الشياح ـ عين الرمانة: متاريس.. الهموم المشتركة

المتاريس في الشياح عين الرمانة 1975 (أرشيف «السفير»)
المتاريس في الشياح عين الرمانة 1975 (أرشيف «السفير»)


تشتري أم فادي اللحمة من ملحمة عند تقاطع عين الرمانة – الشياح، ثم تنتقل مسرعة إلى الطرف المقابل، نحو شارع عبد الكريم الخليل ومنه تنفذ إلى زاروب محاذٍ وضيق، يوصلها إلى سوق خضار صغير، تبتاع ما تحتاجه ومن ثم تقفل عائدة إلى بيتها في شارع مارون مارون. «الصبحية» اليوم في بيتها والزائرات من «هنا وهناك»، في إشارة إلى عين الرمانة والشياح.

سقطت المتاريس أمام الهموم المعيشية الضاغطة، فالناس في المنطقتَين، حسب أبو علي المقيم في شارع مارون مسك في الشياح منذ أربعين عاما، يفتشون عن «الرخص وجودة البضائع بغض النظر عن كونها في أي شارع تقع. أما الحرب فلم يبقَ منها سوى آثار الرصاص على بعض الأبنية وبعض ما بقي في ذاكرة من عايشها، على ما يؤكد سمير خوري المقاتل السابق في «القوات اللبنانية».

يتحدث خوري عن الحرب ويقول إن «السلم الأهلي وهمي، فالقرار بالحرب ليس متخذا، وهو في ما لو اتخذ، فإنك سوف تجد المتاريس قد ارتفعت مجدداً». كما يعتبر أن «الناس تعيش حرباً اقتصادية حقيقية، ناهيك عن وجود تفرقة كبيرة بين المناطق تشعرنا بالغبن». يروي خوري كيف أن شرطياً بلدياً يستطيع أن ينظم محضر مخالفة لبائع جوال، في ما لو انتقل بعربته من أسعد الأسعد نحو عين الرمانة، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك مع البائع نفسه في أي شارع في الشياح أو في «الأسعد» حتى. يعيد الأمر إلى التعامل بتمييز بين الناس من قبل السلطات المحلية، أو لوجود قوى الأمر الواقع، علماً أن سمير يسهر لدى أصدقاء له في «حركة أمل»، ويتحدث معهم في كل صغيرة وكبيرة قبل أن يتفق معهم على أن السبب هو غياب الدولة عن القيام بمهماتها. وهو ما يشير إليه حسين بالمقابل، محملاً أجهزة الدولة الرسمية مسؤولية إظهار هذا الفارق بين المنطقتَين من ناحية القانون والخدمات وقيام كل مواطن بدفع ما عليه من موجبات (كهرباء وماء). بالنسبة لحسين السبب هو أن من يحكم لبنان اليوم زعماء الطوائف وأمراء الحرب السابقون.

نزار صاحب مقهى يجلس فيه أشخاص ينتمون لكل القوى السياسية، وكي يريح نفسه من النقاشات السياسية واشتعال الحوارات، فإنه عمد إلى نزع التلفاز من داخل المقهى. وأكثر من ذلك، هو يصرف انتباهه كثيراً إلى الأحاديث الدائرة وحين يشعر أن أحد الزبائن ينحو بكلام سياسي من شأنه إثارة الجو، يتدخل ويطلب صراحة عدم الحديث في القضايا السياسية.

أبو جورج (84 سنة)، الميكانيكي المتقاعد من الجيش اللبناني، يجلس في شارع كاتب العدل في عين الرمانة، مستعيدا ذكريات الحرب الأهلية. يعتبر أن «الذين قاتلوا بعضهم بعضا يجلسون اليوم على الطاولة نفسها. ويردف قائلاً: «راحت على الفقير». ثم يتحدث عن المنطقة وكيف كانت كل طريق صيدا القديمة حتى الرويس، مرورا بالمشرفية يملكها مسيحيون. عند السؤال عن افتقاد الشياح للسكن المختلط، بعكس عين الرمانة، يجيب شاهين: «هونيك أرتب». حيث تنسحب كلمة «أرتب» على الطرقات وإشارات المرور وتحويلات السير وغياب الشعارات الحزبية، باستثناء شعار وحيد مدموغ على حيطان المنطقة، كما لو أنه إعلان ترويجي «ما تبيع أرضك تتضل أجراسنا تدق». عناصر البلدية عند كل مفترق طرق في عين الرمانة، يعملون على تنظيم السير (بلدية الشياح هي من كبرى البلديات اللبنانية تمتد من المشرفية نحو الطيونة وصولا حتى مستديرة التحويطة شرقا وتضم ضمنا منطقة عين الرمانة)، فيما تفتقد الشياح لهذه المظاهر، قبل أن تطالعك شرطة «اتحاد بلديات ساحل المتن الجنوبي»، يقومون «بسد النقص»، ربما يعود ذلك الى وضع المنطقة كونها مستهدفة، فالإجراءات الأمنية مشددة عند مدخل كل زاروب في المنطقة تحسبا لأعمال إرهابية.

أحاديث كثيرة تحضر عند مستديرة المراية (حيث حصلت مجزرة البوسطة). للمكان رمزيته لدى شباب المنطقة، وهم في أغلبهم يؤيدون «القوات اللبنانية». يعتبرونه بمثابة نقطة تجمع، تماماً كما يصفون «المصبغة» في وسط شارع أسعد الأسعد بمثابة نقطة تجمع «للطرف المقابل».

أحاديث كثيرة تشتعل هنا، بدءا من حادثة البوسطة وصولا إلى يومنا هذا. البعض كان من الشهود العيان قبل أن يتحول إلى مقاتل على محاور القتال. يتحدثون عن تجربة صارت خلفهم لكنهم يرونها أمامهم، في ما لو كان هناك من قرار، جازمين في الوقت نفسه، أنهم غير مستعدين لحمل السلاح ثانية تحت لواء أي زعيم.

ترتفع متاريس وهمية في مخيلة شباب المنطقة ممن لم يعايشوا الحرب، فيما يرفضها من كانوا وقودها، من دون أن يتخلى أي أحد من الطرفين عن قناعاته التي تتعلق بأسبابها. في المقابل، يذهب الجميع إلى اعتبار أن الظروف الاقتصادية والمعيشية الضاغطة هي الحرب الحقيقية التي تواجههم والتي لا تميز بينهم سياسياً وطائفياً ومناطقياً. ويجمعون على أن الحل يكمن في تغيير سياسي يطال كل النظام.

تعليقات: