزوج، أو عن طريق زرع بذرة غير الزوج في رحم الزوجة، أو أن يؤخذ مني الزوج وتلقَّح به بويضة من امرأة غير زوجته، هي مسألة لا يمكن أن نتعاطى معها بالمعايير المادية، لافتاً إلى أنه في "النظام التناسلي، هناك شيء اسمه العلاقات الشرعية والعلاقات غير الشرعية، والشرع إنما حدّد وقنّن ذلك من أجل المحافظة على الأنساب. لذلك، أن يكون المني من الزوج وتلقَّح به بويضة الزوجة، فلا مشكلة في ذلك أبداً. بعض الناس عندهم تحفّظات بالنسبة إلى كشف العورة، وهناك بعض الحلول لها أيضاً. لكن من حيث المبدأ، التلقيح الاصطناعي جائز، ولكن من خلال الزوج والزوجة، بحيث تؤخذ البويضة وتلقَّح خارج الجسد ثم تعاد، ولا مشكلة شرعية فيه، والولد شرعي مئة بالمئة.

أما إذا كان المني من غير الزوج، فهذه حالة غير شرعية، ولكن ليست في مقام الزنا، إلا أنّ الولد ليس ولد الزوج. وليس ابن زنا، لأن ابن الزنا له وضع معين، لكن هذا الولد يُعتبر ولد صاحب النطفة وليس ولد الزوج.

كما أنه قد تطرح مسألة، لو فرضنا أننا أخذنا مني الزوج ولقَّحنا به بويضة من امرأة أخرى غير الزوجة، ثم زرعناها في رحم الزوجة، فهذا العمل ليس محرّما"(1) ( مع ملاحظة أن الرأي الفقهي الذي تبناه سماحة السيد (رض) هو اشتراط وجود عقد زواج بين الرجل صاحب المني والمرأة صاحبة البويضة).

وربما حاول البعض أن يحتاط في هذه العملية، فأدخل قيد العقد عليها، في أنه لو عقد الرّجل على تلك المرأة الأجنبية، فهل يجب أخذ البويضة من المعقود عليها فقط في الفترة التي عقد عليها الزوج، أم يجوز استعمال البويضة التي سبق تلقيحها على العقد؟ فيرى سماحته أنه "لا يترك الاحتياط بما يتعلق بتلقيح مني الزوج ببويضة امرأة أجنبية، ولكن إذا عقد على تلك المرأة فيجوز ذلك، من دون فرق بين صورة ما إذا كان استعمال البويضة تلقيحاً قبل العقد أو بعده، ولكن الإشكال هو في لحوق الولد بصاحبة البويضة أو بالحامل، فهناك رأي أستاذنا آية الله الخوئي (قدس سره) بأن الولد يلحق بالحامل الوالدة"(2)، "لأن الله يقول: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ}[المجادلة: 2]، فالأمّ هي الوالدة"(3).

"وهناك رأي آخر نتبنّاه ـ كما يتبناه فتوىً واحتياطاً بعض الفقهاء المعاصرين ـ بأن الولد هو ولد صاحبة البويضة، لأن الولد ينشأ من النطفة والبويضة معاً، والله العالم..."(4). وسماحته في تعليله لهذه العملية، يرتكز على فكرة الوجود، "لأنّ البويضة هي الأساس في خلق الولد، فالنطفة والبويضة لهما دور متكامل في هذا المقام. لذلك، نحن نرى أن الأمَّ هي صاحبة البويضة وليست الحامل، فهي مجرد وعاء في هذا المقام، وهي تغذيه وتنمّيه، لكن ليس لها دور في وجوده، بل لها دور في تنميته، وربما يلحق بها كما يُلحق الولد بأمّه بالرضاع، وهذا محلّ جدل فقهي طبعاً.

فإذا كانت البذرة من غير الزوج، فإن الزوج لا يستفيد من مسألة الأبوّة، وإن زرعت البذرة في رحم زوجته، لأنه لن يكون هو الأب، والموافقة لا تغير شيئاً من المسألة، لأن هذه قضايا تتعلق بوجود الطفل، وكون الرجل ينتمي إلى هذه المرأة بعقد الزواج، ليس معنى ذلك أنه ينتمي إلى جنينها الذي ليس منه من خلال العلاقة الزوجية"(5).

وعن المشكلات التي يعانيها الملايين من الأزواج المصابين بالعقم الذين لا حلّ أمامهم إلا التبني، فقد حاولت العديد من المؤسسات الطبية الخروج من هذه المشكلة، فسعت إلى القيام بدراسات لتحسين نوعية التلقيح الاصطناعي. وقد رأى سماحته أن هذه المؤسسات إنما تنطلق من فكرة أن الأبناء ليس من الضروري أن يكونوا من الآباء، وهناك نظام يجب أن يتبع لتحقيق ذلك: الأوّل، وهو فرض الحرية الجنسية، كما جاء في مؤتمر بكين للأمهات غير المتزوّجات، ولكن نحن لا نتكلم عن هذا النظام، وإنما من خلال النظام الذي يبني مسألة الولدية على المسألة الوجودية، أن يكون هذا ولدك، أن تكون سبباً في وجوده، لا أن تكون زوجتك التي ارتبطت بها بعقد الزواج سبباً في وجوده، ومن شخص آخر، من دون أن يكون لك أي علاقة بذلك"(6).

ولذلك، يرى سماحته أن لا فرق بين هذا وبين التبني، لأنه يجب أن يكون الأولاد مشتركين بين الزوج والزوجة، أما إذا كان أولادها أولاد غير الرجل، فلا علاقة للرجل بذلك، و"هذا لا يكون حلاً للمشكلة بالمعنى الداخلي، إلا من خلال أنّه حاول أن يضع نفسه في وهم أن الولد وُلد في داخل الحياة الزوجية، ولكن هذا لا يعني أنه ولد الرجل"(7).

كما يرى سماحته أن هناك مشكلة، "وهي أننا نحاول كثيراً الاستغراق في المأساة بعيداً عن طبيعة حركة الواقع، فالمأساة يمكن أن تجلب دمعتك لكن لا تخلق لك نظاماً، فالمأساة يجب أن نعيشها، ولكلٍّ منَّا مأساته. بالنسبة للمرأة التي تحمل بويضة امرأة أخرى في رحمها، فالفقه العام يقول إن هذا ليس ولدها، لأنها لم تشارك في وجوده، وإنما شاركت في تنميته، وليس رضيعها، ولكنَّ بعض الفقهاء الآن بدأوا يستلهمون من أن الرضاع عندما يكون موجباً للتحريم، لا بد من أن يزيد عن رضعات معينة، ومن الطبيعي أن تكون تغذية الولد كأنها أعطته شيئاً من جسدها، فصارت أمه ولو أماً حليبياً، وربما يقال إنّ الجنين تغذّى من المرأة مدة تسعة أشهر، ولكن هذا رأي فقهي ما زال في التداول ولم يصل إلى نتيجة نهائية بعد"(8).

أما أن يشكل هذا التلقيح حلاً وسطاً باعتبار أحد الزوجين هو الوالد، فيرى سماحته خلاف ذلك، مؤكداً أن "مسألة الأبوّة والأمومة والبنوّة، منطلقة من الواقع الوجودي، أن يكون الولد امتداداً للوجود، أن تكون هذه وسيلة من وسائل وجود هذا، أنت أجنبي عن الولد، مجرد أن يكون هناك عقد بينك وبين أمه من دون أن يكون لك أي دور فيه سوى هذا العقد المكتوب، فما علاقتك به؟ أنت أجنبي عنه في هذا الموضوع. ما الفرق بينك وبين هذا الولد الذي تحمله زوجتك وهو ليس منك، أو الذي تحمله زوجة ابن الجيران؟ غاية الأمر أن هذه يوجد عقد زوجي بينك وبينها، لكن هذا العقد لم يجرِ حركة وجود، بل أجرى حركة قانونية أباحت لك وضعاً معيناً وأباح لها وضعاً معيناً"(9).

ومن جهة ثانية، لفت سماحته إلى أنه "لا يوجد في الشريعة شيء اسمه "إعارة رحم" من دون أن يكون لذلك إذن شرعي، ولذلك فلا يجوز إيداع نطفة الرجل الأجنبي في رحم امرأة متزوجة، لأنه لا يصح له العقد عليها لأنها ذات بعل. نعم، مع وجود عقد شرعي، وكانت المرأة خلية(أي غير ذات بعل ولا ذات عدة)، كان للرجل إيداع نطفته في رحمها أو نقل بويضة ملقّحة بنطفته إلى رحمها"(10).

أما عملية التلقيح الصناعي أو ما يعرف بأطفال الأنابيب، فيرى سماحته، كما أسلفنا، أنها جائزة، ولكن "بشرط حدوث التلقيح بحيوان رجل ونطفة امرأة متزوجين من بعضهما البعض، واستخراج مني الرجل بآلة أو الاستمناء بيد الزوجة مع تجنب كشف العورة على الطبيب، كما أنّ على المرأة أن لا تكشف عورتها أمام الطبيب الرجل إلا مع الانحصار به، وترتب الحرج على ترك الحمل إلا بهذه الطريقة"(11).

وفي ما يتعلَّق ببعض الأمور الفقهيّة، حيث يكون الاختلاف في التقليد بين الطبيب والمريض، ولا غنى من القيام ببعض العمليات الجراحية، كاستئصال المبايض، أو وضع اللولب، أو غير ذلك من الأمور التي هي موضع جدل بين الفقهاء، فيرى سماحته أنه في هذه الحالات "لا بُدَّ من أن يتبع الطبيب تقليده، لأنَّ العمل عمله، وهو مسؤول عنه، فمثلاً لو أنَّ امرأةً تقلِّد من يُجيز للمرأة النَّظر إلى عورة المرأة الأخرى، راجعت طبيبة تُقلِّد من لا يرى ذلك، لما جاز للطبيبة معالجتها في حالات العلاج غير الضَّرورية. أمَّا إذا كانت الطَّبيبة تقلِّد مرجعاً ليس له رأي أو فتوى في ذلك، فإنَّه إذا جاز للمريضة، يجوز للطبيبة في تلك الحالة"(12).

موانع الحمل:

أما في ما يتعلق بموانع الحمل، فإن سماحته يرى أن "كل وسائل منع الحمل جائزة مع توافر الشروط الشرعية، ما عدا الإجهاض والتعقيم"(13).

أما في ما يخص استعمال اللولب، فيرى أنه جائز شرعاً، ولكن قبل استقرار النطفة "لا بعد استقرارها"(14).

وفي ما يتعلق بإجراء المرأة عملية قطع الأنابيب لأسباب متنوعة تجعلها تعيش الحرج والضرر، أو لأنّها تعاني ظروفاً نفسية واجتماعية صعبة، فإن سماحته يقول: "إذا لم تكن هناك وسائل لمنع الحمل غير هذه، وكانت المرأة تعيش حرجاً وضيقاً وضرراً كبيراً، فيجوز، أما إذا كانت هناك وسائل أخرى كربط الأنابيب، فإنه يجوز، أما قطع الأنابيب فمحل إشكال إلا في حالات الضرورة. فالفكرة العامة هي أن الإنسان يمكن أن يجمّد طاقته لا أن يقتلها، فكما أن قتل الإنسان لا يجوز، فكذلك قتل الطاقة لا يجوز إلا في حالات الضرورة" (15).

ومن جانب آخر، يقول في مسألة ربط الأنابيب: "إذا انحصر دفع الضرر المترتب على الحمل بربط الأنابيب الموجب للعقم الدائم، يجوز الربط، وإلا فمع وجود وسيلة أخرى مأمونة لمنع الحمل لا توجب العقم الدائم، فإنه لا يجوز اللجوء إلى ربط الأنابيب"(16).

موقع بينات

تعليقات: