مجدداً على دروب العروبة والإسلام

الأستاذ الدكتور نسيم الخوري
الأستاذ الدكتور نسيم الخوري


تفوح روائح الموت من بعض العواصم العربيّة، وكأنّه يتمّ تنظيف الأذهان من ركام العروبة المتلاشية لتستبدل بتشظيات إسلامية وتنوّعات إرهابية، ومعها تشتدّ التعقيدات التقليدية الهائلة بين العروبة والإسلام. وتحفّز التشوّهات الحاصلة والإنقسامات المتفاقمة على تجليس التاريخ "الثوري" الربيعي في مكانٍ ما من الأدمغة نحو يقظات قوميّة/إسلامية يعاد تشكيلها في مصر، مثلاً، بالإستناد الى التجربة الناصرية وفي العراق وسوريا بالإستناد الى منطق الممانعة والثورة الإسلامية في إيران. هي عودة شاقّة الى زمن القوميات التقليدية بقدر ما هي حنين نرجسي يقوى ويشتدّ أو يضعف ويتراخى على إيقاعات القتل المتنقّل. ويفرز هذا المناخ ضرورة التذكير بالمقولات المعروفة المتكررة التي حفل بها القرن العشرون والتي تحصر علاقات العرب والمسلمين في نمطين يتوزّعان في أربع وحدات جغرافيّة :

1- النمط التمايزي النظري: أوصل هذا النمط الفكري وللأسف أحياناً العروبة والإسلام الى درجة الإنفصال التام. كبّل النمط إشكاليات الموضوع بجدليات ونظريات لم تفض الى نتائج حاسمة. وبقي التمايز صارخاً في القول كما في النصوص بالرغم من الحروب التي أورثها هذا التمايز، وهي لم تخلّص الفكر من إرث هذه الجدليّة المتراكمة. ويكاد ينحصر هذا النمط في البقعة التي عرفت بالهلال الخصيب أي لبنان وسوريا والعراق وفلسطين على إعتبار أنّني أخرج قبرص من مجموعة أنطوان سعادة في هلاله لأنّني مثل غيري لم أسمع صياح الديك القبرصي في تلك البلدان الأربعة وخصوصاً بعدما إنفصلت الى قسمين. وقد أدّت كثرة المذاهب والأفكار الى دفع الفكرة القوميّة الى حدود إستيراد العلمنة وحتّى الإلحاد، واحتلّت العروبة العلمانية حيّزاً كبيراً من الحضور السياسي والإجتماعي. وقد ارتكز المفكرون الذين زعموا التنوير في هذا الأمر على قاعدة النزاع مع العصبيّة الإسلامية/ التركيّة في الأساس يلجأون إليها لأدنى الأسباب في ترسيخ فكرتهم المستحيلة. وعلى الرغم من هذا الحراك المستمر بعد النكبات المستمرّة التي ألمّت بلبنان ثمّ بالعراق وسوريا، راح هذا الهلال يتحوّل الى هلالٍ من طهران ليصل الى جنوبي لبنان. وفوق هذا الهلال تدور منذ سنوات أشرس المواجهات بين المذاهب الإسلاميّة والدول المتحالفة بين شرق وغرب يجمعهما الإرهاب بصيغً ملتبسة.

2- النمط الإندماجي: وينسحب على منظومة الخليج العربي حيث كادت تنتفي مظاهر الإلتباس بين العروبة والإسلام الى حد كبير لأنّ الثقافة الإسلامية على مستويات الإجتماع والجهر هي السند والأساس وهما من منبع ديني واحد. لم يتغيّر هذا النمط بل إزداد تشدّداً وتلاحماً في الدين منذ الثورة الإسلامية في إيران 1979. هذا المستجد الإيراني والحضور الغربي والأميركي تحديداً المترسّخ في هذه البقعة من أرض العرب زاد في وطأة النقزة ليس بين الخليج والأقاليم الأخرى بل بين دول الخليج التي مدّت أيديها غرباً نحو المغرب العربي وشرقاً نحو الأردن بهدف توسيع الرقعة.

يقوى هذا النمط الإندماجي الى حدود غياب مفهوم العربي غير المسلم وخصوصاً في بلدان المغرب العربي. منذ أربعة عقود كان زملاؤنا من الطلاّب أوالأساتذة الجامعيون في جامعة السربون يصابون بالصدمات مثلاً ولا يهضمون فكرة أن يتكلّم العربيّة عربي غير مسلم. وعلى الرغم ممّا أنجزته وسائل الإعلام والإتّصال والتلفزيونات وشبكات التواصل الإجتماعي من تسهيل التقارب بين أبناء العرب، الأمر الذي عجزت عنه جامعة الدول العربية عبر تاريخها وأنشطتها ومؤتمراتها الكثيرة، فإنّنا ما زلنا نجد اليوم نخباً فكرية نتشارك وإيّاهم مؤتمرات وندوات في أقاليم عربيّة وأوروبية، تعتمرهم الدهشة إذ يصادفون عربيّاً غير مسلم يتكلّم العربيّة. قد يمكن فهم هذا الإلتباس المستمر في بلدان المغرب العربي الذي يرى العروبة في الإسلام والإسلام في العروبة والتي نعزوها الى التجانس الجغرافي والتجارب الإستقلالية المتقاربة وعلى رأسها تجربة الجزائر والرطانة اللغوية التي أورثها الإستعمار. قد يفهم العربي الشرقي العقل المغربي العربي الذي لبس عقل الغرب ومنطقه، وقد يفهم أيضاً الحدّة القائمة في طبعه ومعانيها ، ولكنّه لن يفهم قطعاً تلك الإندماجية المعلنة التي يصعب محوها لا بعدما أصبحت اللغة العربيّة لغة عالميّة ولا بعدما راحت الدول الكبرى تتسابق في تعليم سفرائها وقناصلها اللغة العربيّة.

يمكن حصر الوحدة الجغرافيّة الرابعة في مصر التي لم تحسم عبر تاريخها الطويل المصالحة أو التوفيق في إشكاليات العلاقة بين قوميتها المستندة الى تاريخ غني وقديم إذ تبرز الأشكال والصيغ والتحولات وفقاً للحكّام أوّلاً ولعروبتها وإسلاميتها وفي قلبها الأزهر ثانياً ولمشرقية الأقباط وعروبتهم أو تمغربهم. أمّا السودان الذي كان أوّل الداخلين لا الى التمييز بين العروبة والإسلام فحسب بل الى تقسيم جنوبه عن شماله، فقد يذكّرنا كيف كان أعضاء الحزب الشيوعي السوداني العريق كانوا يفتتحون جلساتهم بقراءة الفاتحة والصلاة ثم الإنصراف بعدها الى مناقشة شؤون الأمة العربيّة.

بقيت معضلة الإندماج في الشرق الأوسط ، بشكلٍ عام، كما في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، تستقطب جهوداً جبّارة لم تنجح بعد لكونها ،على الأرجح، تلامس بلاداً لها حضارات متمايزة كثيراً. ولهذا بقيت العين الغربيّة والأميركية منصبّة في استراتيجياتها المتنوعة على تلك المناطق بشكل حثيث.

الى أين من هنا؟

الى إعلان الدين براء من كلّ ما يحصل وتحريره من التلحّف به في التوظيفات السياسية والعسكرية وجعله شمّاعة في إستقرار المجتمع البشري، وبشكلٍ جامح عندما تصبح "داعش" ذروة الصورة وقدوتها في بقاع الأرض.

* أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه،لبنان - drnassim@hotmail.com

تعليقات: