مرجعيون المتروكة: مئة عام من الهجرة.. لا تبدّل صفحاتها

1200 نسمة تقيم في مرجعيون شتاء وضعفهم صيفاً
1200 نسمة تقيم في مرجعيون شتاء وضعفهم صيفاً


قبل الاجتياح الإسرائيلي للجنوب في العام 1978، ترك مدير المدرسة الوطنية في مرجعيون لبيب غلمية بلدته ووظيفته تحت وطأة التهديدات الإسرائيلية وغادر مع عائلته إلى بيروت.

غلمية، وهو على فراش الموت في العام 1995، أوصى بعدم دفنه في مرجعيون طالما هي تحت الاحتلال الإسرائيلي. تحرّرت مرجعيون في العام 2000، عاد الجنوبيون إلى مدنهم وقراهم، ومعهم عادت رفات لبيب غلمية إلى تراب «الغالية مرجعيون»، كما كان يردّد قبيل الرحيل.

هذه الروحية الوطنية عبّرت عن نفسها بالتحاق قلة قليلة بجيش المتعاملين مع الاحتلال طوال أكثر من عقدين من الزمن. حتى سعد حداد نفسه الذي أسّس ما أُسمي «جيش لبنان الجنوبي» يختلف بعض أبناء مرجعيون حول أصوله التي تقول إنه من البلدة، فيما يشير آخرون إلى أنه وفد إليها وليس من صلب نسيجها «العائد إلى الغساسنة العرب»، وفق كتاب «صفحات من التاريخ - جديدة مرجعيون»، لمؤلفه المؤرخ الراحل هنري أبو عراج، ومن إعداد زوجته عبلا أبو عراج.

الكتاب نفسه يؤرخ لسيرة أهل مرجعيون الوطنية، من مقاومتهم للاحتلال التركي، إلى الاستعمار الفرنسي وصولاً الى مطالبتهم بالانضمام إلى الوحدة السورية، عبر ممثلي مرجعيون القس خليل الراسي والخوري خليل هزاز اللذين أسماهما «عشاق فرنسا» بـ «الخوري محمد والقسيس علي».

هذه المواقف توطّدت مع مرور الزمن وانفتاح مرجعيون على الأحزاب التقدّمية وعلى رأسها الحزب الشيوعي اللبناني في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، ثم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو ما يعتبره نائب رئيس بلدية مرجعيون ساري غلمية (نجل لبيب غلمية)، «أمراً طبيعياً في بيئة الروم الأرثوذكس العربية»، التي تنتمي إليها غالبية عائلات مرجعيون.

الجذور العربية نفسها، تنتمي إليها عائلات مرجعيون السنية التي تشكل نحو 15 في المئة من عديد أبنائها، ومعهم العائلات الشيعية التي تشكل أقلية في جديدة مرجعيون البلدة. وعليه، بقيت مرجعيون «روحاً واحدة وقلباً واحداً، برغم كل المراحل التي مرت عليها»، وفق تعبير أحد أبنائها «مع قلة تكاد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة قررت التعامل طوعاً مع الاحتلال».

حد الهجرة.. والإقامة

وما بين وفود الغساسنة إلى جديدة مرجعيون عبر حوران السورية منذ بدايات القرن السابع عشر، واليوم، تاريخ من الهجرات التي بلغت أوجها مع الحرب العالمية الأولى، وما زالت مستمرة، لتتجاوز أرقام المغتربين من أبنائها.. أرقام المقيمين. ومع رحلة مئة عام من الهجرة، على اختلاف مسبباتها، تفتقد مرجعيون حقبة الازدهار التي عرفتها في محطات سابقة، لكنها أبداً لا تخسر موقعها كمحطة أساسية بين البلدات الجنوبية المحيطة بها.

وفي مرجعيون اليوم مشهدان مختلفان حدّ التناقض: على جنبات طريقها الرئيسية التي تؤدي إلى ساحتها القديمة تتوزع فروع لأربعة مصارف يعود أولها إلى الستينيات لتحتفظ بالحركة المالية المصرفية الأبرز في محيطها. وإليها، يقصد صباحاً عدد كبير من تلامذة الجوار وصولاً إلى شبعا وحاصبيا (نحو الفي تلميذ على الأقل). وفي سرايا مرجعيون التي بناها أهلها في عشرينيات القرن الماضي، مركز القضاء وحركته الإدارية، وفيها مشفى رئيسي، وليس بعيداً عنه ثكنة الجيش التي تعود إلى بداية «لبنان الكبير». الثكنة التي شهدت ولادة الفوج العسكري اللبناني الأول عندما تسلم الجيش اللبناني المقاليد من الفرنسيين بعد جلائهم عن لبنان.

هذه الحركة تواجهها جديدة مرجعيون البلدة. بيوت قرميدية معظمها قديم ومستقل بحدائق وإن صغيرة نسبياً، مقفلة على ذكريات الذين تغرّبوا بالدرجة الأولى أو نزحوا نحو بيروت وجبل لبنان.

تؤكد ذلك طرقاتها الداخلية الفارغة تقريباً إلا من بعض مارة، ومصاطبها وشرفاتها، حيث تطل سيدة هنا تسقي ورودها أو متقاعد يقرأ جريدة الصباح هناك. و «من صغارهم تأتيكم أخبارهم»، إذ لا يتجاوز أعداد التلامذة من أبنائها في مدارسها الستة عدد أصابع اليد الواحدة إلا بقليل. حتى أن مسؤولة الجمعية المسيحية للشابات في البلدة ماجدة رزق خوري تؤكد أن هناك عشرة أطفال في حضانة الجمعية «ولا واحد منهم من مرجعيون». وتردف «كلما ولد طفل بمرجعيون نفرح ونحتفل». فمع ولادة هؤلاء، على قلتهم، يولد معهم الأمل باستمرار الحياة.

ستينيّ.. أصغر المقيمين

ويقول عضو الحزب الشيوعي سليم زوربا إنه «الأصغر بين المقيمين في مرجعيون». زوربا الذي أتمّ عامه الخامس بعد الستين لم يشأ أن يترك بلدته حتى إبان الاحتلال «نعم، بمقدورنا أن نلعب دورنا برغم كل شيء»، وفق ما يقول. ومع قول زوربا إنه صغير المقيمين الدائمين في مرجعيون لا يمكنك سوى أن تسأل عن مصير مرجعيون نفسها بعد بضع سنوات من اليوم.

يقول فواز خوري، الأستاذ الذي درّس في المدرسة الوطنية في مرجعيون منذ العام 1964 ولغاية العام 2006، مع فترة انقطاع خلال الاحتلال الإسرائيلي «ربما ستفرغ مرجعيون بعد وفاة بعض كبار السن الذين يسكنونها اليوم». ومن على شرفته في منتصف التلة التي تنتشر عليها مرجعيون، يشير بيده إلى البيوت من حوله : «هذا بيت فلان مهاجر، ذاك أيضاً، وذاك مثله، وها أنا أسكن هنا مع زوجتي في ما أبنائي ليسوا معنا».

لكن نائب رئيس البلدية ساري غلمية، ليس متشائماً إلى هذه الدرجة. يقول غلمية إن هناك إقبالاً كبيراً على رخص البناء في مرجعيون «نحو سبعين رخصة بناء وترميم على مدار العام، وهذا يؤشر إلى تمسك الناس ببلدتهم».

يقول غلمية إن 1200 نسمة تقيم في مرجعيون شتاء، وضعفهم صيفاً، في مقابل نحو عشرة آلاف نسمة على سجلات القيد. ويعيد نزوح أهل مرجعيون من غير المغتربين إلى عدم وجود فرص عمل ووظائف وجامعات في المنطقة الحدودية «وإلا فابن مرجعيون متعلق بأرضه، وليس هناك عقارات أو منازل معروضة للبيع».

بيئة حاضنة للتربية والتعليم.. والأحزاب

يقول المربي فواز خوري إن «نعمة العلم التي حلت على مرجعيون منذ منتصف القرن التاسع عشر مع وفود الإرساليات الأجنبية هي نفسها نقمة مرجعيون». فقد تعلم أبناؤها وهاجروا ونزحوا عنها. كما كانت «مدرسة المنطقة من رميش إلى شبعا وما بينهما، في زمن لم يكن هناك مدارس حتى ابتدائية من حولها، ومن ثم تكميلية وثانوية». ويعيد خوري انفتاح أبناء مرجعيون فكراً وممارسة وسياسة إلى المدارس الإنجيلية (1875-1880) والأرثوذكسية (أسست موسكو أول مدرسة ارثوذكسية في مرجعيون في العام 1890) والكاثوليكية التي «أدخلت فكر عصر النهضة وعصر التنوير في صلب مناهجها». كما كرست النهج العلمي والمعرفة العلمية التنويرية شكلت زاد أبناء مرجعيون وقيمهم الاجتماعية في سلوكياتهم وقبولهم وانفتاحهم على الآخر، وهو ما شجع المحيطين بها إلى إرسال أبنائهم للتعلم على مقاعدها الدراسية.

وتحوّلت مرجعيون بانفتاحها إلى بيئة حاضنة للأحزاب التقدمية، وشق الحزب الشيوعي طريقه بين أبنائها، ثم أعقبه الحزب السوري القومي الاجتماعي «وهو ما كرّس، مع تاريخ أبنائها العروبي، ممانعة عفوية ضد الاحتلال، وصولاً الى تفضيل البعض ترك مرجعيون على البقاء تحت الاحتلال»، وفق أحد أبناء البلدة من آل ديبا.

الاقتصاد الموازي للاحتلال

ويقول فواز خوري إن مرجعيون تلقت ثلاث ضربات كبيرة أثرت على بنيتها الاقتصادية تباعاً. الأولى، مع نكبة فلسطين حيث خسر أهلها أملاكاً كبيرة فيها ومعها إنتاجهم الزراعي الذي كان يجعل منها مركز توزيع نحو المنطقة المحيطة بها. أما الضربة الثانية فأتت مع نكسة العام 1967 حيث خسر قسم آخر من أهلها أراضيهم في الجولان ومعها مردودهم منه. ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي في العام 1978 ليهجّرهم من أرضهم نفسها.

ولكن مرجعيون عرفت ازدهاراً اقتصادياً خلال الاحتلال برغم نزوح أهلها عنها أو هجرتهم للخارج، وهو ما يعرف خلال الحروب بـ «الاقتصاد الموازي». ويقول سليم زوربا الذي كان وما زال يمتلك محلاً لبيع الألبسة في ساحة مرجعيون، أن البلدة «امتلأت بالقادمين خلال الحرب الأهلية من شرق صيدا وجزين، خلعت ميليشيا لحد أبواب منازل «المرجعيونيين» وأسكنت القادمين. ومع الاحتلال وميليشيا لحد وانخراط العديد من أبناء القرى المحيطة فيها مع ميليشيا لحد والعمل في فلسطين المحتلة، كما ازدهار حركة التهريب الحدودية، بالاتجاهين، عادت مرجعيون مركزاً اقتصادياً مهماً في المنطقة». كان صندوق زوربا وحده على سبيل المثال لا الحصر، لا يقفل أيام الأعياد على أقل من خسمة آلاف دولار يومياً. «بالكاد تصل المبيعات إلى مئة ألف ليرة لبنانية يوميا في أوج العز، يقول زوربا الذي يسكن وحيداً في بيته «عائلتي أنا مثلاً تسكن في بيروت، حيث يتعلم الأولاد ويعملون، ومثلي كثر».

سيدة الشال: «لن أترك مرجعيون»

بالقرب من ساحة مرجعيون، لا تزال السيدة السبعينية تعقد شالاً لطيفاً على عنقها برغم الجو الحار. الشال يخفي ألماً ما زالت ندوبه واضحة وإن أضحى اليوم ذكرى. خلال فترة الاحتلال، اقتحم دارها عناصر لحد يبحثون عن مقاومين شيوعيين إثر محاولة سهى بشارة اغتيال انطوان لحد. يومها أمسكها أحدهم من عنقها محاولاً خنقها لتحفر أظافره جروحاً ما زالت بائنة حتى اليوم. لم تغادر تلك السيدة مرجعيون، لا قبل الاحتلال ولا خلاله، حتى أنها لا تقبل بزيارة أبنائها في غربتهم أو منازل نزوحهم في بيروت «لن أترك مرجعيون، أنا من الجيل الذي سـيموت هنا، بين هذه البيوت الحجرية الجميلة»، تقول.

تعليقات: