استعد للسَفَر


كما كُلَّ يَوم في نَفْس المَوْعِد حَضَر

قَصَد رُكْنَه المُعْتاد في مَقْهى الشاطِئ القَديم و جَلَسَ قُرْبَ حافَة الشُرْفَة و طَلَبَ القَهْوة و انْتَظَر

مَشْهَد الغُروب مُكَرَّر

قُرْص الشَمْس رويداً رويداً احْتَضَر و الليلُ بِتَثاقُلٍ حَضَر

تَدافُع المَوْج تَكَرَّر ... و رُذاذُ الماءِ لَفَحَ وَجْهَهُ و تَطايَر

شَرَفَ الفَتى جُرْعة مِن قَهْوتِهِ و أخَذَ نَفَساً عَميقاً مِن سيجارَتِهِ ثُمَّ نَفَثَ مِن أنْفِه العَريض دُخاناً كَثيفاً و زَفَر

و بِفَراغِ صَبْرٍ إلى عَقْرَب ساعَتِهِ عِدَّةَ مَراتٍ نَظَر

ثُمَّ شَيئاً فَشيأً اعْتَلى وَجْهَهُ مُسْحَةً مِن الغَمِّ و الكَدَرِ ... لِطُولِ ما صَبَر

و قيل أنَّهُ بَعْدَ القُنوطِ رَفَعَ رَأْسَهُ و حَدَّقَ في الأُفْقِ البَعيدِ كَمَّن يَشْكو أمْرَهُ لِلْسَماء ... ثُمَّ فَجْأة ... بَدا كَضَريرٍ وافاهُ البَصَر

يؤكِدُ البَعْضُ مِمَّن راوَدَ المَقْهى تِلْكَ الليلة أنَّهُ لِدَقائِق مَعْدودة بَدا مُتَفَرِّساً كَمَّن يَتَفَحَّص إنْعِكاس وَجْهُ الحَبيب بَيْنَ البَحْرِ و القَمَر

ثُمَّ بَدا كأنَّهُ يُنْصِت لِنِداءٍ خَفِيٍ مِن حَيْثُ مَنْشأ الريحِ صَدَر

و أنَّهُ كَمَّن فَهَمَ الرِسالة هَلَّ وَجْهَهُ لِلْخَبَر

و لِفَوْرِه صَعَدَ إلى حافَةِ الشُرْفة و نَزَعَ ثِيابَهُ و قَفَز

و حين لامَسَت قَدَمَيهِ الماء رَفَع ذِراعَيه كَأنَّما تَحَرَر ... ثم انْدَفَع يَجْري مُسْرِعاً على بِساطِ المَوج

قيل أنَّهُ لم يَبْتَعِد كثيراً بَل أنَّهُ ما لَبِثَ أن غاصَ كالحَجَر

بَعْضُ رواد المَقْهى ذُهِلَ لِغرابَةِ المَشْهَد فَتأسَّفَ و قال: \"عاشِقٌ آخَر ... و انْتَحَر\"

و البَعْضُ الآخَر جَزَمَ أنَّهُ شاهَدَ بَعْضُ الدَلافين تَتَلَقَّفَهُ ... و مِنْهُم مَن تَكَهَّنَ أنَّها قَد تَكون عَروس البَحِر

...

و قيل أنَّهُ حين أتى تِلْكَ الصَبِيّة الخَبَر

تَلَبَّدَ الغَيْمُ في عَيْنَيْها و اكْفَهَر

ثم كأنَّما هُدْبٌ في مُقْلَتَيْها انْكَسَر

فَانْهَمَر الدَّمْعُ مِن عَيْنَيْها كالمَطَر ... على الخَدَّيْنِ و الشَفَتَيْن الحُمُر

ثُمَّ تَقَطَّرَ مِن ذَقْنِها لِلْنَحِر

و مِنْهُ تَسَرَّب كالسِحْرِ إلى حَلَمِ الصَّدْرِ فَتَكَوَّزَ و تَوَرَّدَ و ازْدَهَر

و بَعْدُه تَدَفَّق إلى أوعِيَةِ القَلْبِ فَهاجَ و كادَ يَنْفَجِر

و بَعْدَما الدَّم اعْتَصَر... انْدَفَعَ الدَّفْقُ إلى المَبيضِ حَيْثُ عَشْعَش و تَعاشَر و بَذَر

و قيل أنَّهُ بَعْدَ المَخاض عوُد الطُفْلِ اشْتَدَّ رويداً و كَبُر

و أنَّهُ بِدَوْرِهِ عَشِقَ صَبِيَّةً تَقْطُن قُرْبَ الشاطِئ فأدْمَن تَرَقُّبها مِن المَقْهى القَريب حيثُ كان يَخْتَلِس مِنْهُ إليها النَظَر

و أنَّهُ ذاتَ يَوْمٍ دونَ جَدْوى إنْتَظَر

و بَعْدَما غَلَبَ عَلَيهِ القُنوط تَفَرَّسَ مَلياً بِالبَحْرِ ... و القَمَر

ثُمَّ فَجْأة و كَمَّن أدْرَكَهُ البَصَر ... قَفَزَ إلى حافةِ الشُرْفَة و نَزَعَ ثيابَهُ و رَفَعَ ذِراعَيه و اسْتَعَدَّ ... لِلْسَفَر

***

موضوه هيفاء نصّار "مرمريات في حنايا وطن 1‎"

تعليقات: