كيـف يعـيش أصحـاب المـداخيـل الدنيـا؟

لافتة: الويل للطبقة السياسية من غضب الشعب
لافتة: الويل للطبقة السياسية من غضب الشعب


يستعين بعضهم بدعم الاغتراب وآخرون بـ«مخارج سحرية»

ربما لا يمكن تخيل أنه، في لبنان، ما زال هناك عمال وموظفون يتقاضون الحد الأدنى للأجور كراتب، أي ثلاثمائة وخمسون ألف ليرة. أو بالأحرى، فان ما لا يمكن تخيله هو أن هناك في لبنان من يعيش حياة براتب قيمته 350 ألف ليرة لبنانية، أو أكثر بقليل. هؤلاء، بغالبيتهم، من أرباب الأسر.

كيف يمكن أن يعيش رب عائلة لا يتجاوز راتبه 350 ألف ليرة، أو حتى خمسمائة ألف ليرة او أكثر من ذلك بقليل، في وقت ارتفعت أسعار بعض السلع اليوم بنسبة خمسين في المائة. بماذا يواجه هؤلاء الأزمات الطارئة؟ كيف يسددون أقساط مدارس أبنائهم؟ ببساطة، كيف يمضون الوقت بين أول الشهر وأول الشهر التالي؟

في ما يلي ثلاثة نماذج من «تلك الفئة» من الناس، فئة الحدود الدنيا للأجور...

الكساء والدراجة والهاتف «هبات»

لم يكن سعيد (اسم مستعار) يتوقع يوماً، ومنذ أن توظف في إحدى المطابع، أن يستقر أساس راتبه بعد 15 سنة من العمل، على 440 ألف ليرة فقط. كان يأمل دائماً بزيادة راتبه بما يتناسب مع قدراته المهنية وسنوات خدمته. وهذا الرهان هو الذي دفعه لخوض مغامرة الزواج منذ تسع سنوات.

اليوم بات سعيد (38 سنة) وزوجته ربّي أسرة من ثلاث بنات، أكبرهن في الثامنة والصغرى رضيعة. وبالرغم من ذلك، لم يضَف الى راتبه مع السنوات، سوى 126 ألفاً قيمة التعويضات العائلية.

كيف تعيش عائلة سعيد بأربعمائة وأربعين ألف ليرة شهريا؟

يشرّح سعيد قائمة النفقات الشهرية: ثلاثمائة ألف ليرة بدل إيجار منزل في المريجة، 35 ألف ليرة مصاريف مبنى، 30 ألفا فاتورة كهرباء، وألف ليرة يومياً ثمن غالونين مياه شفة، «يعني من نوع شراب وموت»، أي ما مجموعه 395 ألف ليرة. هذا في الأحوال العادية.

أما في موسم بداية المدارس، فيضاف إلى ما سبق أقساط شهرية عن ابنتيه بقيمة 150 ألف ليرة، وهو استحقاق شهري يسدده من بدل المواصلات الذي يتقاضاه من المطبعة، والذي يوازي القيمة ذاتها. ويستخدم هو في تنقلاته الدراجة النارية التي يستعيرها من أخيه.

ولكن ماذا عن مصاريف الطعام والكساء والطبابة؟ يقول سعيد أنه يستنجد بأخيه الأصغر، الذي يعيش في ألمانيا.

يشرح سعيد: «أطلب مساعدة شهرية من اخي قيمتها حوالى 150 دولارا. اخصصها بالكاد لتأمين الطعام. وغالباً ما أقع في عجز عندما يمرض احد أفراد العائلة. فتأمين الأدوية «بيكسر الضهر»، عندها اضطر الى طلب مساعدة إضافية من أخي. وبالرغم من أننا جميعاً منتسبون الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لكن «اموت واعيش» حتى اقبض النسبة المستحقة لي من ثمن الادوية».

اما الكساء، فقد بات في هذه العائلة نوعاً من الكماليات، يحضر من خلال ما يجود به الاخ المغترب في المناسبات والأعياد.

ماذا عن الهاتف الخلوي الذي يقتنيه سعيد؟ هو أيضاً «هبة»، ولكن من شقيقة زوجته. تعهدت الأخت التي تقطن في الحمراء بتأمينه والتكفل بشحنه شهرياً، لتبقى على تواصل مع شقيقتها (زوجة سعيد).

ولطالما حاول سعيد الطلب الى مسؤولي المطبعة النظر في وضعه لزيادة راتبه، ولكن من دون جدوى. انخرط منذ فترة في عمل ليلي إضافي في المطبعة ذاتها، فزادت وارداته بنسبة 400 ألف ليرة شهرياً. ولكنه نُحيّ مؤخراً. ولطالما جهد لإيجاد عمل إضافي بديل، الا ان الأبواب سدت في وجهه. يبدو سعيد متكيفا مع واقعه. لا يمارس عادة «النق». لا يتكلم الا اذا سئل، والاجابة تكون دائماً على قدر السؤال. يقطّر في حديثه تماماً كما في مصروفه. واذا سألته «ماذا تفعل في حالة الطوارئ»؟ يجيب متسلحاً بالصبر بقوله: «كثر خير الله!»

وليست حالات الطوارئ دوما صحية. فقبل أيام تعطلت الغسالة في المنزل. باتت تغسل الثياب بيديها لتعذر تأمين البديل. يفكر سعيد الآن بطلب ثمن الغسالة من أخيه المغترب، هو بلا شك يشعر بالاحراج لزيادة طلباته، ولكن ما بيده حيلة. «اذا ميسرة معه رح يبعتلي، واذا لأ، رح انتظر كم اسبوع.. الله بعينّي» يقول.

مخارج سحرية للصمود

لن يتقبل أكرم واقعه يوماً. ابن الثالثة والاربعين سيظل يشعر بالغبن. هو الذي يحمل شهادة ماجستير في علم النفس ويعمل منذ ست سنوات كعامل في احد الأفران. المشكلة ليست معنوية فحسب، بل مادية أيضاً. راتبه الشهري لا يتعدى 700 ألف ليرة. اما عدد ساعات عمله فهو عشر ساعات يومياً.

هو ساخط على الجميع: الحكومة، ارباب العمل والمجتمع ككل. لا يوفر أحداً في معرض اعتراضه على «القلة» التي يعيشها. هو اب لثلاثة اولاد وراتبه لا يصل الى منتصف الشهر.

واهم ما يفتقده اكرم هو افادته والعائلة من الضمان الاجتماعي. وعبثاً حاول ايجاد وظيفة اخرى، ليس لتحصيل راتب اعلى فحسب، وانما بهدف الانتساب الى صندوق الضمان الاجتماعي. من هنا، تغدو اي انتكاسة صحية محتملة لاي من افراد العائلة «نكبة» على حد قوله.

وفيما كان ولداه في مدرسة خاصة يغطي تكاليفها بما يجنيه من دروس خصوصية، فانه عاد فنقلهما في السنة الحالية الى مدرسة رسمية. ويجهل المصير التعليمي لطفله الثالث ابن العام.

يشكو اكرم اليوم من توقف الدروس الخصوصية التي كان يتكل عليها بشكل رئيسي. يعزو السبب الى تردي الاحوال الاقتصادية وعدم قدرة الاهل على تكبد مصاريف اضافية.

وتردي هذه الاحوال مرتبط بشكل مباشر بالغلاء. وهو مكمن الداء الحالي بالنسبة الى اكرم. يشن حملة على وزارة الاقتصاد والمعنيين. يستعين بورقة وقلم لاجراء مقارنة بين اسعار اليوم واسعار الامس. يقول: «كان سعر علبة الحليب 20 ألف ليرة، اصبح اليوم 26 ألفاً. كان سعر كيلو الأرز 750 ألف ليرة، اليوم تضاعف».

كيف يتوزع الراتب والحال هكذا؟ يضحك اكرم من السؤال. يخبر عن المخارج السحرية التي تساعده على الصمود. بكل بساطة هناك مصادر اخرى: يؤمن له اقرباؤه في القرية المونة السنوية مجاناً. يهديه شقيق زوجته ثياب الأولاد في المناسبات. كما يلجأ الى اعاشات غذائية او معونات مادية معينة، تقدمها له مؤسسة اهلية بين فينة واخرى.

اكثر ما يحز في نفس اكرم وزوجته هو حرمان اطفالهما غالباً من النزهات التي باتت ترفاً في ظل الحاجات الاخرى الاكثر الحاحاً.

واذا كان اكرم يعاني منذ سنوات هذا الوضع المادي الصعب، فانه يعتبر ان العام الحالي هو من «انحس» الاعوام. فالغلاء قضى على آخر مقومات الصمود لديه، وبدّل اولوياته في قائمة المصروفات. فالحلويات على سبيل المثال لم تزر بيته حتى خلال شهر رمضان الماضي، الا من خلال ما يحمله بعض الاقارب خلال زياراتهم.

ينتظر اكرم اليوم ان «تفك ضيقته» بفارغ الصبر، عبر ايجاد طلاب لاعطائهم دروسا خصوصية. ولكن اذا لم يحدث ذلك مع اكتمال الشهر الحالي، فلا بد من الاقتراض من احد البنوك. . وهي ليست التجربة الاولى في حياته على اي حال.

ينفق «كل قرش» في موضعه

عمره ستون سنة. يعمل حارساً امام مبنى مؤسسة اجتماعية. راتبه يقارب الحد الادنى اي 375 ألف ليرة، يضاف اليها 150 ألف ليرة بدل مواصلات. هذا الراتب بالكاد يكفي صاحبه، فكيف اذا كان الاخير متزوجا وابا لخمسة اولاد؟

قبل 12 سنة استلم ابو حسن وظيفته الحالية. ولم يكن ليصمد فيها لولا ان سافر اثنان من اولاده الى بلدين عربيين منذ سنوات عدة، وراحا يقدمان بعض الدعم للعائلة المستورة.

قبل سفرهما كان ابو حسن يعين نفسه من خلال العمل كسائق عمومي. ولكن مع الوقت تدهورت صحته.

يشكر الله انه يملك بيته المتواضع، فهو مرتاح من نغمة الايجارات الشهرية. وولداه يقدمان له مبلغاً شهرياً يتجاوز 300 دولار. ويدفعان المصاريف الاضافية المستجدة خلال المناسبات والاعياد. يلعن «ابو الغلاء»، ويحاول التصدي له باسلوبه. يعمل قدر الامكان على انفاق كل قرش في موضعه. يزور سوق صبرا اكثر من مرة اسبوعياً لشراء الخضار والفاكهة ذات الاسعار الرخيصة. يشتري بعض متطلبات البيت بسعر الكلفة من مؤسسة اجتماعية اهلية. ويراعي قدر الامكان متطلبات اولاده الثلاثة. واحدة في المدرسة، والآخران طالبان في الجامعة اللبنانية. «الحمد لله قسطها السنوي لا يتعدى 240 ألف ليرة. وهو مبلغ مقدور على دفعه بمساعدة ولدي في الغربة». يقول.

لم يحاول ابو حسن يوماً ان يلتمس من رب العمل زيادة راتبه. فحالته الصحية وحاجته القصوى الى الضمان الاجتماعي جعلته يغض النظر عن اصل المشكلة. فهو يحتاج منذ عشر سنوات لغسيل كلى، بمعدل ثلاث مرات اسبوعياً، وكان اجرى عملية قلب مفتوح منذ سنتين، كلفتها 14 مليون ليرة. لم يدفع منها ولداه سوى مليوني ليرة (فرق الضمان).

ولكن في حال لم يكن للرجل ولدان مغتربان، كيف سيكون حاله؟ سؤال كان له وقع النكتة على ابو حسن، فضحك.. من قلبه.

تعليقات: