المواطن الصابر وغياب المؤسسات

أحمد حسّان: القوانين التي تحكم الحركة الإقتصادية شيء، والواقع السياسي والإقتصادي شيء آخر
أحمد حسّان: القوانين التي تحكم الحركة الإقتصادية شيء، والواقع السياسي والإقتصادي شيء آخر


تشير الإحصاءات والدراسات والتي أجرتها وتجريها المؤسسات الدولية والإدارات والمؤسسات اللبنانية إلى أن الفقر في لبنان بلغ أعلى معدلاته، وهو إلى تزايد واتساع مع إرتفاع أرقام البطالة ونسبة العاطلين عن العمل، وهي نسبة تجاوزت الثلاثين في المئة بحسب وزارة العمل. وتشير هذه الدراسات أيضاً إلى أن نسبة الفقراء من بين اللبنانيين المقيمين قد تجاوزت 60% منهم. وبحسب دراسة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) للعام 2008 (بالتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعية) تبين أن أكثر من 28% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر بأقل من 4 دولارات يومياً. وأن برنامج وزارة الشؤون الإجتماعية الذي يقدم مساعدات للأسر الواقعة تحت خط الفقر الأدنى، قد أشار إلى أنه يقدم مساعدات لأكثر من 40 ألف عائلة لبنانية، من أصل 70 ألف عائلة تقدموا بطلباتهم من أجل الحصول على هذه المساعدات، وتأكد ميدانياً من حاجتهم لها، وهم غير قادرين على سد حاجاتهم الضرورية من غذاء وماء وكساء ودواء وطبابة وتعليم واستشفاء.

يتجاهل المسؤولون هذه الارقام ويخرجونها من حساباتهم السياسية، إلا إذا كان لهم مصلحة في إثارتها. فربطة الخبز، التي طالما كانت تشكل المؤشر الأساسي لأسعار السلع، باتت محل تجاذب وأخذ ورد ودخلت في لعبة السياسة والإقتصاد وتنازع الارباح وتقاسمها، وأدخلت المواطن في دوامة من الأرقام المغرضة وغير الصحيحة، لتبرير الأموال الطائلة التي تذهب إلى جيوب أصحاب المطاحن والأفران والتجار والسماسرة والمشبوهين بغير حق، وعلى حساب المواطن وحساب عرقه وتعبه ولقمة عيش أطفاله.

أما أسعار المحروقات التي إنخفضت بأكثر من 65% خلال فترة وجيزة، فإنه يجري التذرع بذلك لزيادة الضرائب عليها، بدل الإستفادة من هذا الإنخفاض لخفض أسعار السلع الإستهلاكية، خاصة أن المحروقات تدخل في تركيب كلفة انتاج أكثر من 90% من السلع الإستهلاكية الأساسية التي يستهلكها المواطن، وأن الوفر التي ترتب عن إنخفاض أسعارها بلغ مليار دولار ونصف في مؤسسة كهرباء لبنان فقط، عدا عن مئات الملايين من الدولارات في الإدارات والمؤسسات الأخرى، والتي لا نعلم أين ذهب هذا الوفر.

لقد باتت فوضى تحديد الأسعار تتحكم في الأسواق الإستهلاكية، دون رقيب أو حسيب، ودون الإستناد إلى أية معايير علمية أو إقتصادية حقيقية، حتى بات المواطن عاجزاً عن مجارات ألأسعار وسد حاجاته اليومية والضرورية، وليس من الصدفة في شيء أن البنك الدولي والإتحاد الأوروبي صنّفا لبنان مؤخراً على أنه الأغلى في المنطقة، علماً أن الأسعار كان يجب أن تنخفض فيه لسببين أساسيين:

- هبوط أسعار المحروقات بما يتجاوز ال 65% خلال سنة واحدة.

- هبوط أسعار اليورو، خاصة أن 30% من واردات لبنان الإستهلاكية هي من أوروبا.

لكن لسوء طالع المواطن اللبناني، فإن القوانين التي تحكم الحركة الإقتصادية شيء، والواقع السياسي والإقتصادي شيء آخر.

ويُجمع العديد من المحللين الإقتصاديين على سببين رئيسيين لهذه الفوضى وانفلات الأسعار :

- سياسة الإحتكار التي تمارس بحماية السلطة وموافقتها.

- غياب إدارات ومؤسسات الدولة، وتلهي المسؤولين في المناكفات السياسية العقيمة.

لم يعد من المجدي على السلطة السياسية أن تمارس سياسة النعامة في دفن رأسها بأوحال الإحتكارات، ولم يعد من المقبول أن تتذرّع جمعيات ونقابات التجار والصناعيين وأصحاب رأس المال بحماية النظام الإقتصادي الحر، فمكافحة الغلاء والفساد والإحتكار لا يمس بهذا النظام، وما على الحكومة إلا المسارعة، ولو متأخرة، إلى وضع التشريعات اللازمة لحماية المستهلك وتحديث وتفعيل العمل بالتشريعات والقوانين والمراسيم والقرارات الإدارية المرعية الإجراء، وأن تقتدي بالدول الأوروبية وأميركا في وضع قانون للمنافسة ومكافحة الإحتكار، وللذين يدّعون الحرص على النظام الإقتصادي الحر، نذكرهم بأن الولايات المتحدة الأميركية (وهي أم الإقتصاد الحر) كانت قد أصدرت أول قانون لمكافحة الإحتكار منذ العام 1894، أي منذ أكثر من مئة وعشرون عاماً.

أما الكلام عن غياب الإدارات والمؤسسات العامة والهيئات الرقابية المالية والإدارية وهيبتها واستقلاليتها فلم يعد يجدي ولا طائل منه، ويكفي أننا في دولة لا رئيس جمهورية فيها، ومجلس للنواب ممدد لنفسه، ومجلس للوزراء عاجز حتى عن تصريف الأعمال، ومجلس دستوري معطل، وقضاء محكوم بقوانين بالية، وبآليات عمل قاصرة.

أين مجلس الخدمة المدنية، أين هيئة التفتيش المركزي، أين المجلس الإقتصادي والإجتماعي؟ أين مجالس العمل التحكيمية، أين المؤسسة الوطنية للإستخدام، أين محكمة حماية المستهلك، أين المؤسسة الوطنية للمقاييس والمواصفات، أين الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وتقديماته المجتزأة، أين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات، أين الوزارات المعنية بحماية المواطن وتأمين حاجاته؟...إن غياب هذه المؤسسات التي يقع على عاتقها مسؤولية الإقرار والتنفيذ والمراقبة وتقديم الخدمات للمواطن بات في حكم الامر الواقع، وهو ما يتسبب في إستشراء الهدر والفساد وازدياد النهب المنظّم في الإدارات والمؤسسات العامة، وبات يحرم خزينة الدولة مئات ملايين الدولارات سنوياً، ويتسبب في هدر ونهب مئات الملايين الأخرى التي تذهب إلى جيوب أصحاب النفوذ المالي والسياسي والطائفي.

هذا المواطن الصابر، الذي يؤمن بالدولة ويعطيها يومياً أغلى ما يملك، يستحق منها ومن مسؤوليها ومؤسساتها كل الإهتمام والرعاية، وقبل فوات الأوان، منعاً لوقوعه في أحضان التطرف، خاصة أننا نعيش في دولة الطوائف والمذاهب، وأن لهذه الطوائف والمذاهب قياداتها ودويلاتها ومؤسساتها المستعدة في كل وقت لتقديم رعايتها وحمايتها المشبوهة والزائفة لإقناع المواطن بالإنخراط في مشاريعها وتحقيق أهدافها على حساب الوطن ووحدته ومنطق الدولة فيه.

عاهدنا المواطنين اللبنانيين على المساهمة في كشف بؤر الفساد والمفسدين، وحض المسؤولين على القيام بواجبهم في خدمة المواطنين وتأمين حقهم في العيش بأمان في وطن محرر من الخوف والفقر والحاجة والإستجداء والفساد والمحسوبية، وهو ما نحن ذاهبون إليه بمساعدة الشرفاء في هذا البلد من أجل "عامل حر في مجتمع سعيد".

* أحمد حسّان (أمين الإعلام في جبهة التحرر العمالي)

بيروت، في 10/02/2016

تعليقات: