قصة رجل أحرق نفسه وقفز عن جسر الكولا + Video

 أحد الشهود على محاولة الانتحار، يشير إلى المكان الذي قفز منه أحمد في الكولا أمس (عباس سلمان)
أحد الشهود على محاولة الانتحار، يشير إلى المكان الذي قفز منه أحمد في الكولا أمس (عباس سلمان)


قوى الأمن الداخلي تنفي اتهامات عائلة أحمد

بخطوات بطيئة، كما لو أنه يسير فوق زجاج متكسر، مشى أحمد فوق جسر سليم سلام، أمس، حاملاً بإحدى يديه حبلاً متيناً، بينما كانت مستديرة «الكولا»، أسفل الجسر، تحتضن ركاب وسائقي حافلات عمومية، قبل انتصاف النهار بنصف ساعة.

وقف الرجل الخمسيني وفرد ذراعيه على اتساعهما. جذب الحبل وربطه بالدرابزين المثبت عند الجسر، ثم سكب الوقود على جسمه ببطء يشبه سير خطواته البطيئة، فيما تدلى الحبل من الجسر، مرفقاً بصراخ أحمد: «أنا بريء، ظلمتني الدولة، وما بقي أمامي إلا الموت!».

رفع سائقو الحافلات والركاب رؤوسهم عالياً، متتبعين أثر صوت رجل يريد شنق نفسه حرقاً. نزع أحمد النظاّرة الطبية عن عينيه، بينما الحبل ينتظر الالتفاف حول عنقه، فيما أثر الصوت يتمدد صارخاً: «اقتلعوا عيني من محلها وظلموني!».

بسرعة، تحوّلت المستديرة الشعبية الشهيرة إلى باحة مفاوضات مذهولة: مواطنون وعناصر من استقصاء بيروت، يحاولون منع أحمد من ربط الحبل حول عنقه، إلا أن الرجل بدا مصراً، معانداً، فتقدمت حافلة عمومية إلى أسفل الجسر لتحميه من السقوط أرضاً، بينما هرع مواطنون يقطنون في المنطقة باتجاه أحمد لردعه عن الانتحار.

لكن ما إن رآهم يتقدمون نحوه مهرولين، حتى رمى الحبل مستعجلاً قبل تمكنه من ربطه حول عنقه، ثم أشعل النار في جسمه وقفز عن الجسر مرفرفاً، محترقاً، مرتجفاً، وإلى جانبه أوراقه الثبوتية وقد تبعثرت يميناً وشمالاً، يكسوها الرماد.

اقترب المارة وتجمهروا حول الرجل الخمسيني، محاولين إخماد النيران في جسمه، لكن عبثاً، فتم نقله إلى مستشفى «الجعيتاوي». حتى الساعة، أحمد غارقٌ في غيبوبة، فيما الحبل الذي أراد أن يطوّقه حول عنقه ليقفز عن الجسر محترقاً ومشنوقاً، لم يبق منه إلا أجزاء ذابلة يكسوها الرماد.

قبل قصة أحمد، الملتبسة في أسبابها، وبعدها، ثمة ملامح لوجه بيروت راحت تتغير منذ سنوات وتتبدّل، شيئاً فشيئاً، كأنها رماد يشتعل، ببطء يشبه بطء خطوات أحمد قبل أن يقفز محترقاً: في بيروت ثمة من يقتل زوجته، وهناك من يقتل والده، وأم تعدم زوجها. في بيروت ثمة رماد يغدو، مع مرور الأيام، وقوداً يشتعل فوق المدينة النائمة على جروحها الأزلية.

بعد قصة أحمد، وقبلها، ثمة مدينة وقرى تنزف جروحاً أزلية: فتى اسمه فراس حيدر، قرر السفر إلى الخليج لعلّه يجد ما يستر به عوز أسرته، فاختبأ في صندوق عجلات طائرة مغادرة إلى السعودية، ثم مات محترقاً. رجلٌ ستيني قتل زوجته وثلاثة من أولاده ثم قتل نفسه، بعد محاولة عبثية في التغلب على فقره. شاب اسمه حسين زعتر، فجّر رأسه في محل لبيع أسلحة الصيد في صور، إعلانا عن عجزه في قهر ظلم الفقر.

اتهام

تذرف ملاك ع.، شقيقة أحمد، دموعها وهي تنتحب وتحرك يديها بغضب حزين. تجلس خارج غرفة الطوارئ في مستشفى «الجعيتاوي». تقول إن الأطباء أبلغوها بوضع شقيقها: «موت سريري». تروي المرأة الخمسينية وقائع قصة أحمد، من وجهة نظر العائلة، قائلة إن القوى الأمنية «قامت بتلفيق تهمة الدعارة لأخي في العام الماضي، ثم عذبوه في مخفر حبيش واقتلعوا إحدى عينيه، وأجبروه على الاعتراف بأنه كان يشغل ر.إ. (مواليد 1996، سورية) في الدعارة».

وتقول ملاك إن شقيقها تأثر نفسياً بعد التعذيب لدى قوى الأمن الداخلي، ثم احتجز لمدة خمسة أشهر في سجن «رومية» وأطلق سراحه. تسأل: «كيف يكون مجرماً ويعمل في الدعارة ويتاجر بالبشر كما يقولون، ثم يخرج من السجن بعد 5 أشهر فقط؟». تلوّح المرأة بيديها عالياً وهي تصرخ: «أخي لبناني ومهندس الكتروني وليس مجرماً. بعد السجن في رومية، حبس نفسه في المنزل لمدة أشهر وامتنع عن تناول الطعام، وفقد سمعه ولم يعد يقدر على المشي. لو كان يعمل في الدعارة، لماذا انتحر اليوم (أمس) !؟».

في المقابل، يوضح العميد فادي خازن، الذي كان رئيساً لقسم المباحث العامة عندما أوقف أحمد بتهمة الدعارة، أن «أحمد لم يتعرض للضرب نهائياً عندنا في مخفر حبيش، وكاميرات المراقبة موجودة حتى الآن، وتثبت كيف قام أحمد بالاعتداء على رتيب التحقيق، ثم قام بضرب رأسه بالزجاج، فتضررت عينه»، مشيراً لـ «السفير» إلى أن «أحمد لديه سوابق».

أما عن قضية تلفيق التهمة وفق رأي عائلة أحمد، فينفي مصدر أمني مطلع على التحقيق، كل اتهامات العائلة، ويؤكد لـ«السفير» «وجود فيديو يوثّق بالصوت والصورة كيف قام أحمد بالاتجار بـ ر.إ وتشغيلها في الدعارة، مقابل مبلغ مالي»، مشيراً إلى أن «المتهم اعترف بما نُسب إليه، وتم توقيف شبكة دعارة تعمل معه في تشرين الأول من العام الماضي. أما كيف ولماذا أخلي سبيله، فهذا الموضوع متعلق بالقضاء، وليس بقوى الأمن الداخلي».

مجرم؟

لا يستبعد الطبيب المتخصص في الطب النفسي الدكتور ماجد كنج، أن «تكون المعاناة النفسية قد تراكمت لدى أحمد بعد توقيفه واحتجازه في السجن، بالتزامن مع شعوره المتتالي بالظلم»، موضحاً لـ «السفير»: «في المقابل، قد يكون شعر لاحقاً بالذنب في شأن قضية الدعارة، ما سبب لديه أزمة نفسية حادّة، خصوصاً إذا كانت القضية قد انكشفت أمام أقاربه ومعارفه، وأصبحت فضيحة».

ولا يعتبر كنج أن أحمد مجرماً، مبرراً ذلك بقوله إن «المجرم لا يؤذي نفسه، بل يقوم بإيذاء الآخرين، أي أنه كان باستطاعته اليوم (أمس) أن ينتقم ممن تسبب له بما حدث ويقتله ثم ينتحر، إلا أنه قام بمحاولة الانتحار عبر حرق نفسه، وحيداً».

بعيداً عن قصة أحمد، بأسبابها الملتبسة، ثمة من يقتله الفقر والعوز يومياً، بأسباب مُعلنة، وبعينين مغمضتين، هادئتين تستر جروحاً، تدفن أحزاناً تسبب بها «زعماء» اعتادوا النظر إلينا كأننا وقود في انتخاباتهم، يضمن جلوسهم فوق كراس مثتبة بحبل من وتد، فوق مدينة من رماد، يلهبها وقودنا.

تعليقات: