سيرةُ كتاب: رواية «ملحمة الخيارات الصعبة»


لا يُحزنكم ولا يهُزكم ولا يحُط من قدركم كثرة الفضائع وما يُحاك من دسائس بحق الإنسانية من قبل قوى الشر، فالأخيار كثر، منهم من قضى نحبه وطُويت سيرته لترتفع نجمةً في السماء، وآخرون أسعفهم الوقت، فاقتنصوا سويعات من أيامهم مسجلين سيرهم الذاتية.

ذلك حال كتابنا لهذا الأسبوع «ملحمة الخيارات الصعبة» التي تروي سيرة حافلة، حررها شوقي رافع، عن حياة الدكتور كامل مهنا المولود في بلدة الخيام، مروراً ببقاعٍ متعددة من العالم، ومازال عطاؤه مثالاً يتجسد من خلال مؤسسة عامل الدولية.

بدأت فكرة كتابة السيرة من النبعة في بيروت أبان الحرب الأهلية اللبنانية، كثُرت حينها إشاعات موت الطبيب الوحيد الذي جابه الموت ليبعده عن نفسه وعن الجرحى والمصابين في ظل حرب طوائف داست كل القيم الإنسانية، فالحق منحصرٌ ومستعبدٌ عند كل طرف دون غيره. اتصل الكاتب شوقي رافع - محرر هذه السيرة - بالدكتور كامل خلال حصار النبعة متسائلاً عن حاله وموعد كتابته لمذكراته كأمنية ضمنية داعية لخروج الدكتور سالماً من ذاك الحصار، ليجيبه كامل ضاحكاً عندما يصبح اليوم 25 ساعة! بعد مضي 32 عاماً على تلك المكالمة وقعت المعجزة، ونجح الحكيم على مدار ثلاثة شهور من استقطاع ساعة يومياً يروي لآلة تسجيل محطات حياته المتنقلة، مُظهراً محاولات لا تعرف الكلل في سبيل المحافظة على أرواح البشر. ويختم الكاتب شوقي رافع مقدمة الكتاب بعبارة «ولا يزال كامل مهنا يقاتل على خطوط التماس... وريادة المجتمع المدني في لبنان»

يتألف الكتاب من خمسين فصلاً، لكل فصل حكاية محبة أزلية مع القضية الفلسطينية، رفيقة دربه حتى النهاية. الفصل الأول «سقوط مملكة الرغيف الإنجليزي». وُلِدَ وترعرع كامل في بلدة الخيام الأقرب لحيفا في فلسطين منها إلى بيروت، ذكريات طفولته عن فلسطين بدأت بالرغيف الإنجليزي الذي طالما جلبه والده تاجر الخيول والماشية البسيط، وكذلك شقيقته وزوجها اللذان سكنا حيفا لفترة طويلة. ومن غير مقدمات توقف الخبز، لقد ضاعت فلسطين! أضاع كامل الكثير من ألعابه، لكن فلسطين ليست لعبة! فكيف تضيع!

تتداخل صور الطفولة من حزنٍ ومواقف مضحكة، فذات يوم وبينما يتسكع مع رفاقه مروراً بجانب نافذة بيت بطرس سمع من المذياع «إن زلزالاً سياسياً سيضرب لبنان» ارتعب وصرخ برفاقه هل سمعتم؟! إن زلزالاً سيضرب بلدتنا، انتشر الخبر بسرعة مما أصاب الناس بحالة رعبٍ تراكضوا خوفاً في كل صوب. أجرى المخفر من جهته اتصالاته للتأكد، ليتبين عدم صحة الخبر! كاد كامل أن يسجن في طفولته لولا تدخل والده، الذي سأله موبخاً لماذا تنشر مثل هذه الإشاعات؟ فيرد جاداً، أقسم أنني سمعت في المذياع بأن زلزالاً سياسياً سيقع! «ضحك الوالد حتى كاد ينقلب على قفاه» كان ذلك درسه الأول في السياسة. تستمر الحكاية ساردةً كفاح والد كامل لتعليم أبنائه، الذي رفض أن يكون فرداً تابعاً في قطيعٍ يقوده الإقطاع السياسي.

بعد انتهائه من التعليم الثانوي - الذي تشكلت خلاله بدايات وعيه السياسي - انتقل إلى فرنسا لتبدأ مرحلة جديدة من حياته. وازن خلالها بين دراسة الطب والحب والسياسة، متداخلةً أحداث مفاصلها الرومانسية والدرامية القريبة من الخيال. حين وقعت النكسة تهاوى من حول كامل وأصحابه عالمٌ بأكمله، ليجدوا أنفسهم أذلاء مهانين في صقيع الغربة. إلا أن هذا الإنكسار لم يدم طويلاً، فهاهي الثورة المسلحة في عدن تنتصر مُخرجةً القوات البريطانية مدحورة عن أرض اليمن، الأمر الذي منح وقوداً لثوار ظفار ذلك الخطر الذي أربك الغرب حيث تخوم منابع النفط، وتزدحم الملائكة من حولهم حاملةً آمالاً واعدة - بحسب تعبير الكاتب - فهاهم مقاتلو الفيتكونغ في فيتنام يقارعون أميركا العظمى، وكوبا كاسترو قد دفنت الطاغية باتيستا وأطلقت الرمز الأممي إرنستو تشي غيفارا، وماوتسي تونغ يحلق ممتطياً تنين الصين الأصفر ومن خلفه جموع الفلاحين، وكيم أيل سونغ حبيب كوريا، إلى الاتحاد السوفياتي حاضن البروليتاريا العالمية. انتمى كامل فكرياً لليسار دون أن يدخل دهاليز أحزابه المتعددة فصرخات الحرية والكرامة الإنسانية هي ما يجذبه. وقف مع القومية العربية وانتقل للأممية بما تحمله من معانٍ إنسانية بعيداً عن التأثيرات الفكرية الجامدة المعلبة. تخرج من فرنسا بعد أن احتل وزملاؤه السفارة اللبنانية مرتين خلال فترة دراسته احتجاجاً على أحداث جسام، في المرة الأولى كانت كالنزهة أما الثانية فقد كادت أن تكلفه إنهاء مسيرته الدراسية وهو في عامه الأخير لولا تدخل السفراء العرب واحتجاجات الاتحادات الطلابية، لقد كانت له مكانة مميزة في كل تلك الأوساط، إلا أنها لم تفقده تواضعه ومحبته للآخرين منطلقاً من إنسانيته العابرة للطوائف والمذاهب والأعراق والأجناس.

توقف الدكتور كامل مهنا بعد تخرجه على مفترق طرق، أما الاستمرار في العمل كطبيب في إحدى مشافي باريس حيث عمل فيها خلال سنته الأخيرة من الدراسة وبراتب مجزٍ، أو الذهاب إلى كندا لإكمال تخصصه والعمل بمستشفياتها بعدما اجتاز امتحان القبول، أو العودة للوطن والاستقرار في بيروت لينضمّ لصف النخب لما تحمله المهنة من عوائد مغرية. تساقطت كل هذه الخيارات كأوراق الخريف، فربيع حياته هناك حيث الخطر محدق بالبسطاء من الناس في قلب البؤر الثورية.

تُجسد فترة الستة شهور في ظفار روايةَ عشقٍ للحياة والإنسان قضاها في معالجة كل محتاج في سهول ومغاور جبالٍ اشرَفت على بحر العرب تاركةً خلفها الربع الخالي. تدور الفصول بسرعة تمر على المآسي والأفراح والأتراح بصيغة أبدع فيها الكاتب شوقي رافع، مشوقة لا تخلو من الفكاهة حتى في بعض المواقف المرعبة، بأسلوب أدبي رائع يعكس شخصية صاحب السيرة، ذلك السائر مع الأمل يداً بيد دون يأس أو تخاذل، متجاوزاً كل إغراءات المناصب الحزبية والحكومية، فحياته كما يروي قامت على ثلاث ميمات شكلت محور حياته «المبدأ والموقف والممارسة» ويعتقد الدكتور كامل أن جميع أمراضنا الاجتماعية والسياسية هي حصيلة التناقض الفاضح عند البعض حين ينفصل المبدأ عن الموقف أو حين يجتمع المبدأ مع الموقف وينفض الجمع حين الممارسة.

غالباً ما تخرج الرويات من رحم الواقع لتحكي تجربة شخصية أو جمعية، وهذه الحكاية سيرة واقعية لرجل حافظ على إنسانيته حتى هذه اللحظة رغم محاصرة قوى الظلام، إلا أنه يكاد يجزم بأن الخلاص يكمن في أيدي شباب هذه الأمة.

لن نفقد عزتنا وكرامتنا فالخير يَقضي ولا يُقضى عليه.

..

* وليد النعيمي - المنامة

(عن صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4823 - السبت 21 نوفمبر 2015م الموافق 08 صفر 1437هـ)

تعليقات: