مروان عبد العال: سؤال غسان كنفاني اليوم لماذا لا نقتلع الخزان!


بدعوة من المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أقيمت ندوة حول الأدب المقاوم، وذلك لمناسبة مرور أربعة وأربعين عامًا على استشهاد المناضل السياسي الأديب غسان كنفاني، في قاعة جمعية الأدب و الثقافة – صيدا، و تحدث فيها المناضل الأديب مسؤول الجبهة الشعبية في لبنان مروان عبدالعال، والكاتب و الباحث  التونسي المنذر المرزوقي. قدمت الندوة الشاعرة انتصار الدنان.

حضر الندوة الأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري، الدكتور أسامة سعد، و عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الشعبي الرفيق إبراهيم جمعة، ومسؤول جبهة النضال في منطقة صيدا الرفيق عصام حليحل، ووفد من الحزب التقدمي الاشتراكي، يتقدمه الرفيق أبو تيمور، و مسؤول الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني "فدا " في منطقة صيدا الرفيق فيصل القط، و مسؤول جبهة التحرير العربية في منطقة صيدا الرفيق كمال الحاج، وعن الجبهة الشعبية القيادة العامة الرفيق علي أيوب، و المناضل سعدو رباح، اللواء بلال أصلان، وعن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الأخ عمار حوران، والجبهة العربية الفلسطينية - الجبهة الديمقراطية فرع عين الحلوة الرفيق أبو المعتصم - الجبهة الديمقراطية فرع صيدا الرفيق فؤاد عثمان، ووفد من اللجنة الشعبية صيدا يتقدمه أمين السر الأخ عبد رنو، اللجنة الشعبية في مخيم عين الحلوة-

اللجنة الشعبية مخيم المية و مية - و حشد جماهيري و حشد نسوي .

وعن الجبهة حضر مسؤول العلاقات السياسية الرفيق أبو جابر، وأعضاء من اللجنة المركزية، ومسؤولي المناطق، وعدد من أعضاء قيادة المنطقة في صيدا، وعدد من الرفيقات والرفاق في المنطقة.

بداية افتتحت الندوة بالنشيدين الوطنيين اللبناني و الفلسطيني، ثم قدمت الدكتورة انتصار الدنان الباحث المنذر المرزوقي، حيث ركز في مداخلته على مسألة الهويّة، والاعتراف بالأدب الفلسطينيّ من خلال رواية "ايفان الفلسطينيّ" للروائي مروان عبد العال، وعائد إلى حيفا لغسان كنفاني، مركزا على وجوه مأساة "عرب" في مسعى الصراع من أجل الاعتراف، ضمن دائرة الحميميّة، بحثا عن تحقيق احترام الذات لذاتها، في مواجهة أشكال النكر وعوامل الانفصال واللجوء والاغتراب، وعلى الصراع الذي يقوم على مواجهة أشكال النكر والفصل القسريّ والإذلال الوطني والقومي، وما ينتج عن ذلك من إحباط وقهر وانعدام الاحترام والاعتراف المتبادل بين الذوات، مشيرا إلى أن الهويّة والاعتراف بالذات ينطلقان من الترابط المتين بين المجالين. إذ لم تعد الهويّة تعبيرة سيكولوجيّة أو عاطفيّة انفعاليّة ولا معطى جاهزا يتّسم بالثبات ويتّصل بالماضي، وإنّما أضحت مطلبا قانونيّا وأسّا في فلسفة العدالة وحقّا إنسانيّا، ضمن تصوّرات ما بعد الحداثة.

ومن ثم كانت مداخلة للكاتب و المناضل مروان عبدالعال ، قال فيها:

يعيد صياغتنا كلما تبعثرنا ويدمجنا في كيمياء روحية، كأبطال وصور وعناصر ومشاهد وحكاية المثيولوجيا المفعمة بكل تفاصيل التغريبة الفلسطينية الطويلة والمتجددة. هذه الكتلة المتماسكة والمركبّة اسمها غسان كنفاني المثقف العضوي الذي لا تنفصل فيه الثقافة عن الممارسة ولا الأدب عن السياسة، وهو المناضل الذي يحمل براءة اختراع مصطلح «أدب المقاومة» واستخدمه أول مرة في العالم إذ ذكره لأول مرة في مقال له نشره عام 1966، ودافع عن مفهوم أدب المقاومة في أعماله كلها. فنحن نتحدث اليوم عن أدب المقاومة في زمن من بات يسأل هل ما زال هناك أدب مقاومة؟ في زمن المناقصة والسقوط والخراب والدونية، وما يمكن أن يسمى "متلازمة هرتزليا" العقدة النفسية حين وجدنا شغف وإعجاب الضحية بجلادها.

بدمه كتب لفلسطين وترك خلفه رجالًا أرادهم أن يكونوا عظماء فوق الأرض أو عظامًا تحتها، وأن لا يرتدوا حتى يزرعوا فيها جنتهم، وفتية وابطال شباب وصبايا في الأسر كما القائد أحمد سعدات ومعاقل البطولة والشهداء، كالبطل المضرب عن الطعام بلال كايد، فكرته الحيّة في هذه الأجيال وهي كلغز الموت الفلسطيني الذي يظل ساخراً من القدر، هكذا مضت سنوات على غيابه فاختمرت الحياة برموز الأسطورة في روح كلماته ومغزاها. يحضرني دائماً المفكر العروبي المرحوم "منح الصلح" الذي أناط اللثام عن السر يوم قدم نصيحة ثمينة للكاتب الشاب غسان، لا تكتب نصاً ليُرضي "كوادر الجبهة الشعبية"، اكتب إلى أدب الدرجة الأولى". وعندما استشهد غسان رثاه المفكّر الألمعي عينه، بوصفٍ جميل: " لقد كان قادراً على أن يجعل المادة الأيديولوجية تختفي وراء الإمتاع الفني الكتابي ووراء الخبر الجذّاب، كما تختفي الفيتامينات في برتقالة يافاوية أو صيداوية شهية، ويا له من مهرّب حاذق يحسن سوق المفيد في لفائف المثير والمخدر والمستطاب. أدب المقاومة ليس شعارتياً ولا هو مهنة ولا مادة التعبئة العامة او التفويض السياسي، "الأدب هو علم جمال" المقاومة، موقف وقضية إنسانية مكنت غسان أن يجترح من هذا الواقع أسطورته الخاصة، مؤمناً بقول بريخت: "من يكتب أدبًا رديئًا فإنه يخون الجماهير"، كتابة ونضال وشهيد، قصة وبحث ورسم ولوحة ودراسة، مجلة وجريدة ومقال ومقابلة وسؤال وقفشة ودبوس، كلمة وطلقة وفيلم وزهرة، ورقة وقلم وحبر ودم، وطن ومخيم، غسان توقيع جديد واسم مستعار وسخرية سوداء، أبو العز وفارس فارس وغسان مؤتمر وصحافة وسفر وفرح وحزن وغضب وعشق وانفجار. غسان الذي امتلك استراتيجيته المقاومة الثقافية الشاملة التي عجزت عنها أنظمة وأحزاب ومؤسسة كاملة. وصاغها من خيوط ملونة فيها أحلام جماعية وحوافز إنسانية ورغبات سياسية وقيم وغايات نبيلة ولكن في بوتقة واحدة، قماشة تسمى الأسطورة حيث تحتفي بها كل الأشياء وتظل مرتبطة بالأسئلة الوجودية الكبرى، يحتاج إدراكها الى الإمساك بالتخوم الخفيّة في صورة الهوية التي تلامس أسرار وجودنا ومن نكون. السؤال الذي دقّ به غسان كنفاني جدران رؤوسنا عقب هزيمة 1967، في صدى الفراغ الذي ارتعش في آذاننا، باكتشاف سهل وممتنع بأن يسألنا ويسأل ذاته: "ما الذي حصل لنا يا ترى، ولماذا حصل ما حصل؟ وهل ثمة خطأ في المعادلة؟ ودائرة الفكر السياسي المحكم عند غسان كنفاني، ترفض أن تلتقي الحقيقة بصورة عابرة ولا يشبع ذاته نصفها. تجده يغوص في المعرفة يبحث بأسئلته في أصل الأشياء، يعيدها إلى منطقها فتتحول إلى أجوبة متعددة كي تستعاد، لتتحول مرة أخرى إلى أسئلة جديدة، واحتمالات وأبحاث جديدة. "عن ماذا" وعن "اللماذا" تلك التي أزعجت أنظمة النكسة عندما طرح سؤاله المشروع: لماذا النكسة؟ وليجيبه أحد المخبرين برسالة مكتوبة بالخط الغليظ والوقح والصريح. "يا ود إنت مش حتبطل( اللماضه) بتعتك؟؟؟".. بقصد سؤال " لماذا".. عالمه الأدبي المحكوم بهذه المنهجية الفكرية، يطرح القضايا بعقلانية شديدة ليتابعها ويعالجها بالسؤال، كما في روايته "رجال في الشمس" يحكي لنا عن أبي الخيزران، مجاهد قديم، تحوّل إلى مهرّب، بعد أن فقد ذكورته في إحدى المعارك، يريد لنا أن نكتشف رمزية السلطة وعلاقتها بنا في لحظة ألم وموت للقدرة والرغبة معاً، ضياع رجولته فضياع الوطن. ثم يأتي إلينا السؤال مفتاح الحل: " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ ". لا يريد غسان كنفاني أن نقبل الهزيمة صامتين وأن نقابل الموت مكتوفي الأيدي! هو السؤال القائم والمقيم خلف كل هزيمة، المرتد كالصدى يلامس وحده الزمان والمكان تراكماً وتكاملاً على طول المساحات والمستويات. في كل مرة يتحول البعض إلى مواد مهربة، لا فرق على أي حدود يهربون صحراء لاهبة أم داخل مدن الضباب الباردة، منها أم إليها، بالبحرأو الرمل، ودائماً يقود الصهريج " أبو خيزران". متى انحرفنا عن الطريق لن نصل هذه هي المعادلة، وإن وجدنا أنفسنا محشورين في خزان لقيادة تهريب وسمسرة وخداع مكبلة وعفنة وسلطة عاقرة محطمة تستكين مع عدوها الذي يصير شريكها وحليفها الذي يصير عدوا. على الأغلب أن رجال في الشمس دقوا ولكن لم يسمعهم أحد سوى الصحراء القاحلة، وربما سمعهم من لم يستطع فعل شيء وقتلهم بعجزه، فتساوى القتل بالصمت والقتل بالعجز. لكن السؤال صار ليس لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟ بل باقتلاع الخزان.. والسجان وهذا السجن الكبير والمميت. وذهب غسان كنفاني إلى مدى السؤال في ثلاثيته الدراسية، يصالح الماضي بمراجعته لثورة 1936، يصالح الذات في معرفتها، في دراسته عن " الأدب المقاوم تحت الاحتلال ". وفي دراسته الثالثة يطرح معرفة العدو، في دراسته عن "الأدب الصهيوني". ليبين لنا عمق الصراع، مفهومه ومستقبله، ثلاث دراسات في بنيان معرفي للتاريخ، للذات وللآخر، كأنه يريد القول أن التناقض الرئيسي بوجهيه لا بد من حضورهما في بنيتنا الذهنية. 1. ففي دراسته "ثورة 1936، خلفيات وتفاصيل، قراءة لتجربة تؤكد عمق مفهومه للإستمرارية التاريخية. يعطي مفهومه للعلاقة مع الواقع والماضي واستقراء التجربة والتاريخ، للبحث دائماً عن أسباب الفشل، والتي كانت القطيعة واحدة منها. خلص إلى سر الهزيمة: " الذي لا يقاتل يقود والذي يقود لا يقاتل"، أما في دراسته الثانية للأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، يكتشف في مقدمته "أن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليس أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة بذاتها.." ثم يعود فيؤكد أهمية الثقافة بأنها "الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرارها وتحيطها بالضمانات". في هذه الدراسة يضيء على نواحٍ مغيبة في رؤية معرفة ذاتنا وقدراتنا ومواردنا كي نستثمرها في الصراع، وعلى القيمة ذاتها للأشكال والتعبيرات الأخرى. وهو الذي ردد في أكثر من مناسبة " الكلمة بندقية " بفعلها وقوتها ومسؤوليتها. وفي دراسته الثالثة، يجري محاولة في معرفة الآخر، العدو الذي يقف على الجبهة الأخرى في الصراع، والتي لا تستكمل معرفة حقيقتنا من دون معرفة عدونا "اعرف عدوك، تعرف نفسك". ويستعرض قدرة العدو وإن اكتفى بها على جبهة اللغة والأدب والعلم عامة، فيكتب غسان كنفاني ليقول: إن الصهيونية على هذه الجبهة" تخوض قتالاً مريراً لا يوازيه في تاريخها إلا القتال على جبهة كاملة هي جبهة رفض الاندماج". شخصية شيلوك إلى اليهودي التائه إلى المحنك والعبقري. جورج أليوت التي أطلق الصهاينة اسمها على أول شارع بعد الاحتلال، مذكراً أن الصهيونية الأدبية سابقة على الصهيونية السياسية، وأن هيرتزل بدأ روائياً ثم سياسياً.. ويعتبر أن منح جائزة " نوبل " لأول كاتب صهيوني هو "شومائيل عجنون" بمثابة وثيقة وعد بلفور أدبية "وكأنه أراد القول: إن جبهة الصراع تطال حتى "نوبل" وإنها انعكاس لدور العقل واستخدامه في الصراع، وإن معاييرنا ومناهجنا في مواجهة العدو يجب أن ترتقي إلى السؤال ذاته، ولا يكفي أن يبقى هذا العدو مجرد" الشر" الذي يشتم في خطاباتنا والحاضر فقط في أهدافنا، والغائب عن معاييرنا ومعرفتنا. قد يجد المرء صعوبة في هذه العجالة قراءة للمنهج الفكري لغسان كنفاني في كل ما كتب، وخاصة صعوبتها في محاولة قراءته في أدبه وقصصه من خلال صوره وأسئلته مهما بلغت رمزيتها، فصعوبتها هي في جمعها في نص يكتب تكريماً له، لا يستطيع إلّا أن يكون مروراً أفقياً على بعض عوالمه من كل مقام له. هي مكوّنات وانعكاس لذات المنهج الفكري الصحيح في قصة قصيرة جداً من مجموعة "عالم ليس لنا " أطلق عليها غسان كنفاني "زمن الاشتباك " يطرح علينا سؤال الوجود، وما هي الوظيفة ارتباطاً بالوجود؟ يقول في سطور منها: كان ذلك زمن الاشتباك، أقول هذا لأنك لا تعرف: أن العالم وقتئذ يقف على رأسه لا أحد يطالب بالفضيلة. إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك تكون مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى.. أي أن تحتفظ بنفسك حياً وفيما عدا ذلك، يأتي ثانياً ". وفي بداية القصة، يقول معرّفاً زمن الاشتباك وهو ما يختلف عن مفهوم الحرب " كان في ذلك زمن الحرب، الحرب ؟ كلا، الاشتباك ذاته.. الالتحام المتواصل بالعدو.. لأنه في أثناء الحرب قد تهب نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه راحة، هدنة.. إجازة تقهقر.. أما زمن الاشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة.. أنت دائماً تمر بأعجوبة بين طلقتين.. وهذا ما كان كما قلت زمن الاشتباك المستمر ". غسان في قصة قصيرة يطرح أسئلة كبيرة وعميقة، يعرض مفهوم الزمن، حرباً أم اشتباكاً.. أي الصراع المستمر بأشكال لا ضرورة أن تكون عنفية وإن لم تسمح قدرتنا بها، لذلك فلحظة السلام! أو التقهقر أو الهدنة أو الراحة لا تعني أن الصراع قد توقّف إن كان قد يعني التوقف يكون استسلاما أو سقوطاً او انكسارًا، ويعالج سؤال الوجود، ليس كمأساة تستحق الشفقة، بل عمق الإنسان وجود ووجدان، واقع وحلم، حفظ الوجود. أن تحتفظ بنفسك. وما عدا ثانياً.. لأن الصراع طويل مستمر، هو التحام متواصل، هكذا يعرفه غسان، أي أن هذا الالتحام وهو الصراع ما زال يمتلك أسباب استمراره موضوعياً وإلا لماذا الفضيلة بحفظ البقاء وما عدا يأتي؟ هو مؤجل ولكن ليس ملغياً إن لم يكن هدفاً آنياً ومعلناً. لن ننسى مواصلة القرع على جدران الاحتلال وجدران الموت والظلم والقهر والغربة والكتابة في سبيل الحياة، لذلك نحن جيل الانتظار والوعد القادم والسؤال الذي ولدنا فيه ونقيم فيه ” كن رجلاً تصل إلى عكّا في غمضة عين، أمّا إذا كنت لاجئًا فقط فلن تراها أنت ولن يراها حتى أحفادك“. سلاحنا بطلك المخيمي المثيولوجي حفيد "أم سعد" التي مازالت في مخيمات البؤس على وجع وفزع وشتات، يتجدد بانتظار لحظة شروق جيل "العائد إلى حيفا" إلى "أرض البرتقال الحزين" هويتنا إلى فلسطين الحقيقية، هو جيل الانقلاب الموعود، والمعادلات الصحيحة. ندرك مسؤليتنا التاريخية لما مضى ومسؤليتنا لما يلي.. كتب عن استشهاده محمود درويش : “طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة، لا تكفيه رصاصة"

المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بيروت، لبنان.

الثلثاء في 19-7-2016










تعليقات: