أسطورة المهاجر اللبناني الناجح في جميع أبعادها وصورها


شريف مجدلاني يسرد في روايته الجديدة قصة جدّه المغامٍر:

من النادر أن تُصدِر دار نشر فرنسية مهمة روايةً ثانية لكاتبٍ أجنبي إن لم تلق روايته الأولى نجاحاً، مما يعني بيع عددٍ محدَّد من نسخها، إلا في حال طرأ على نصّه الجديد تطوّرٌ لا يمكن تجاهله. وينطبق هذا الأمر بدون شك على الروائي اللبناني الفرانكفوني شريف مجدلاني. فبعد روايةٍ أولى صدرت عام 2005 لدى دار "سوي" (Seuil) بعنوان "قصة المنزل الكبير"، وأثبت فيها تمكّنه من النوع الروائي، لكنه بقى كلاسيكياً في حبكته وأسلوب كتابته، ها هو اليوم يطل علينا بروايةٍ جديدة لدى دار النشر ذاتها بعنوان Caravans?rail، لا تقل كلاسيكية عن الرواية السابقة، لكنها تعكس تطوّراً مثيراً في قدراته الكتابية، يتجلى في تلك المهارة اللافتة على مزج الواقع بالخيال، وفي خطابه السردي المكثّف بأبعادٍ سوسيولوجية وسياسية وتاريخية ومسارّية.

ومنذ السطور الأولى، يقر مجدلاني بأن مصدر هذا النص هو صورة قديمة لجدّه المغامِر، صاموئيل أياد، تعود الى تلك الحقبة المجيدة من حياته المليئة بالأحداث والمآثر، كما يعترف بأنه، باستثناء بضعة صورٍ قديمة، كل ما يعرفه عن هذا الجد "الشهير" مبالغٌ به أو متخيِّل، وبالتالي لا يمكن تأكيد أي من القصص الكثيرة حوله. أما ما سيقوده الى إعادة ترتيب وحبك جميع التفاصيل التي سمعها بشكلٍ مبعثر ومجتزأ على لسان والدته، وإلى ملء الفراغات فيها، فهو طبيعة تلك الصورة التي يبدو فيها جدّه جالساً وكأنه يستحضر في ذهنه ما لن يراه حفيده أو يسمع به.

في البداية نظن بأنها رواية أخرى حول مهاجرٍ لبناني، خاصة بعد رواية أمين معلوف "أصول". لكن بسرعة نلاحظ بأن المهاجر المقصود ليس كسائر المهاجرين اللبنانيين الأُوَل الذين غادروا وطنهم بين عامَي 1880 و1930 سعياً وراء الإثارة والثروة والمجد، وبأن الرواية، في الوقت ذاته، هي بشكلٍ ما رواية كل واحد منهم نظراً الى عدد اللبنانيين الذين سنتعرّف عليهم، شخصياً أو عبر قصصهم المثيرة، أثناء رحلة مغامراته. فعام 1908 أو 1909، يغادر صاموئيل أياد لبنان متوجّهاً ليس الى الولايات المتحدة أو البرازيل ولا الى هاييتي أو الصين، بل الى السودان الذي كان يوفّر فرصاً هائلة للشبان اللبنانيين المستغربين الأنغلوفونيين. إذ كان الجيش البريطاني يستعين بهم في تلك الفترة كوسطاء بينه وبين السكان المحليين. وفي الخرطوم، ثم في مقاطعة قردفان، يتأقلم صاموئيل بسرعة على الحياة الرغيدة داخل المحميّات البريطانية وبرفقة ضبّاطها الذين سيتبنونه بسرعة نظراً الى لغته الانكليزية الدقيقة وثقافته العربية الواسعة. وفي هذا السياق، يتعرّف على الكولونيل مور، تلك الشخصية الرومانسية المعقّدة التي حلمت بالشرق طويلاً قبل أن تأتيه مع الجيش البريطاني فتقتبس طريقة عيش باشا أو بك وتنقذ حياة قائدٍ محلي متمرّد كي تمنحه فرصة الاستعداد لهزيمة مشرِّفة، في حين أن مهمتها القضاء عليه وعلى ثورته عند أول فرصة ممكنة.

مهمات

وبفضل هذا الكولونيل الذي سيوكّل صاموئيل بمهماتٍ عسكرية ودبلوماسية كثيرة ينجح في تنفيذها، يلمع نجم هذا الأخير في المنطقة فيُلقّب "بالسلطان الأبيض" ويُنظَر إليه كالرجل المكلّف تنفيذ السياسة البريطانية في المنطقة. وأثناء تسلسُل مغامراته المثيرة في مقاطعتي دارفور وقردفان، تتوالى قصص اللبنانيين، على لسانه أو لسان محدّثيه، كقصة تاجر العبيد اللبناني الذي كان يعمل برفقة رجل فرنسي كان شاعراً من قبل (رامبو)، أو قصة السمسار جورج خيّاط الذي أصبح من أكبر متملّكي العقارات في الخرطوم، أو قصة لبناني من عائلة صوّان كان يعيش في بريطانيا وورث ثروة طائلة لتغييره اسم عائلته الى "شاون" بضعة أيام قبل أن يتوفى آخر فردٍ من هذه العائلة الاسكتلندية الثرية. لكن أفضل القصص تبقى قصة شفيق أبيض الذي اشترى في طرابلس الغرب قصراً كبيراً فكّكه الى قطع وحمّله على ظهور الدواب وراح يدور به في جميع ممالك المنطقة بحثاً عن مشتر، قبل أن يقع على صاموئيل بالصدفة فيُشاركه في هذا المشروع المجنون ثم يشتري القصر منه ويقرر الانتقال به الى ... لبنان!

وبالفعل، بعد إنجاز مهماته وعيشه مغامرات كثيرة وثرائه، يشتاق بطلنا الى رائحة شجر الصنوبر في قريته، سوق الغرب، وإلى نسيم بيروت الصيفي، فيقرر العودة. لكن الأمبرطورية العثمانية كانت تتحضر آنذاك للدخول في الحرب الى جانب ألمانيا، الأمر الذي سيعقّد تحقيق مشروعه ويدفعه الى الاستقرار في القاهرة ريثما يعثر على وسيلة لبلوغ لبنان. وهناك، يزور أصدقاءٌ قدامى لوالده، مثل خليل تابت، أحد أعلام النهضة العربية وصاحب جريدة "المقتطف"، والشاعر الغنائي خليل قربان الذي يُشيع خبر وجود "السلطان الأبيض" في القاهرة، في جميع نوادي وصالونات اللبنانيين الراقية، الأمر الذي يُشرّع له أبواب فيلاتهم الفخمة ويمنح الكاتب فرصة للقيام بوصفٍ دقيقٍ لمدينة القاهرة التي كانت وحدها آنذاك قادرة على مقارعة باريس وفيينا في مستوى حفلاتها، وللطائفة اللبنانية الفرانكفونية التي كانت تعيش فيها، بمواقعها المهمة وإيقاع حياة عائلاتها الكبيرة، مثل آل سوسه وسكانيني ودبّاس وصبّاغ وكنعان.

وفي القاهرة تخطر لصاموئيل فكرة الوصول الى لبنان (مع قصره!) عبر الجزيرة العربية حيث كانت الثورة قد انطلقت ضد الأتراك، فاتحةً بذلك الباب للحلفاء. ومرة أخرى، يظهر الكولونيل مور، برتبة جنرال، ليساعد صاموئيل في رحلته عبر تكليفه بمهمة وهمية الى جانب الأمير فيصل ولورانس العرب. لكن ما أن يبلغ الصحراء حتى ينطلق في سلسلة مغامرات لا تقل إثارةً ومآثر عن مغامراته في السودان، وتشكّل بدورها فرصة للكاتب لوصفٍ دقيقٍ وجميل للأماكن التي سيتجوّل فيها جدّه قبل بلوغه مدينة راشيا اللبنانية: الصحاري، الجبال، الوديان، الواحات، في ساعاتٍ مختلفة من النهار أو الليل، ولكن أيضاً ناس هذه البقاع بعاداتهم وتقاليدهم.

ولعل أحد مصادر قوة هذا النص الروائي تكمن بالتحديد في ذلك المسح السوسيولوحي والسياسي والتاريخي الذي يواكب تنقلات بطل الرواية في أنحاء السودان ومصر والجزيرة العربية، انتهاءً بسوريا ولبنان أثناء تلك الحقبة التاريخية المهمة، فنتعرّف على ذهنية العرب آنذاك ونظرتهم الى واقع الحال في ديارهم وإلى النفوذ الأوروبي المتنامي فيها، كما نتعرّف على ذهنية المستعمر البريطاني، من داخل محمياته العسكرية التي اختبرها صاموئيل، وعبر ضبّاطه الذين عاشرهم عن قرب. لكن قيمة النص الأولى تبقى، في نظرنا، مهارة مجدلاني في استخدام صورة جدّه ورحلة مغامراته الشيّقة لتسليطه الضوء على قدرة اللبناني على التأقلم أينما وُجِد في العالم، نظراً الى غنى هويته بخصوصياتها التاريخية والدينية والثقافية، وبالتالي على لعب دور الوسيط المميَّز بين الغرب والشرق، بدون أن يعني ذلك ازدواجية في الانتماء. فاستغراب صاموئيل وعمله مع الجيش البريطاني لم يُنسياه إطلاقاً جذوره وقيَم مجتمعه الأوّل. وهذا ما بالتحديد ما سمح له بإنجاز ما أنجزه طوال رحلته خارج بلده. من هنا بُعدٌ مسارّيٌ أكيد في الرواية يشهد عليه تطوّر شخصية صاموئيل بشكلٍ دائري، من شاب لبناني مُستغرِب يعمل كضابط ارتباط مدني داخل الجيش البريطاني، الى "سلطانٍ" عربي في السودان، تقوده رحلته بشكلٍ غير متعمّد الى أرض أجداده في الجزيرة العربية، قبل أن يعود الى لبنان حيث يكتمل قدره بلقاءٍ رومانسي مثير...

تعليقات: